صحافة أجنبية

9 آذار 2024 12:01ص من إعلام العدو: ديموغرافيا المتديِّنين تهدِّد مستقبل إسرائيل

حجم الخط
دان بن دافيد

ما يميز إسرائيل هو أنها مكونة من مزيج قاتل، قوامه مجموعات سكانية ذات معدل مواليد مرتفع للغاية، يتعلمون في مدارس ذات مستوى تعليمي ضعيف، وهي مدارس مرتبطة بالأحزاب الحريدية [الأورثوذكسية اليهودية] والدينية [المرتبطة بالتيار الديني - القومي] التي تستبدل التعليم بأسلوب التلقين. وعلى هذا النحو، تصبح لدينا نسبة عالية من السكان البالغين، وهي نسبة تتزايد باضطراد، تعيش في فقاعة توراتية «تحميها» من الحاجة إلى مواجهة الواقع.
وعلى المقلب الآخر، وفي فقاعة أُخرى في إسرائيل، يعيش مجتمع ليبرالي راضٍ عن نفسه، يفضّل مشاهدة برامج «تلفزيون الواقع» بدلاً من مواجهة الواقع الحقيقي، ويستمد معلوماته من الخطاب السطحي الذي يسود وسائل الإعلام، ومن الأكاذيب التي لا حد لها على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا المجتمع غير قادر على إدراك إمكان خسارته لوطنه القومي، والتضحيات الكثيرة، بالدموع والدم، المطلوبة لإعادة الوطن اليهودي إلى سابق عهده، هذا إذا كان الأمر ممكناً حتّى.
لقد أهدرنا أكثر من ثلاثة أرباع قرن من الزمن على آمال زائفة في إمكانات مد الجسور بين مكونات مجتمع إسرائيلي تعددي، ومجتمع آخر يمارس التمييز ضد النساء، والأقليات، وغيرهم. وكما كتبتُ في مقالي في صحيفة «هآرتس» في 24/8/2023؛ نحن غير مستعدين للقبول بواحدة من حقائق الحياة البسيطة، وهي أنه يمكن للمرء أن يكون متديناً في دولة ليبرالية، لكنه لا يمكن لأي إنسان أن يكون ليبرالياً في دولة دينية.
إن سكان الفقاعتَين المذكورتَين أعلاه على وشك أن يجربوا، على جلودهم، الفوارق بين الدالة الخطّية والدالة الأسية [Exponential]. ففي العالم الخطّي، يدرك الطرفان أن هناك صداماً مستقبلياً بينهما في الطريق، لكنهما يخدعان نفسَيهما بأن هذا الصدام يقترب بوتيرة ثابتة، وأنهما قادران على مواجهته بالتحضير المسبق. أمّا في العالم الأسي، وهو العالم الذي نعيش فيه فعلاً، وهو العالم المخفي خلف الحقائق الجزئية، والخاطئة، والمضللة، والتي نستخدمها كجدار نحيط به كلتَي الفقاعتَين، فإن السرعة التي يتحرك بها أحدنا تجاه الآخر نحو الصدام ليست ثابتة، إنما تتضاعف في كل جيل. وكما هو الحال في الطبيعة، سواء شئنا أم أبينا، وسواء كنا جاهزين للأمر أم لا، فإن الفقاعتَين اللتَين نعيش فيهما ستنفجران.
وفي هذا السياق، يصبح السؤال المركزي هو: «هل أصبح السكان اليهود في إسرائيل أكثر تديُنا؟» نحن نسمع بين الحين والآخر أصوات التهدئة من أصحاب الأجندات، أو من بعض الهواة الذين يقولون إن العكس هو الصحيح، وإن إسرائيل تصبح أقل تديناً، لكن المشكلة الكامنة في الأمر هي أن هذه التوقعات تستند، في أفضل الحالات، إلى تحليلات جزئية للوقائع، وتؤدي إلى استنتاجات معاكسة لما يحدث على الأرض.
ظاهرياً، يتزايد عدد الإسرائيليين الذين يُعتبرون متدينين أو تقليديين، فيصبحون لاحقاً أقل تديُناً؛ فوفقاً لبيانات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، فإن نحو ثلثَي من كبروا في عائلات تقليدية [ملتزمة دينياً، ولا تعيش في مجتمع الحريديم] ظلوا تقليديين بعد بلوغهم بنسبة 68%، بينما يتحول 22% من التقليديين إلى علمانيين، في مقابل 10% منهم يصبحون أكثر تديُناً. ونصف هؤلاء الذين يكبرون كمتدينين يظل متديناً بعد البلوغ (54%)، و6% منهم فقط يصبحون أكثر تديُناً (أي ينتسبون إلى المجتمع الحريدي)، وهذا ما يدفع المرء إلى الاعتقاد، ظاهرياً، أن إسرائيل تصبح أقل تديناً.
لكن هذه الصورة ليست سوى صورة مجتزأة بشدة، أمّا الصورة الكاملة، فهي مختلفة إلى حد كبير. علينا أن نأخذ في الاعتبار انتقال اليهود بين التيارات اليهودية المتعددة، وحين نفعل ذلك، فإنه يتوجب علينا أن نضيف من ينضمون إلى تيار ما، وأن ننقص من يتركونه، فإذا عملنا على هذه الصورة، سنكتشف أن المجتمع الحريدي قد كبر بنسبة 12%، والعلماني بنسبة 9%. أمّا حجم الفئة التقليدية [أي اليهود المتدينيون، من غير الحريديم] فيحافظ على نسبته تقريباً، بينما التيار الديني يتضاءل بنسبة الربع.
وحتى هذه الصورة الموصوفة أعلاه ليست الصورة الكاملة التي من شأنها أن تعكس الاتجاه الديموغرافي الذي تتجه إسرائيل نحوه، لأن هذه المعطيات لا تأخذ بعين الاعتبار عاملاً أساسياً، وهو الخصوبة؛ فحينما نأخذ من وُلدوا في التيار الديني بعين الاعتبار، ونطرح من يتركونه، ثم نضيف إليهم من ينضمون إليه من التيارات الأُخرى، فسنجد أن التيار الديني ينمو أكثر من التيار العلماني، والنتيجة هي أن المعدل الفعلي لمواليد اليهود المتدينين أعلى بمقدار الثلث من معدل المواليد الفعلي لليهود العلمانيين.
لم يتم تقدير معدل مواليد المجموعات الفرعية في التيار الديني، وهي المستوطنون المتدينون - القوميون، الذين يُحسب عليهم زعماء الأحزاب الثلاثة الدينية الأكثر عنصرية [المتمايزة عن الحريدية]، في الكنيست، إذ لم يقم مكتب الإحصاء المركزي بإحصاء هذه الفئة. وفي فحص أجراه هذا المكتب في أوساط اليهود، اتضح أن معدل خصوبة اليهود «شديدي التدين»، من غير الحريديم، الذين يعيشون في مستوطنات الضفة الغربية، قد بلغ سنة 2022 بمعدل 6.05 طفلاً، وهي نسبة تضاهي تقريباً نسبة الخصوبة لدى الحريديم.
وفيما يتعلق بالحريديم، فليس هناك أي شك فيما يتعلق باتجاههم الديموغرافي؛ إذ تلد النساء في هذا القطاع أكثر من ثلاثة أضعاف عدد الأطفال الذين تنجبهم النساء العلمانيات. وإذا أضفنا إلى ذلك أن صافي الزيادة في التيار الحريدي [أي عدد من ينضمون إليه من تيارات أُخرى] يضاهي عدد الأشخاص الذين يتركونه، وهو ما يؤدي إلى زيادة في صفوف هذا التيار بنسبة 12%، فإن معنى ذلك أن هناك خصوبة ناجعة يبلغ أكثر من 7 أطفال لكل عائلة من الحريديم. وحتى لو انخفض منسوب خصوبة هذه العائلات بـ 30%، فإن النتيجة النهائية ستظل مماثلة، إلاّ إن سرعة الوصول إليها ستتغير.
خلاصة القول هي أن الأصوات المنطلقة لتهدئة العموم، والتي لا تستند إلاّ إلى الآمال الزائفة، أو المعلومات الجزئية، بدلاً من أن تستند إلى نظرة واسعة قوامها المعطيات الكاملة، تضر بصورة كبيرة بقدرة الجمهور على فهم واستيعاب التوجهات الديموغرافية التي تتحرك إسرائيل نحوها، بجميع أبعادها وإسقاطاتها، وبالسرعة التي نتدهور فيها نحو ذلك المصير، إذ لم تكبر حصة المتدينين والحريديم من السكان فحسب، بل أيضاً تزداد نسبة الحريديم بوتيرة هائلة.
نحن في حاجة إلى الحريديم، لكنهم في حاجة إلى المعرفة، والمؤهلات، والقدرات التي يصر زعماؤهم على حرمانهم إياها، كما أنهم في حاجة إلى الأدوات الأساسية التي ستتيح لهم العمل في ظل اقتصاد معولم، والخدمة في سياق حماية إسرائيل. والطريقة الوحيدة التي يمكن لها أن تطلق سراح الحريديم من قبضة زعمائهم هي المال. وفي نهاية المطاف، يفرض جدول الأعمال الذي تفرضه قيادة المجتمع الحريدي على مجتمعها أن يظل هذا المجتمع شديد الفقر، وهذا المجتمع متعلق تماماً بالقيادة الحريدية من أجل توفير المال لمدارسهم، والتي تسلب منهم حقهم المدني الأساسي في تلقّي تعليم يوفر لهم فرصة لتحديد مستقبلهم بصورة حرة [حيث تركز هذه المدارس على التعليم الديني، بدلاً من تعليم الرياضيات واللغات وغيرها من مواد يُطلق عليها، إسرائيلياً، توصيف «الموضوعات الجوهرية»].
وبالإضافة إلى ما تقدم، نضيف أن علينا التمحيص فيما يتم تدريسه في صفوف التيار الحريدي الذي تسيطر عليه الأحزاب الحريدية، إلى جانب ما يتم تدريسه في صفوف التيار الرسمي الديني الشديد التأثر بالأحزاب الدينية [تقسم وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية مدارسها إلى أربعة أقسام: رسمي علماني، ورسمي ديني، وحريدي، وعربي] . وصرنا نسمع، ابتداء من سنة 2023، جرس إنذار قوياً، وواضحاً، ولا يتوقف، يفيد بأن التهديد الداخلي الأساسي الذي يتهدد إسرائيل يتمثل في أغلبية مستقبلية من الفئات الحريدية والمتدينة، التي لا تحاول حتى أن تخفي شعورها بالتفوق، وانعدام تسامحها، بل أيضاً التزامها بالتمييز ضد من يختلف عنها في التفكير أو أسلوب المعيشة.
ومن المهم تأكيد أن ليس كل المتدينين والحريديم في إسرائيل شركاء في هذه التصورات وأنماط الحياة، ومع ذلك، فإن خلاصة القول هي أن الأحزاب الوحيدة التي تمثّل الحريديم واليهود المتدينين، برلمانياً، تزوِّدنا بلمحة عن مستقبل البلد في غضون بضعة عقود، حينما لن تكون هذه الأحزاب في حاجة إلى رئيس قيد المحاكمة الجنائية لكي تقيم معه حكومة، فبوجود أكثر من ستة أطفال لكل عائلة، فإن الديموغرافيا وحدها ستتيح لهم السيطرة على الدولة من دون عقبات.
هذا المستقبل الكارثي الموصوف أعلاه ليس مصيراً محتوماً، على الرغم من أن فرص تغييره تتضاءل بسرعة. إن التغلب على الصدمة التي لا يمكن تصورها، والتي عشناها خلال السنة الماضية، تُلزمنا ليس فقط إنهاء وجود المتسلقين المنافقين في الحكومة الذين أوصلونا إلى ما نحن فيه، بل أيضاً تلزمنا التمييز بوضوح بين ما هو مهم وما هو غير مهم حينما نقوم بترسيم السياسات المتعلقة باليوم التالي للحرب.

المصدر: هآرتس
إعداد: مؤسسة الدراسات الفلسطينية