بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

10 حزيران 2022 12:00ص أيها الكلام فارحل عني!

حجم الخط
كنتُ حينما أفكّر في الصمت استعجبُ الكلام. كثير هذا الكلام! سمٌ، عسلٌ، طبقٌ، وذباب. ما أكثر الذباب! كأنّه يقتات من ألسنتنا ويتكاثر بين لفائف أدمغتنا. ذباب ازرق رمادي أسود، وذباب بلا ألوان.  لماذا يتكلّم الإنسان؟ يعذّبني الهواء الفارغ الذي تموّجه نحو أذنيّ هذه الحجرة الصغيرة المعلّقة في أعناقنا: حجرة الصوت. حنجرة البكاء والاستغاثة والجحود، والصراخ ليلاً من الألم. لولا يخرج الحقدُ نفساً كريها من أفواهنا لووري في الصمت البعيد. ولولا أن نعجل بالترائي خداعاً لأنفسنا وللناس، لكان صمتنا القريب عبادة خالصة لله. ولولا إسرافنا في القول كأنّ أبصارنا بطريق الهدى حفيّةٌ، لنام الكلام في أسرّة الصمت طفلاً رضيعاً. ما لهؤلاء الناس يقوون على الكلام وعليه يستولون كما الأنعام؟ ما لهم لا يخشون الكلمة؟ ولا يقيمون في الأنام ميزانها ولا في العقل موازينها؟ ولا يعلمون أين مبدأها وأين مستقرّها؟ يأتون على الكلام عنوةً وبطشا تملأهم الشهوة ويزكّيهم الهوى؛ فلا يغادرون حديثاً إلا ولسيوفهم فيه جرحٌ لا يستطيب، وحبلٌ لا ينوصل. الكبْرُ في سكونهم وفي حركاتهم كبْرُ. والصمت عنهم غريب. أيتها الأصوات الشيطانية فارحلي عني سريعاً. بُعْداً لك. ويا أيها الصمت الملائكي اقترب مني أكثر. التحفني صفراً على يمينك، واصعد بي كلّ أبّهة لا يخبو سرّها. وأنت أيها البحر ماذا تفعل هناك في الأعالي؟ أراك تزبُد كآخر صرخة في هذا الوجود. ستغرق فيّ هذه المرة. أوسع منك أنا الآن. لأنني لا شيء إزاءك أنت الممتلئ ظلاماً. سيفرغ هذا العالم. سأفرغ أنا منه. وأنت أيتها المفازة الخاسرة أكثر منك سراباً سأكون. وأنت أيها الجبل المكلّل بالعزلة أنزل عليّ شهداءك كي أسمع للصمت حفيفاً نحو السماء. وأنت يا نجوم خذي مني حبري وسهدي، وعبْرةٌ لي بين جفون الليل خذيها سرّاً، وعلقي قلبي بعيداً بعيداً. يجوع قلبي على موائد الكلام ويأبى إلا صمتا لا  تنحني لغيره منابعه.
أخبار ذات صلة