بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

5 أيار 2023 12:07ص ما زلتُ شجرة

حجم الخط

وكنت سَكنْتُ إلى شجرةٍ ماتَ ظلُّها منذُ خريفيْن. فتحَتْ لي قلبَها، وفتحْتُ لها قلبي. تحدّثنا طويلاً عن الهواء، والضوء، والماء، والغبار، وعن أوراق العُمْر الملوّنة. وأسرَّتْ لي بأحلامٍ غريبةٍ راودتها عن وقوفها المديدِ على رصيف الأبديّة. قالتْ: رأيت نفسي أجلسُ على هامش حديقةٍ نائية لم ازرْها قط. وجاءتْ الرّيحُ ولم تعرفْني. واقتربتْ السناجبُ ولم تتعرّفْ عليَّ. ومرَّ من أمامي المتنزّهون ومضوْا غافلينَ عن وجودي. والعصافيرُ ظلّت تحدّقُ بي ولم تقتربْ مني. ففي عيون الجميع ما عدتُ شجرة. ربما كنتُ صخرةً لا تأمرْها الرّيحُ بواجب التحيّة. أو مقعداً خشبيّاً متروكاً للصّدى، لا يفيدُ السّناجبَ بشيء. أو جسماً مُريباً يخيفُ العصافيرَ من حسَدِ البُندقيّة. أو ربما بدوْتُ كعجوزٍ مكسورةِ الخاطر، لم يُعرْها أحدٌ من المتنزّهين وقتَه. وحدي كنت أعلمُ أنني ما زلتُ شجرةً بكامل شجونها. وسرَّني أنْ كنتُ في منامي حرةً، طليقة. لا سماءٌ تنظرُ إلى قامتي لتمْتَحنّي. ولا أرضٌ تُكْرهُني على الانتظار لأحرسَ دورانَها الهذَيانيّ. ولا إنسانٌ يحضُنني ليتدفأ بدمي. ولا نهرٌ أفركُ ظهرَهُ عنوةً، بفيئ يديّ. لكنْ هالني ألاّ يعرفَني أحدٌ؛ كأنّي يوماً لم أكنْ. وبدأت أتحسّسُ وطأةَ الزمن في عروقي. هل أُتابعُ جلوسي الغامض أم أقفُ ثانيةً فينكشفُ أمري لكلِّ من حولي؟ أم أزحفُ على بطني؛ فأصيرُ ظلاً لجلّاد عابرٍ، ربما يخطفُني ثم يرميني في زنزانة؟ وكانت الحيْرةُ تنقرُ عظامي كالسناجب، والأسئلةُ تَبري كياني كالرّياح. ووجدتُ نفسي بعد فترةٍ عاجزةً عن الاختيار. وتجمّدَ رأسي تماماً. إنْ أحنيْتُه خسرتُ نفسي، وإنْ رفعتُه خسرتُ حرّيتي. وصرختُ بأعلى صوتي: هل من سبيلٍ لأطردَ أشباحَ الخسارة عنّي؟ كان التزحزحُ عن النّار باتجاه إحدى الضفّتيْن عسيراً عليَّ. وشعرتُ لوهلةٍ أنّ ما يُطرحُ عليَّ يفوقُ قدرتي على الاحتمال. فلا الوقوفُ في باحةِ الأبديّة كان فيه خلاصي، ولا الجلوسُ في كرسيِّ الزّمن كان فيه نجاتي. ولا نفسي بما هي عليه تُعجبُني، ولا بما خرجتْ عليه تمرّداً نفعنَي. فأيُّ الأشياء عليَّ أن أكونَ، كي أستريحَ من هذه الهموم؟ وكان الحبُّ يَنقُصني وسط هذه الفوضى المندلعة؛ فيزيدُ حاليَ تعقيداً. أيُّ الأشياء أحبُّ أن أكونَ أو أصيرَ؟ أُسائلُ نفسي كثيراً، وأجدُني صامتاً مثلَ أيّامي الخالية. وألومُ عليَّ، لماذا حدّثتُك يا نفسي؟ لماذا قصمْتُ مرآتكِ نصفيْن؟ ولماذا أفرغْتُ كأسَكِ المترعة لأملأهُ ثانيةً؟ وكيفَ لي أن أفعلَ، وأنا لا أعرفُ ماذا أفضّلُ من الشراب؟ ماءٌ أم خمرٌ؟ ولا أعرفُ من أكونُ إذا دانتْ لي الأسماءُ، أو بُرّزتْ عندي الصّور؟ أأكونُ طائراً بجناحيْن يشقَّان فضاءَ الأحلام الوثير؟ أم وردةً يجري بها العطرُ نحو راحتِها الأبديّة؟ أم جبلاً كظَمَ غيظَه واعتزلَ بين السماء والأرض؟ أم أكونُ بيتاً حجرياً أسندَ ذاكرتَه إلى السّنديانةِ الحكاية؟ أم مزرعةً لقطيع الصّدى الأبيض المسالم؟ أم ذئباً للحكايات المهدّئة للضّجَر؟ أم كلباً وفيّاً لأصدقاء السوء؟ أم أكونُ ريشةً ظريفةً، أو قلماً عنيداً، أو ورقةً حافيةً؟ كيف أختارُ ولا أحارُ، وكلُّ شيء عندي يستوي الآن؟ ومرّت أعوامٌ وأعوام. وأنا لا ألوي على رهانٍ يُخلّصُني من تردّدي، ويعصمُني من فشلي. ولا أزالُ بين الفكرةِ والفكرةِ، أجري كنّهرٍ جنَّنهُ الوقتُ. وسكتَتْ الشجرةُ فجأةً، فوقعتْ على رأسي تفاحةٌ منها. ابتسمتُ. ثمّ حملتُ الجاذبيةَ بين يديّ، ومشيتُ خفيفاً خفيفاً.