بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

18 آب 2023 12:00ص عشق الحدود!

حجم الخط
مذْ تعلّمتُ مبادئ السفر وارتدّت مسالك الخطر محمولاً على أمواج الأفكار المتلاطمة حيناً والرائقة حيناً آخر، لم ألتفتْ إلى الوراء أبداً تحسُّراً على ما قطعْتُه من صلاتٍ نفسيّةٍ لي مع الشاطئ. وما كنتُ لأخشى على نفسي ضياعاً ما دمتُ محتفظاً بغريزة الحدود لا تفارقُني مُطْلقاً حتى في أشدّ اللحظات عواقب حين يبدو المشهدُ وسط اليمّ مفتوحاً بكليّته على اللاحدود. فقد كنتُ أراني قادراً عند كل مغامرةٍ من مغامراتي التي أخوضها مع البحر على الاهتداء ثانيةً إلى اليابسة، فأرسمُ فوقها حدودي الجديدة من غير عناء أو تخبُّط. فأنا أستريحُ وراء الحدود وأجدُ فيها ضالّتي. هكذا كنتُ أصطَنِعُ حدوداً لكلِّ شيء حتى من قَبْلِ أن أظفرَ بها على التّحقيق؛ لأنّ نفسي تأبى غير هذا الموْضِع كي تستقيمَ فيه أحوالُها وتتّسقَ عندَهُ آمالُها على قدْرِ ما لها من الاستطاعة في البحث والتفكير وما لديها من طاقةٍ تبذلها طوعاً في سبيل الترقّي في مراتب وجودها. وكانت أولى الحدود التي ألزمَتْني على رضى كامل منّي ما يتعلّق بالصِّدق وما يتفرّعُ عنه من قضايا وعبارات تجري مجرى اللسان في الاجتماعات والأحاديث العامة. ما حدودُ ما يتوجّب عليَّ تصديقُه أو إيقاعُه موقعَ اليقين في عقلي من غير تشكّكٍ منه أو تململٍ من إخفاء أمرٍ عنه، قد يُطيح به بحال انكشفَ وجههُ وظهرَ فسادُ مَنْطِقه؟ كنتُ أستغربُ هجومَ الناس على الصَّدق في كلّ ما يُرمى عليهم من أخبارٍ وأقوالٍ أو ما يُحاك لهم من ألبسةٍ منطقيّة واهيةٍ لا تقيهم صقيعَ العقل. ومع أنّ تصديقَهُم في أشياء أكبرُ من تصديقهم في أشياء أخرى، إلّا أنّ ذلك لم يفتحْ عيونَهم قطّ على ما يقومون به في كلّ مرّة كانوا يأخذون فيها شيئاً على مَحْمَل الصِّدق من غير أن يتبيّنوا فيه على وجوه مناسبةٍ من التأمّل الوسيْع والتقصّي العميْق. ولا أدري من أين جاؤوا بهذه الهمّة التي لم أكنْ يوماً من أصحابها: أن أُسارع في التصّديق عن غير تبصُّر في ما يُعرَضُ عليَّ، لكأنّي آلةٌ جاهزة لبرمجتها مع كلّ عابرِ فكرٍ من أيّ نوعٍ كان. ولستُ أجانبُ الصوابَ في شيء إن قلتُ بأنّ الفكر الدينيّ على وجه الخصوص يجذب إليه، أكثر ممّا يفعل غيره، هذه الشريحة من الناس المتعجّلين في الحصول على قناعاتٍ أحسَبُ أنّهم يتستّرون خلفها أكثر ممّا يلبسونها عن حقّ. وهم في ذلك لا يغادرون بأيّ حالٍ ساحةَ التعويض النفسي حيث يتلقون جرعات من الأمل تشدّ أزرهم في ما هم عليه حتى ولو كانوا على خطأ أو ضلال مبين. من جهتي فقد كنتُ كثير الارتياب بما يُلقى على مسامعي أو بما تقع عليه أنظاري في الكتب والمقالات. فالصِّدق شيء عزيز عليَّ. ولكم وجدني الناس من حولي مغالياً في هذا الطبع المخالف، ولكم أمطروني بوابلٍ من النصائح للتخلّي عنه وعن الفلسفة، والدعاء لي للرجوع إلى ما عليه الناس من يقين فطريّ. وأذكرُ أنّي كنتُ أقابل هجمتَهم عليَّ من أجل كسر موقفي أو هبّتهم نحوي من أجل نجْدَتي، بشيء من العناد في الظاهر واللين في الباطن، إذ كنتُ حين أختلي بأفكاري أقلّبها على نار أتحسّسُ حرارتها تسري في كامل كياني، وأمضي ليلتي قائماً على ظنونٍ مختلفة حتى يَطلُعَ نهارُها فأخلدُ إلى طبْعي هانئاً. تقليصُ مساحة الصِّدق في حياتي كانت هدفاً لطالما سَعيْتُ إليه. هدفُ سيمتدُّ لاحقاً نحو الأشخاص بعدما استقرَّ طويلاً بين الأفكار. لكأنّي كنتُ دائمَ الحفر تحت الشيء كي أبلغَ إلى هشاشة بُنيانه؛ فأُصبحُ بذلك مُستعداً لقبول انهياره في أيّ وقت كان. 
أخبار ذات صلة