بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

7 آذار 2022 12:00ص ماء من ذهب!

حجم الخط
القدرةُ على التكيّف خاصية معروفة ومميِّزة للشعب اللبناني. عندما عدْتُ إلى لبنان آتياً من فرنسا، كانت الأسئلة والهواجس تسبقني. فقد كانت الحملَ الأشدّ وزناً الذي جلبته معي. حملٌ لم يكن لأحد من رجال الأمن في المطار الفرنسي أن يدرك وجوده أو يلحظ وطأته على وجهي. ماذا لو لم أعدْ أطيق صبراً؟ ماذا لو زادت نقمتي على حياة يُسحب رحيقها مع كل نفس يتفتّح صباحاً في صدورنا؟ كيف سأقبل بعد الآن بتجرّع كأس السمّ الذي نطبخه بأنفسنا: شعباً وحكومةً وأحزاباً. تستوقفني نظرات الجميع وتصيبني سهام دهشتهم الحادّة؛ فتقطع لساني بالصمْت: لماذا رجعت؟ ما الذي آتى بك إلى هنا ثانيةً؟ لماذا لم تمزّق جواز سفرك هناك أو تفوّت موعد طائرتك إلى بيروت؟ ألوذ بابتسامة خجولة. وفي نفسي شيء من هذه الأصوات الناعقة. هل هم صادقون أم كاذبون؟ هل هم ناقمون أم خاضعون؟ هل حقاً يُنشدون التغيير أم فقط يرمون بكرة ناره في أحضان الآخرين؟ في لبنان، ما تراه العين لا يشبه ما تسمعه الأذن. النقّ المتواصل مثل الضفادع هو الطاقة التي يبذلها أو بالأحرى يُبدّدها محرّك التكيّف اللبناني لكي يستمر في عمله. هو الكلام المبتذل والممجوج الذي تفضحه الأفعال في وضح النّهار وتكشف عن زيف قائليه ومروّجيه. ففي النهاية الجميع يرضخ لإرادة واحدة؛ وإن اختلفت مُسمّياتها بحسب المواقع. صحيح أنّ التكيّف مطلوب ومحمود؛ إذ الحياة خيطٌ رفيع عليك أن تشدّه أحياناً وترخيه أحياناً أخرى، بيد أنّه عندما يتجاوز حدوده العقلية والنفسية، يتحوّل إلى شيء آخر تماماً. شيء يتغذّى على كل الأمراض المُمكنة. هذه القوّة الهائلة التي تسلب كل محاولات الخروج من الكهف المظلم، تُبقي اللبناني أسيراً دائماً. عصفوراً يُغرّد في قفص كبير. وإن احتجب عنه الفرح، فالمماويل الحزينة تملأ حنجرته وذاكرته. وإن أصبح ظلّه أقصر من ذي قبل، فإنّ لسانه قد يبلغ به السّحاب. التكيّف الذي يحطّ ُمن قيمة الإنسان فينا، ويجرّدنا طرّاً من مشاعر الرحمة والتضامن لرفع الظلم عنا، هو موت بطيء كتبناه على أنفسنا بماء من ذهب!


أخبار ذات صلة