بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

25 آب 2023 12:00ص ماذا كان يفعل دمك؟

حجم الخط
ماذا كان يفعلُ دمُكَ عند سفْح صنّين؟ يغسلُ القمّةَ من أوهام الضباب، تقول شجرةٌ رماديّة عصرَتْ خريفَك الأربعين قصيدةً مرّة في فمي. أو ربما كانَ يثقبُ أذُنَ الشمس بحَلَقِ نهارٍ أسدلَ رأسه المقطوع على صدْري، تقول غيمةٌ حرسَتْ ظلّكَ البنفسجيَّ ذاتَ صيْف. دمُكَ لا يزال هناكَ، لمْ يُلملمْهُ أحدٌ بعد؛ لأنّ أحداً لم يلتفتْ إلى الوراء بعدما تركتَ أحلامَك الغضّة على عتَبةِ رصاصةٍ، وأمعنتَ في الغياب. لا تزال هناك ميّتاً كما كنتَ تفعلُ دائماً منذ أنْ عرفتُك، وأنا طفل يلمَعُ موتُك كنجمةٍ دافئةٍ وسَطَ سماءِ قلبه الباردة. أتى إليّ الحزنُ منتقماً من وجودٍ لم أقترفْه مرتيْن: أن أكونَ أنا، وأكونَ أنت. قلبي حجرُ نردٍ فوق طاولة غيابك المستطيل بين ضلوع لي بَرَاها عبَثُ الرميات. استعدتُ منكَ اسمي بعدَ ضلالٍ طويل في المرايا، وأزهقتُ على كفّ الريح وردَ احتمالاتٍ نسلَت من أهدابك الواهية. لكنّ أصابعي ظلّت تموجُ بالرحيل الذي شربَ وجهكَ الجميل، كما يشربُ حائطٌ بليدٌ مصْلَ الوقت المُعلّق. ماذا كان يفعلُ دمُك في الطرقات وعلى الأشجار التي هجَرت غصونها وعلى كتفِ الليل الذي وشىَ بالمدينة؟ لم يدخُل دمُك المدينةَ. بقيَت تخافُ صيْفَها مثل يوم غادرتَها ممتحناً في قلبك هبوبَ الجهات. تصرخُ المدينةُ لكنّ الترابَ يكتُم صوتَها، والبحرُ المعتقلُ بالحديد المذهّب يكسرُ ظلَّها كموج يتيم. تنامُ المدينةُ على دمِكَ الأخضر وخوفُها يَكبُرُ كصحراءٍ في أيدي الفقراء والمساكين. ماذا كنتَ تريدُ منّا أن نفعلَ بعدَما يأتي إلينا موتُك المُصفّى؛ يُلملمُ لونَ وجوهنا ويحفرُ خنادقَ الحزن في عيوننا؟ نرفعُ صورَك على جدرانٍ لبستْ أرواحنا الكئيبة، والحديقةُ المنسيّةُ على أعقاب أيّامنا تفوحُ منها رائحةُ البكاء. أمُّكَ المفجوعةُ نامَ البحرُ تحت قدميْها موجةً موجةً من ملحٍ ودموع، والنوارسُ في عينيْها تقطعُ سواحلَ ممتدةً كالطعنات الغادرة، وأبوكَ تضاءلَ تحت خيمة العمر كقمرٍ شاحب. إخوتُك تجرحُهم شقائقُ الذكرى على قبركَ المضيء كالألم المُزمن. أما أنا فأشعلُ قناديلَ الكلام في حُلْكَة غيابك القاسي، وأدخلُ هدأةَ الثلج الذي جمّدَ ابتسامتَك الأخيرة. صنّينُ يعانقني. يُلبسُني معطفَه الأبيض والأحمر. يندسُّ صقيعُه بين مخالبِ صقيعي، فيزيدُني نزْفاً. أشجارٌ قليلةٌ على الطريق تنتصبُ كأسئلةٍ بلا أجوبة. صخورٌ تهجعُ في ملفىَ غيمها كبنادقَ تركها أصحابُها عند العتبات البيضاء. والثلجُ يعزفُ خطايَ وتراً رتيباً. أصعدُ القمّةَ التي وخزَ نبعُها دمَكَ الصغير، أتنشّقُ هواءَ الغياب الذي صقلَ وجهك الترابيّ، والشرفةُ التي أطلَّ منها موتُك على صهْوة المدينة، أوقظُ الآن خيْلَها من فجيعة الريح التي أنقضَتْ رؤاك.
أخبار ذات صلة