بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

9 حزيران 2023 12:55ص خلف الزجاج

حجم الخط
وأذكرُ أنّي عرفتُكِ من خلفِ الزجاج. كانت روحُكِ ناصعةً، وجسمُكِ متوهِّجاً في ليلهِ العفويّ. وكنتِ تبحثينَ عن شمسٍ صغيرةٍ، تكنُسينَ بها برداً تكوّمَ أسفلَ سنينكِ المرّة. وظهركُ كان أبيضَ كحمامةِ الصّباح، في وسَطِه وردةٌ من ريحٍ وظلّ. وكنتُ أبحثُ عن ليلٍ غريبٍ يُشبهُ عينيْك الحائرةِ كموْجٍ، أسمعُ انكسارَ ريشَتهِ على قوْس الصّدىَ، وهو يُلوّنُ يديْكِ بالملح الحيّ وبالرغباتِ الغارقاتِ كالعرائس في الزَّبد. وكنا نتعلّمُ كيف نروّضُ المسافاتِ الطريدةَ بيننا. أنا في الهواء الطلْق، أرمّمُ أجنحةَ الفراشات المنهَكة من الحُلْم. وأنتِ في مخيّلةِ الزجاج الواسعة، تُرتّبينَ الفضاءَ بأناقةٍ، كي يكون جاهزاً للعرْض. وكان عالمكِ صامتاً بلا كلمات، مُكتفياً بحصَّتِه من النظراتِ الدّبقَة، ومن خيالاتٍ تُكوِّرُ الفراغَ المتوثِّبِ بأصابع الشهوة الماهرة. وكان المكانُ عابقاً بأسرارٍ نازفةٍ ومعلّقةٍ كقوْسِ قُزحٍ جريح. وكنتِ تَجهشينَ بالذكرىَ كلّما مشَتْ إليكِ على حبْلِ صوتي الرخيم كلماتٌتحملُ سلالَ الضوء المقطَّرِ عِنباً إلى عتْمةِ سمائكِ الغامضة. وكنا نُطيِّر حمامَ وجهيْنا فرَحَاً بوردةٍ خضراءَ بين أنقاضِ النّهار، ومن اللّيلِ نختلسُ نجمةً فضوليةً بين شفَتيْنا. وكنا مثلَ طفليْن يعبرُ النّهرُ الرّقيقُ قلبيْهِما الحافييْن بدَهْشةِ الضِّفاف. وأذكرُ أنّ أوّلَ اقترابٍ كادَ يَجرفُنا ولمْ نتعلّم بعدُ النجاةَ بالصفْصاف. وقلتِ لي: ما أبعدَ السّماءَ عن يدينا! وسألتِ: ما للقمرِ لا يُحرّكهُ حزنُ ياسَمينِنا؟ وحين نهضنَا عن صخرةِ التمنّي العرْجاء، نزعنَا أقدارَنا اليابسةَ وسبَحْنا عراة. وكان شعرُكِ تيّاراً من أغنياتٍ للعُشّب المتيَّم كالوقتِ بالجريَان، يأخذُني إلى حَاراتِ العذوبةِ في مدُنِ طفولتي البعيدة، وإلى المساءاتِ المعلّقاتِ كالقصائد على أسطُحِ المجازات الأولى. وكنتِ نَزَعْتي قُصاصةً من صدْري المكشوفِ كأجنحةِ الخيال، وقلتِ: أتكتُبُ؟ قلتُ: لأدرّبَ نفسي على نفسي. وغرقنَا معاً في لجّةِ الوقتِ، فالتفّتْ غصونٌ بيننا، واستفاقَتْ عصافيرٌ على كُحلِ يدَيْنا. وكان البابُ يشهدُ ضآلتَنا في النّار، ويسدُّ علينا الخروجَ إلى النبْعِ ظلالاً بيضاءَ لشجر الولادة. وأذكرُ أنّي قرأتُ لكِ ليليْنِ في دفتري، وقمراً ناهداً في كفيَّ. وضَحكتي طويلاً من زغزَغةِ التّوتِ في كلامي المصفّىَ على خطْوِ النايات، يرقصُ كخيلٍ فوق جسْمِكِ العاري من شبُهَةِ الكنايات. وقلتِ: علّمني الحبّ، فأنا لست مثلك. لي منهُ وجعٌ يُنسيني وقْعَ الكلماتِ تحت المطر. قلتُ لكِ: لكنَّ الحبَّ ليس أمثولةً لضمَانِ الحياة، أو تخفيف الألمْ. الحبُ عبورٌ في غابة، أو سقوطٌ من سحابة، أو ربما الحبُ استعارةُ حُلمٍ من الرخام، فهل تريدين أن أخبرَكِ عنه أو عنّي. قلتِ: ألم تُجرّب الحبَّ من قبِل؟ قلتُ: جرّبتُه بالطبع. قلتِ: وكيف وجدّته إذن؟ قلتُ: لا يزالُ تحت التجربة. لم تفهمي حينَها مُرادي. لم أجدْ حاجةً لأكون أقلّ غموضاً من الأقحوان. نَظرْتي إليَّ باستغرابٍ، وألقيتِ صمتاً في الأرجاء، ثمّ رأيتُ عرّيَكٍ يخرجُ من المرآةِ بخفّةِ الزّنبق. وقُلتِ بصوتٍ متكسِّرٍ كجدار الحليب: أَغلقْ نافذةَ السوْسَن في قلبي؛ ولنرحلْ الآن. وغادرَ كلٌ منّا الآخر. أنا إلى فراشاتي المريضة، وأنتِ إلى زجاجِك الوفيّ.
أخبار ذات صلة