بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 تشرين الأول 2023 12:01ص أهالي غزة يُسطّرون ملاحم بطولية بصمودهم في وجه العدوان

حجم الخط
سيسجِّل التاريخ للشَّعب الفلسطيني أنه من أفضل الشُّعوب التي ضحَّت في سبيل أوطانها، ومن أكثرها حرصاً على كرامتها، وأصدقها تمسُّكاً بوحدتها الوطنيَّة، رغم كل المؤامرات الدَّوليَّة والإقليميَّة، والانتهاكاتِ اللاإنسانيَّة التي ينفذها العدو بمشاركة غربيَّة ورعاية أمميَّة وفي ظِلِّ صمت عربي غير مبرَّر.
ليست المرَّة الأولى التي يتعرض فيها الشَّعب الفلسطيني إلى حروب وحملات تطهير عرقي أو تهجير وتدمير ممنهجين وبأساليب وحشية على مرأى ومسمع من العالم أجمع. فلسطين منذ بداية القرن الفائت كانت ولم تزل مسرحاً للعديد من المجازر وحروب الإبادة الجماعيَّة والجرائم ضد الانسانيَّة، ولكن ما نشهده وشهدناه خلال الأسابيع الثلاثة الفائتة لم يسبق لأي مجتمع من المجتمعات أن شهدها فيما لو استثنينا استعمال السلاح النووي في ضرب مدينتي هيروشيما وناكازاكي.
طوفان غزَّة كعمليَّةٍ عسكريَّة، وإن كانت المبادرة فيه لمنظَّمة حماس بمباغتها للعدو الإسرائيلي، ما هي إلاَّ جولة من الجولات القتالية في معرض الصراع المُستدام ما بين صاحب أرض، يتمتع بمشروعيَّة الدِّفاع عن أرضه ووطنه وعرضه وكرامته، ومحتل مغتصب، يشكّل اغتصابه للأرض جريمة مستمرة، ولا ينفك يمعن في تماديه بارتكاب أبشع الاعتداءات بدءاً بتعرضه للنّساء والأطفال بأبشع الانتهاكات مروراً بالتعدي على الممتلكات وانتهاءً بتدنيسه لدور العبادة وتطاوله على المقدسات الدينيَّة «المسيحيَّة والإسلاميَّة». وهذا ما يجعل من عمليَّة طوفان الأقصى بمثابة عمل دفاعي مشروع في وجه اعتداء جائر ومستدام وغير محق ولا مبرَّر وهو حالٌّ وغير مُثار، يُعرِّض الشَّعب الفلسطيني لمخاطر جسيمه، تهدّد وجوده وحياته وكرامته... الخ، وهذا ما يخوِّله الحق في الدِّفاع عن نفسه وأمواله ووطنه وحقوقه كافَّة، عملاً بروحيَّةِ كل المبادئ القانونيَّة والمعاهدات والأعراف الدَّوليَّة، في وجه المعتدي الغاصب.
من حق الشَّعب الفلسطيني استغلال كل ما هو متاحٌ له من وسائل للدفاع عن نفسه، بدءاً بالتعبير قولاً عن رفض الإحتلال بكل أشكاله وصوره، مروراً برجم قوى الاحتلال بالحجارة وبأيَّة أعمال عنفيَّة تطاول المحتلين، وانتهاءً باستعمال شتى الأسلحة المناسبة القادرة على رد الاعتداءات، وهذه السُّلوكيات تعتبرُ جميعها من قبيل الدِّفاع المشروع، طالما كانت موجَّهة إلى العدو المغتصب للأرض، والمُمعن باعتداءاته العنفيَّة بأبشع الصور وبأكثر الأسلحة فتكًا وباعتماد أسلحة وأساليب محظور دوليًّا.
لم يقف المجتمع الدَّولي بمؤسَّساته ودوله موقفاً موضوعيًّا متجرِّداً متوازناً وعادلاً تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة، والنَّظر إلى طرفي الصراع بعينين مفتَّحتين وباعتماد معيارٍ واحد تجاههما، لذا تعامى عن الانتهاكات الإسرائيليَّة رغم انطوائها على مختلف أنواع إجرام الدَّولة من جرائم حرب وجرائم إبادة جماعيَّة وجرائم ضد الإنسانية وأعمال إرهابيَّة «إرهاب الدولة»، ولم يغفل أي عمل عنفي مهما صغر أقدمت عليه منظمة فلسطينيَّة أو حتى امرأة أو طفل فلسطيني ولو رمية حجر، مغلَّباً منطق التَّصنيف (ما بين إرهابي ومدافع) بدلاً من توصيف الأفعال ما بين أعمال إرهابيَّة ودفاع مشروع، فما كان منه إلاَّ أن دأب على نعت إسرائيل بدولة معتدى عليها، ونعت الفلسطينيين بالإرهابيين، وتعامل مع سلوكيَّاتهما على هذا الأساس، ودرج على تبرئة الكيان الغاصب من كل ما نسب إليه من ارتكابات وأفعال شَنيعة مجرَّمة، وأدان كل الأفعال الدِّفاعية التحرريَّة للفلسطينيين ووصمها بالإرهاب، وذهب أكثر من ذلك في وقوفه العلني إلى جانب الظَّالم في وجه المظلوم ساعياً إلى تبرير جرائمه.
موقف المجتمع الغربي وعلى رأسه الولايات المتَّحدة الأميركيَّة من عمليَّة طوفان الأقصى ليس بجديد إنما جاء متناغماً مع مواقفه السَّابقة، ولكن اللافت هذه المرَّة أن مواقف الغربيين المتصهينين جاءت مُتصلِّبة ومتشدِّدة حتى أكثر من بعض الصَّهاينة داخل الكيان، وهذا ما يفسِّرُ سرعة إرسال الأساطيل البحريَّة وحاملات الطائرات وإقامة جسور جويَّة لشحن أحدث الأسلحة والذخائر الحربيَّة وأكثرها فتكاً والإعراب عن استعداد تلك الدُّول للإنخراط عمليًّا في الحرب؛ هذا عدا الدَّعم المعنوي غير المحدود، وبخاصَّة الحرص على توفير الأجواء الملائمة لتحقيق نوايا الكيان الغاصب القديمة الجديدة المبيتة والهادفة إلى إخلاء قطاع غزة من سكانه الأصليين وتهجيرهم إلى دول أخرى، ومبادرتهم إلى إرسال موفديهم للتسويق لهذه المؤامرة ولو رغماً عن الدُّول العربيَّة المنوي تهجير الفلسطينيين إليها، وإن فشلت فثمَّة تكتيك آخرٌ مُشابه لعمليَّة إخراج مقاتلي مُنظمة التحرير الفلسطينيَّة من بيروت عام 1982، يقضي بإخراج مقاتلي حماس من غزة.
هذان السيناريوهان يستدل عليهما من التَّهديدات المبطنة التي حملها المبعوثون الغربيون إلى المنطقة لكل من يقف في وجه هذا المشروع أو يُساند أهل غزَّة ولو بأقل الأمور المعنويَّة والإنسانيَّة، بعد أن أحكمت إسرائيل طوقاً مطبقاً على غزَّة، وبدأ جيشها بعمليَّات إبتزاز لا أخلاقية بتقطير المساعدات الطبية والإنسانيَّة الملحّة مقابل ترك الأسرى لدى منظمة حماس الذين أسرتهم خلال عمليتها الأخيرة. وتهويل بعضهم باستمرار العدو بمسلسل المذابح والتدمير الممنهج لكامل القطاع وتقتيل جميع سكانه إن لم يصر إلى ترك الأسرى، متناسين المعتقلين الفلسطينيين الذين يقبعون في المعتقلات والسجون الإسرائيليَّة منذ عشرات السنين.
الأمة العربيَّة المترامية الأطراف والمحيطة بفلسطين المحتلة من جميع الجهات، تقف مُتفرجة، رغم قدراتها الطائلة، تتأرجح مواقف دولها ما بين الرفض والإدانة، وكأنها أعجز من أن تتجرأ لاتخاذ قرار واضحٍ تجاه ما يحاك لغزَّة وللفلسطينيين، كما عاجزة عن تقديم أي عون لها، وحتى عن إيصال الحد الأدنى من المساعدات الطبية والانسانية الملحّة، وخاصة أن شعب غزَّة على وشك الاحتضار إن لم توقف الحرب الهمجيَّةُ عليها، وهذا مال دفع بشعبها لمناشدة المجتمع الدولي وقف الأعمال الحربية الهمجية ووضع حدٍّ لعمليَّة الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها، أما أطفالها ونساؤها فيتضرعون إلى الله، وكأنهم سئموا مناشدة الدُّول العربيَّة المتغافلة عنهم نكاية بانضواء حماس في محور الممانعة.
لقد أحيا طوفان غزة ضمائر الشعب العربي من أقصاه إلى أقصاه، وأيقظت كتائب القسَّام بأدائها القتالي الاحترافي لديه معاني العزّة والعنفوان والكرامة، وألهبت مشاعر الأخوة والتعاطف مع أخوانهم الفلسطينيين، ونبَّهت الأجيال العربيَّة الشَّابة إلى المخاطر الصهيونية وتوجهاتها العنصريَّة التَّوسعيَّة وكراهية الإسرائيليين للشَّعوب العربيّة كافَّة.
مجلس الأمن المولج وفق ميثاق هيئة الأمم المتحدة بالحفاظ على السِّلم والأمن الدَّوليين، سليب الإرادة، وقراراته متحكَّمُ بها، إذ طبيعة تكوينه وآلية اتخاذ قراراته التي تتخذ في المسائل الإجرائية تتطلب موافقة تسعة من أعضائه، هذا بالإضافة إلى حق النَّقض الفيتو يشل قدرته على اتخاذ أية قرارات متجرِّدة ومجدية وعادلة، خاصة في ظل تحكَّم الولايات المتحدة الأميركيَّة والدول الغربيَّة به. أما الجمعية العامة للأمم المتحدة فقراراتها شبه معطَّلة أو شبه عقيمة كونها رمزيَّة الطابع ومعنوية لا إجرائيّة باعتبارها غير ملزِمة للأطراف المعنيَّين بها، وهي تتطلب أكثرية موصوفة عند اتخاذ قرارات هامَّة ومصيرية.
غزَّة محاصرة كُليًّا وهي معزولة عن العالم الخارجي، إلى حد قطعت الإتصالات عنها، ووسائل التَّواصل معها، وذلك لتمكين الإحتلال من أن يخفي مجازره وتهديمه الممنهج للمناطق السَّكنيَّة عن الرأي العام الدَّولي، ولاستكمال ارتكاب فظاعاته بحق البنى التَّحتيَّة ودور العبادة والمستشفيات ومراكز العلاج، والقضاء على من تبقّى من سكان غزة بعد أن قطعت عنهم المياه والكهرباء والمحروقات، لتسهيل استكمال تنفيذ المخطط الجهنمي التهجيري الذي بدأوا به.
هذه المشهديَّة أشبه بذئب ينهش حملا ضعيفاً مدعوماً بحشد من المُفترسين، أما أشقاء الضَّحيَّة فيتلهون بالتناحر فيما بينهم، ويقفون متفرجين على الذئب اللعين ينهش لحم شقيقهم من دون أن يبذلوا أي جهد لانتشاله من براثن المفترسين، ولو فعلوا شيئا أو كان بنيَّتهم أن يدفعوا عنه الجور والعدوان لفعلوا الكثير.
أهل غزَّة يعيشون أيامهم لحظة بلحظة منذ ما يزيد عن ثلاثة أسابيع، يحصون قتلاهم وهي بالآلاف قرابة ثمانية آلاف شهيد، ويودّعون أحبائهم وفلذات أكبادهم، ولا تجهيزات لتضميد جراحهم، ولم يعد من مستشفيات تتسع لاستقبال المصابين، بل ما تبقّى منهى عرضة للقصف والتَّدمير (إحدى عشر مستشفى خرجت عن الخدمة) وما يزيد عن 32 مركزا طبيا، ومئات سيارات الإسعاف وغير ذلك.
إن ما يضير حماس وأهل غزَّة ليس القتال وجهاً لوجه، إنما ارتكاب المجازر البشريَّة المتلاحقة على مرأى ومسمع من العالم أجمع، والسكوت عن استعمال أسلحة محرَّمة دوليًّا. كما يقلقها حالة عدم الإكتراث التي يبديها معظم الدَّول العربيَّة، والتي يوحي بها الصمت المريع، أو الاكتفاء بالتنديد والإدانة أو الاكتفاء ببعض التجمعات والتَّظاهرات الشَّعبيّة.
ثمة مؤشرات توحي بأن منظمة حماس غير راضيةٍ عن أداء حلفائها وداعميها الممانعين، إذ تبدو وكأنها خذلت منهم بعد أن غرَّروا بها، بتنصلهم من المسؤوليّة واستنكافهم عن الإنخراط بالحرب إلى جانبها، واكتفائهم بمناوشات محدودة ومضبوطة على بعض الجبهات وإطلاق بعض الصَّواريخ على قواعد عسكرية، متخلّين عن مبدأ وحدة الساحات الذي لوّحوا به فشجعت حماس على القيام بالعمليَّة العسكريَّة النَّوعيَّة، وخاصَّةً بعد تأكيدهم لها أنهم سيكونون إلى جانبها للجم العدو إن إراد إطالة الحرب وعدم تمكينه من الاستفراد بها، وخاصَّة أنها محاصرة وإمكانيَّاتها العسكريَّة واللوجستيَّة محدودة.
أهل غزَّة يصنعون البطولات، إذ لا يقل نصر المقاتلين عسكريًّا من حيث أهميته عن صمود أهلها، نظرا لما يحل بهم من مجازر جماعيَّة، وقلَّة حيلتهم تجاهها، وضعف إمكاناتهم، تراهم يصرون على رفض الإستسلام، مفضَّلين الإستشهاد بعزَّة وكرامة على العيش بذلّة ومهانة. كفاهم شرفاً أنهم يموتون مخلصين لوطنهم وقضيَّتهم، ولم يرهبهم قصف الطائرات، ولا الأسلحة المحرَّمة الفتاكة، هم بالفعل أبطال حقيقيون، مقاتلون ومدنيون عزَّل، المقاتلون لما سطّروه وما يسطّرونه من بطولات، كيف لا وقد أنزلوا بالعدو خسائر بشريَّة كبيرة (ما يزيد عن ألف قتيل، وآلاف الجرحى وما يزيد عن 130 أسيرا) وأخرى ماديَّة فادحة عسكريَّة ومدنية تقدّر بمليارات الدولارات، والمدنيون لما يبدونه من صبر وقدرة عالية على تحمُّل ما لحق بهم وما ينتظرهم من خسائر بشريَّة يندّى لها الجبين «60 مجزرة» راح ضحيَّتها آلاف الشهداء والجرحى، وتدمير البنى التحتية ومعظم الأماكن السكنية والعديد من دور العبادة (47 مسجداً و3 كنائس) وعشرات المدارس (كانت تستغل لإيواء النازحين) وغير ذلك كالأفران ومحطات الوقود... الخ
وأخيراً لا بدَّ من التَّوجه إلى الدول والشعوب العربيَّة ومناشدتها بضرورة بذل أقصى ما لديها من جهد لوقف حمام الدَّم في غزَّة والحؤول دون تهجير أهالي غزَّة من أرضهم قبل فوات الأوان، كي لا يكونوا بإحجامكم عن مناصرتهم لإخوانهم مشاركين في القضاء على القضيَّة الفلسطينيّة؛ وللمانعين أقول لهم لقد انكشف عجزكم وإخفاقكم وخضوعكم للتهديدات الأميركيَّة بإتاحتكم المجال للعدو للإستفراد بغزَّة وحماس، أوقفوا المناوشات وإطلاق الصواريخ المحدودة التأثير، لأنها كذر للرماد في العيون لن تنطلي على أحد، وإياكم بعد اليوم أن تجعلوا من لبنان فريسة ثانية يستفرد العدو بها.
وأختم بالتأكيد على أن أهالي غزَّة يصنعون الملاحم ببطولاتهم وصمودهم، فالمجد والخلود لشهدائهم الأبرار.