بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

12 كانون الثاني 2024 12:44ص المرايا الهاربة

حجم الخط
 لا تنامُ المرايا ولا تشيخُ ذاكرتُها. أُطِلُّ على بئر ظلالها المنسِيَّة بين العتبات، وأسألُها عن وجهٍ فاتَ موعدُه مع الجُرْح. أُلقي فيها وجهي عند كل صباح، وأنتظرُ صدى ابتسامةٍ على حافّة خيالي المهشَّم بمطرقة الغياب، والوقتُ من حولي يتناثرُ كقطع الزّجاج، كلّما رفعتُ إلى ذاكرتي كأسَ الملامح الفارغة. تهربُ منّي المرايا إلى المرايا، والصّورُ المكدّسةُ فيها كالملح، تتكسّرُ كموجةٍ فوق صخور العتمةِ في يديَّ. تخيبُ ظنوني، فأعودُ إلى ضفاف الضوء الخجول حول خاصرة الأشياء القليلة المتبقّية تحت خيمة قلبي، وهي تقاومُ أنيابَ الصحراء، وصرخةَ النسيان في حنجرة العاصفة. أوراقٌ أمسَحُ الوردَ الأصفر الذابل عن جبينها، محفظةٌ خاليةٌ من الأيام، بعض صورٍ فوتوغرافيةٍ تجمّدَتْ على كلمة غير مسموعةٍ للواقفين خارج كادرها الهزيل، وكارت بوستال يشقُّ طريقَ الحبر أمام المتسلّقين نحو قمّة الذكرى. كلُّ شيء أمامي يحتاجُ لعنايةٍ فائقة بالزمن، لترميمٍ عاطفيّ باهظ، ولانتظار خُرافيّ في باحة الفراغ. كأنّي على جبهة الغبار أُحاربُ أمداً، ولا أميّزُ بين نصرٍ وهزيمة. وأنا وحدي لا سلاح عندي غير دمي والقلم. أوقظُ الكلماتِ من سُباتها الأبيض، وأمشي خلفَها كراعٍ طريدٍ، يبحثُ عن الفجر ليستريح في فَيء حديثه النديّ. وأطرقُ أبواباً نائمة على نعناع شفاهها المقفلة، وأتتبّعُ حفيفاً لشجرٍ غرقَ في بحرٍ صيفيّ من دخان. موسيقى التراب تمدُّني بأوتارٍ رطْبة، أعزفُ عليها حكايةَ الغريبِ للغريب. وتمرُّ المرايا في مواكب الوجوه، فلا أتعرّفُ على وجهي، ولا يتعرَّفُ عليّ. ومثلَ قطارٍ سريعٍ أفوتُ على محطَّات نفسي القريبة والبعيدة، فلا أجدُ إلا مسافراً واحداً، يقرأُ جريدةَ الأمس، ويخافُ التحديقَ في عيون النّهار. وتأخذهُ الحكايةُ إلى عُرْسِها المسجَّى في رَدَهات الروح، فينكسرُ الليلُ بين أصابعه مثل جرّةٍ من أحلام. لكنّه يمضي إلى الكتابة بلا رجوع، كأنّ أغنيةً تقوده من ذراعه الخفيفة نحو اليابس في ذاكرته. الحديقةُ سرُّ الوردة يقول: سأعيدُ إليها فضاءها الذهبيّ، وعصافيرها الماضية. سأُلملمُ كحلَها عن غيمٍ عجوز، وعطرَها عن أجنحة النحل في دمي. وعندما أنتهي من ترتيب ظلالها، وتقليم أوجاعها الطويلة، سأصالحُ خيبتي إلى الأبد. سأخبّئ الوقتَ بين السطور، وأسبحُ في لا نهائيّةٍ بيضاء، مثل رف حمامٍ يمسحُ بيقظةِ أجنحتهِ الأفق الأسود. والعابرون سياجَ الصّمت العالي إلى حديقة الكلام المعافى من وطأة التفاصيل، سيسمعون خريرَ الغياب، وهو يَعْبُرُ جدار الصوت كبرقٍ هائلٍ بين الضلوع. تفرُّ المرايا منّي، وأمكثُ هنا كظلٍ مقطوع، أنتظرُ وجهي كي يعودَ إليّ.

أخبار ذات صلة