بيروت - لبنان

30 أيلول 2023 12:00ص طليس والرحابنة

حجم الخط
منذ سويعات، أنهى عبد الغني طليس عمله، باحثا عن الأسرار الرحبانية. كانت أداته إلى ذلك، كل ما تحت يده من أدوات. وجد أن العالم الرحباني يحتاج إلى مهارة وإلى دقة وإلى متابعة. يحتاج للعودة إلى الذاكرة والحفر فيها، أكثر ما يحتاج إلى القراءة في التفاصيل المكتبية، في التفاصيل الدفترية. ولهذا ربما كان في حمأة التحرير وغمرته، يستعين بكل الأدوات التي يتمكن منها: دقة التحرّي عن المعلومة، وإعادة صياغتها شفّافة في مقال، أو في فصل، مع إضفاء غلالة حريرية ناعمة من الأدب والشعر عليها، وهو يسير على درب النقد. يفحص اللقى والجواهر، يتأكد من حقيقتها، ثم يتابع سيره خطوة خطوة، لا ريث ولا عجل. يقول في مفتتح عمله، شعرا، تحت عنوان: «أنا بيروت»:
(تقول المدينة/ إني تعرّفت ذاك الفتى الأخضر المستحي/ جاءني كي يشاهد فجرين: عاصي ومنصور/ في «البيكاديلي»/ وفيروز جامعة البر والبحر/ والموت بالصوت/ كانت زيارته خطوة نحو قلبي/ فصرنا حبين/ كان الفتى يتهجى القصائد/ قلت سأغدو قصيدته/ عند «عبقر»/ حيث الرؤى تتعرّى بوادٍ سحيق).
جمع الأستاذ عبد الغني طليس قواه الأدبية والمعرفية والنقدية والشعرية كلها، ليخوض في المغامرة الصعبة في بئر، بل في بحر، بل في قيعان المحيط: «أسرار الكنوز بين الرحباني وفيروز. دار نلسن. رأس بيروت، الحمرا، شارع إنطوان الجميل. بناية زعرور، 2023: 224 ص. تقريبا».
تتبع الباحث ها هنا، يحتاج إلى طول أناة، لأننا نتتبع قائفا، يسبر الأغوار، ويغوص على المعاني التي تبيأت ذلك البيت الرحباني العريق، ذلك البيت اللبناني العريق، ذلك البيت العربي العريق. وقد صدّقنا القول حقا، حين قال لنا: إنه إذ يبحث عن الكنوز الرحبانية، إنما يبحث عن أسرارها. فالرحابنة: عاصي ومنصور وفيروز، صاغوا، كما يرى، المثلث الذهبي الذي يوقع الزمن بالفن الساحر، ليملأوا به الجرار، فتأخذ أمكنتها لزمان آخر، تنبسط عمائرها أمام الأبصار، ولو في الليالي الدجى.
(... سُئلت مرات عدة، في مناسبات معينة، وأحيانا عفو الخاطر في مقابلات، عن سبب علاقتي القوية والزكية بالأخوين عاصي ومنصور الرحباني، وفارق العمر بيني وبينهما، ثلاثون عاما، أي جيلان على الأقل، وكنت أحار من أين أبدأ.../ من غرامي غير المتناهي بمسرح الأخوين وصوت فيروز وأنا طفل!).
لم يوفّر عبد الغني طليس، الشعر في كتابه السفر. جعله المقدمة الأولى للنقد. جعله المقدمة الأولى في رحلة البحث. جعله الباب العريض الذي يدخل منه الشاعر، وهو يحمل مصباح ديوجين، في عز الظهيرة المظلمة، للبحث عن الحقيقة الكنز. وإذا ما حمل بالشعر علينا، فقد ألطفنا بباب بيروت. جعلنا على بابها نستريح. تماما كما يستريح الشرق على باب الدهر. جعلنا أمام قصر البيكاديلي نأخذ نفسا عميقا. نتهيّب الولوج إلى أعماق هذا التاريخ الهارب من يدنا كومضة برق، بالكلمة المسحورة، بالكلمة الموقعة، بالكلمة المموسقة.. وهذا لعمري من براعة ناقد يعرف كيف يعلم القارئ، فن القراءة، فن التأمل، فن السحر.
(مما لا يعرفه الجمهور... أن المألفة التي كانت تنضج بالعمل الشعري والمسرحي والموسيقي، عندهما، كانت مختصرة بهما، على قلة ذكية جدا من المستشارين الذين أضافوا الى المكان الذي هم فيه، الملاحظة البهية، والفكرة المكملة لأفكار أخرى، ومنهم المخرج صبري الشريف والفنان كامل التلمساني. على أن حضور الشريف كان أطول عمرا في التجربة الرحبانية، وأكثر فعالية...).
من الصعب أن أعرض لسفر هذا الكاتب العبقر، لهذا الكتاب الأطلس، لأنه حقا أطلس الرحابنة بإمتياز. ولكن لا بد من ذلك، لأشوق الكاتب على المخبآت، على المفاجآت، على ألوان السحر، في الجرار الرحبانية الفيروزية، التي أماط اللثام عنها، فتدفقت تلك الكنوز ينابيع ينابيع، سقى سفره منها، فإخضل حتى إخضر النبات بألوان الشمس، وبألوان فيروز، وبألوان عيني الباحث نفسه، اللتين لا تخلوان من شدة الدهشة، من شدة التعب، ومن شدة الجحوظ.
(نأتي إلى الوطن الرحباني. هناك إنطباع عام بأن مسرح الأخوين قدّم للجمهور وطنا خياليا، غير واقعي، شاعريا وساحرا، كأنه من صناعة فانتازية جمالية أكثر مما هو حقيقة ويشبه لبنان).
في مبتدأ الكتاب، تطالعك قصيدة الباحث الشاعر: أنا بيروت. قدم النقد بالشعر. ثم خطا إلى وضع مقدمة تفصيلية، كانت ضرورية، لفتح الباب على مصراعيه لتوالي الفصول، بعد أن وضع فصلا خاصا تحت عنوان: «لائحة بمسرحيات الأخوين رحباني وفيروز». ثم كان له أن يمنحنا فرصة، للتعرّف على شخصه، وهو يتابع الرحابنة وفيروز ويتأثر بهم، ويسير على خطاهم: إيقاعا وموسقة وغناء، وكلمة مسحورة بالناس، كلمة مغنّاة.
(في أوساط كثير من الذين عملوا في مسرح الأخوين رحباني وفيروز، نسمع كلاما يبدو «متفقا» على حقيقته لديهم. لكن ليس بالضرورة صحيحا، هو إن عاصي ومنصور الرحباني حاولا ونجحا في «طمس» المغنين والمغنيات الذين شاركوا في أدوار مسرحية وغنائية في أعمالهما، لصلح فيروز!).
تتبع الباحث الأخوين رحباني، تحدث عنهما بشغف، عن قيادة الفريق الرحباني، وعن الفلكلور، كمادة عالمية واسعة الإنتشار في عالم المشاهد البصرية المغناة. كذلك تحدث عن شعر الرحابنة الذي يتجاوز نفسه، وعن الأعمال الرحبانية الفيروزية، بإعتبارها قلعة فنية ساحرة. يقول تحت عنوان: فيروز تغني للحبيب... بلا حبيب:
(من المفارقات... لم يقف أمام فيروز أي ممثل أو مغن في كل المسرحيات الرحبانية، بدور حبيب. إثنتان فقط كان هناك حبيب لفيروز فيهما، ولكن يغيب طوال الوقت عن المسرح، جوزيف ناصيف بدور «نايف» المسافر في مسرحية «لولو»، وحين يعود متزوجا وبأولاد، يكمل الكذب عليها، بقول «بحبك». وفي «بترا» بدور الملك الذي يذهب إلى الحرب ويأتي في نهاية المسرحية).
تتوالى فصول الكتاب إذا، في الحديث عن الفكر الفني الرحباني، وعن الفن الفكري، مستندا إلى الفن المقارن. ونراه يفصل في أنواع الغناء الفيروزي، متسائلا: صوت فيروز: ما هو؟. ليعرض فيما بعد لصوت فيروز الصباحي، الذي جعلت منه الإذاعات العربية، مادة غناء في الصباحات كلها.
(في مسيرة إلياس أكثر من عشر أغانٍ لفيروز... كانت بأنامل إلياس الرحباني... مال إلياس الرحباني إلى الأجواء الموسيقية الغربية... كان خبيرا في الأغنية ذات الإيقاعات الغربية... منحت صوت فيروز بعضا من روح الخفة والرقص الشبابي... صوت فيروز مع ألحان إلياس الرحباني، كان رشيقا جدا...).
وهناك أحاديث وافية، عرض الباحث فيها، للوطن الرحباني، وللمطبخ الرحباني وللتمثيل والرقص عند الرحباني. ليتساءل بعد ذلك: هل كان كل من عاصي ومنصور واحدا؟
(لقد قامت... بينهما أكثر من مرة خلال تحضير المسرحيات، بين من يريد منهما كذا والآخر يريد شيئا آخر.... لكن يجب التنبّه إلى أن ما كان يتمايز به أحد عن الآخر، كان الآخر قادرا على صناعته ضمن لعبة الإحتراف العالية التي تمكنا منها).
يتحدث الأستاذ عبد الغني، بما يمتلك من مقدرة في ذلك، عن الأثر المصري على الرحباني، وعن الرفض الرحباني للغناء الشائع في القصور. كذلك يعرض، للموشح الأندلسي والقضية الفلسطينية وللبيت الشامي وللزجل والغناء للشعوب العربية، في أعمال الراحابنة وفي الغناء الفيروزي على حد سواء.
(أول خطوة «قوية» في مرحلة الخلاف (1978) بين فيروز والرحباني، فطلبت (فيروز) إلى الشاعر القريب من الأخوين، جوزيف حرب، قصائد «مختلفة» ومتحررة قدر المستطاع.. غير أن عاصي كان منزعجا).
 ولا ينسى الباحث تتبع آثار الرحابنة وفيروز، في البيت الرحباني نفسه، وعند الشخصيات التي صاحبتهم في أعمالهم، مثل السيدة هدى ووديع الصافي ونصري شمس الدين وإيلي شويري وفيلمون وهبة وزياد الرحباني وزكي ناصيف والسيدة صباح. وختم بحديث مطوّل عن حيثية ملحم بركات في الأعمال الرحبانية.
(يقول: إشتغلت من 1965 مع عاصي ومنصور الرحباني في الكورال لخمس سنين، أحلم بأغنية منهم. وعملت شوفي لفيلمون وهبي تا يلحنلي أغنية.. وكل الوقت إحلم لحّن لفيروز..).
وفي الأرشيف الوثائقي، يعدد الأستاذ عبد الغني طليس، المقابلات التي أجراها مع عاصي ومنصور، كل على حدة، في الأعوام ١٩٧٧، و١٩٧٩، موثقا الشهادات والرسائل وكاشفا الكثير من الحقائق.
(كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها عاصي الرحباني في حياتي. سيعود النبع حتى آخر الشجر. آخر التراب. آخر الأرض.
- ما هي أول كلمة تريد أن تقولها في بداية الحديث؟
- وبصوت تكاد تلامس فيه برد الأهوال ودفء المواقد: - إن شاء الله يكون هالريبورتاج حلو.
 يضحك، وأضحك مازحا: هيدا اللي مش رح يصير. أنا أعتبر أنك إنسان لازم تحكي بالشعر والموسيقى، حتى تضل على صلة باللي بيحبوك.
فيجيب: أهلا وسهلا فيك).
وختم المؤلف برسالة وجهها إلى ورثة الأخوين رحباني وفيروز. ليكتب فيما بعد بشكل مجروح: «كيف نحمي تراث الأخوين وفيروز؟».
(لا يمكن أحدا في لبنان، يعرف جيدا نظرتي إلى الأخوين رحباني وفيروز، أن يظن لوهلة أنني أغلب واحدا على آخر، في هذة الثلاثية المقدسة عندي. أو أنني أقبل أن يقذف أحد منهم أحدا آخر بحجر. هكذا أرى إلى عاصي ومنصور وفيروز. أما الورثة فلهم مخبتي جميعا. لا لأنني أحبهم جميعا، بالقدر نفسه، بل لأن القضية أكبر منهم، وأشمل وأهم، خصوصا، وأن الثلاثة العظماء مجتمعين، أكررها مجتمعين، أنجزوا أعمق وأرقى ما في لبنان من النصف الثاني من القرن الماضي، حتى الآن...).
كتاب عبد الغني طليس، فضاء رحباني بإمتياز. فمن يدخله، يحتاج إلى طول صبر وأناة، ليكتشف المخبآت الرحبانية والفيروزية على حد سواء. ويقع على الكنوز وأسرارها مخبأة في جرار الكهوف المسحورة والمختصة بتعتيق خمور الجنان الرحبانية وذكائها الذي يضوع، ولا يضل، ولا يضاع.
الرحابنة (هم في إعتقادي، في حاجة إلى دارسين أو بحاثة في الفنون يكشفون الآثار الإبداعية الكامنة وراء النصوص والألحان والمسرحيات والصوت. ويمنحون الأجيال كلها، الحاضرة والمستقبلية، مواد فنية - محللة علميا ومحفوظة بأسمائهم. فلا تعود تلك الأجيال تستمع فقط، وتعجب، بل تضع بين يديها تلك المعرفة الجدّية التي ترسّخ الأفكار والمشاعر).

 أستاذ في الجامعة اللبنانية