في السّقف أجراسٌ تُناديني بألوانٍ مختلفة. أصواتٌ تُحدّق بي كلُغزٍ بين وتَرَيْن لدوديْن. غرفتي يثقبُها الوقتُ الجّارف، وسريري موجةٌ تتكسّرُ فوقَ صخرة الليل. أفتحُ نافذتي ليحشرَ النّهارُ أنفَه بين أوراقي المعتِمَة. طاولتي تتصبّب حبرًا لكنّ يدي حمامةٌ جريحة. فنجان قهوتي لا يزال مُضيئًا ولو لم تمسسْه شفتاي. السّعال الخفيف في رئتي يطردُ ذبابةً تحكّ بأفكارها جلديَ الجاف. ألاعبُ الهواء بدوائر من سيجارتي الصّامتة. أتناول كأسَ ماء بارد. أفرّغُه في ذاكرتي العطشى. الشّارع في الخارج يخنقُني بالزّحِام، يُشتّت رأسي بإشارات مُرورٍ غامضة. كيف تصدِم حُبًّا على الطريق السّريع للحياة؟ تقتلُه بألمٍ عظيم كأنّك تنزعُ مسمارًا عنيدًا من اللّحم؟ عشر دقائق في دمي تلسعُني لأستوفيَ من النّحل أغنيةً للحقل. وتمرّين بجانبي كظلّ لقصيدةٍ وعْثاء، كفرحٍ غابر في أدراج الرّوح، وكأرجوحةٍ لقلبٍ تائهٍ بين صفحات الشاطئ الممحيّة. لعلّي أخرجُ هذا المساء كنجمةٍ فضوليّة. أراقبُ النّاس من خلف وشاحٍ أسود عريض. أُضيء للكلام البشريّ الطويل طريقَ المقبرة. أو لعلّي أمكثُ هنا، في مكاني القديم، كقطّةٍ خائفةٍ تلفُّ حول جسمِها ذيلَ حُلْمِها القصير. هل تذكرينَ حينما جاءَنا المخاضُ في هدأة الحبّ، ونظرنا إلى أنفسنا كلٌّ من جهته: أنت جهة الأقحوان، وأنا جهة البنفسج. وكان الأوركيد الأزرق يُعتّق الفضاء من حولنا بابتساماتٍ بعيدة عن وجهينا؟ يومها قلتِ لي كلامًا لم أفهمْه عنكِ وعنّي، وعن صباحاتٍ مزّقها الضّجر. وقلت لكِ وأنتِ تكنسين ما علِق من انتظارٍ في ثوب رحيلك: غدًا تحملنُا أجنحة الحزن فوق مصائبنا، وغدًا نقتسمُ العالم سرًّا فوق قُصاصة أملٍ، ونبني هرمًا لنا من نعاس العشب قرب النّبع. لا مواعيد ستفوتنا بعد اليوم، ولا سفر سيحمل دموعنا في حقيبة، ولا كلام سيشهدُ على قلبيْنا في معارج الصمت. لي منكِ ما يتبقّى منّي بعد أن أنسى أناي، ولكِ منّي كلّ محاولاتي الضّائعة، وظلالٍ فوق جدران الأبجديّة، ولكِ زهر البدايات في الشّارع الطويل لاسمي. أغلقتْ مدرستي على كتابها الشتويّ حكايات الصّغار. وبقيْتُ وحدي صغيرًا بما يكفي لأمشي بين صفّ العصافير تحت المطر ومقاعد الياسمين على الشجر، في يدي خصلةٌ من ذكرى وفي أنفي رائحة من بكاء. عندما يذهب الحبُّ، يذهب معه الحبيبان كلٌّ إلى جهته: أنت جهة السنابل وأنا جهة الشمس!