بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 نيسان 2023 12:31ص أيها السياسيون أحسِنوا تقدير الموقف وإلا فالاستقالة أشرف لكم

حجم الخط
تقديرُ الموقف، مَسألةٌ يعرفُها ويُتقِنُها جَيِّداً العَسكريون في تَحديدِ توجُّهاتِهم وخَياراتِهم في الحُروب التي يُخَطِّطونَ لها والمَعاركِ التي يَخوضونَها، وهي أيضاً من المَسائل البديهيَّةِ الضَّروريَّةِ في عالمِ السِّياسةِ، وينبغي على المسؤولين السِّياسيين ومُستَشاريهِم وصُنَّاعِ القَرارِ الذين يعملون لِصالِحهم أن يعتمِدونها منهجاً في مُقارباتِهم ومواقِفِهم السِّياسيَّة، هذا المنهجُ العِلمي يبدو أن الطَّبقةَ السِّياسيَّةَ في لبنان بمُعظَمِها بعيدةً كُلَّ البُعدِ عنه، إمَّا جهلاً بمبادئه ومَفاهيمِه، وإما عَمداً مُتعمِّداً لتمريرِ صَفقاتِهِم المَشبوهَة، وتقويضِ مُرتَكزاتِ الدَّولَةِ ومُقوِّماتِ بناها الاقتِصاديَّةِ والماليَّةِ والاجتِماعيِّةِ والثَّقافيَّةِ والتَّربويَّة... الخ، وهذا ما يُستدلُّ من مُقارباتِهم العَشوائيَّةِ للمَسائلِ المَطروحَةِ أمامَهُم وللقَراراتِ المُرتَجَلَةِ التي يتَّخِذونها، وبخاصَّةٍ في مَعرَضِ إدارةِ الأزماتِ والأُمورِ الهامَّةِ التي تمسُّ أمننا القومي. وخيرُ مِثالٍ على ذلك مُقارَباتَهم للأزَماتِ المَعيشِيَّةِ التي يُعانيها المواطنون، وفي تسييرِهِم للشؤونِ السِّياسِيَّةِ وإشرافِهِم على القِطاعِ العام، وإدارةِ المَرافِقِ الحَيويَّةِ في الدَّولة، وتعاطيهِم مع المُوظَّفين العُموميين وبخاصَّةٍ المُتَقاعِدين منهم.
كم هو مُخزٍ موقِفُ السُّلُطاتِ السِّياسيَّةِ من المُتقاعِدينَ من جميعِ الأسلاكِ، العَسكريَّةِ والأمنيَّةِ والمَدنيَّة؛ وكم هي مُخجِلةٌ تلك النَّظرةِ إليهم باعتِبارِهِم غير مُنتِجين، وكانَّهم عالةٌ على المُجتَمعِ لا يَستَحِقُّون الاهتِمام، وكم هو من المعيبِ أن تَتنكَّرَ السُّلُطاتُ اليومَ لِعطاءاتِهم وتَضحياتِهِم، وكم هو مريبٌ تناسي ساستنا اليومَ للمتقاعدينَ والتَّعامي عن حُقوقِهم ونكرانِ فضلَهَم في الزَّودِ عن الوَطنِ وبناءِ الدَّولةَ التي نهبَ السَّاسةُ (جمع سائس ويكنى به من يسوس الخيل) خَيراتِها، وتَسييرِ مَرافِقَها التي عَمِلَ السَّاسةُ على إهمالِها وتخريبِها، والحِفاظِ على إداراتِها ومؤسَّساتِها العامَّةِ التي عَملَ السَّاسةُ على إفسادِها بتَدخُلاتِهِم السِّياسِيَّة، وبتَوظيفاتِهم العَشوائيَّةِ خارِجَ مَعاييرِ النَّزاهَةِ والكفاءَة. وكأني بهم يرمونَ تبعاتِ ما اقترفت أيديهم على الموظَّفينَ العُموميين ومُتقاعديهم، بتحميلِهم، دونَ غيرِهم، أعباء الأزماتِ الاقتصاديَّةِ والماليَّةِ والنَّقديَّة.
لم يكتفِ السَّاسَةُ عندنا بتَعطيلِ الدُّستور، وإفسادِ الاستِحقاقاتِ الوَطنِيَّةِ الهامَّةِ، بخَرقِهم المُتكرِّرِ لنُصوصِ الدُّستور، وانتهاكِ القوانين وتطويِعِها لخدمةِ مَصالِحِهم، ها هُم يُقْدِمون، وعن سابِقِ تَصوُّر، على تدمير آخرِ مُقوِّماتِ الدَّولةِ، المُتمثِّلِ في القِطاعِ العام أي الإداراتِ الرَّسميَّةِ والمؤسَّساتِ العامَّةِ والأجهزةِ العَسكريَّةِ والأمنيَّة، بمُحاوَلَتِهم تَركيعِ المُوظَّفينَ وإذلالِهِم برَواتِبَ مـُتآكِلَةِ القِيمَةِ الشِّرائيَّة، والتَّعامُلِ معهم كمُحتاجين عَوزَةٍ، ومحاولةَ إسكاتِهم بصَرفِ الفُتاتِ من النُّقودِ لَهُم تحت مُسمى مُساعَدَةٍ اجتِماعِيَّةٍ تارَةً وبَدَلِ إنتاجِيَّةٍ تارَةً أُخرى، وبدلِ مَحروقات أطوارٌ أخرى وغيرِ ذلك من البِدَعِ التي يعتمِدونها للتَّفرقةِ ما بين الموظَّفينَ من حيث قِطاعاتِهم وفئاتِهم، كما من حيث من هم في الخدمةِ الفِعليَّةِ والمُتقاعِدين منهم. في حين أن المطلوب هو اعتِمادُ مِعيارٍ واحِدٍ مُوحَّد، يقوم على احتِسابِ رواتِبِ الموظَّفين على سِعرٍ ثابت للدولار الأميركي بدلاً من السعرِ الرَّائجِ لِحين جلاءِ الأزمَةِ المالِيَّة - النَّقديَّةِ الخانِقَة.
آخرُ إلإرهاصاتِ الخُزعبلاتيَّةِ، للسُّلطةِ تمثَّلت بمحاولةِ تأخيرِ العَملِ في التَّوقيتِ الصَّيفي، وكأن في تأخيرِ التَّوقيتِ ما يؤمِّنُ حُصولَ الصَّائمين على وَجباتِ إفطارِهم، أو تقصيرِ فترةِ صِيامهم، والأبشعُ منها، ردَّاتُ الفِعلِ المُتسرِّعةِ المُعترِضَةِ على تأخيرِ التَّوقيت، والتي فاقَت بفُجورِها كُلَّ التَّوقُّعاتِ وكشفت المَستورَ وغيرِ المَستورِ من نَزَعاتِ ساسَتِنا الغَرائزيَّة، وأفظعُ ما في كُلِّ ذلك مُحاوَلَةُ تَمريرِ صَفَقاتٍ مَشبوهَةٍ تمثَّلت في مُحاولةِ تهريبِ تلزيمِ بناء مبنى خاصٍّ بالمطار (Terminal II) وتشغيلهِ لمدَّةِ خمس وعشرين سنة؛ هذا بالإضافةِ إلى ما سُرِّبَ عن تلاعُبٍ في الرُّسومِ الجُمركِيَّةِ بخَفضِها، لقُرابةِ الخمس، بالنِّسبةِ لبَعضِ الشُّحُناتِ من السَّيَّاراتِ المُستَعمَلَة. فبَدا وكأن تأخيرَ التَّوقيتِ الصَّيفي بمَثابَةِ مَلهاتٍ لتَمريرِ هاتين الصَّفَقَتين المَشبوهَتَين، واللتانِ يبدو أن كَشفَهُما وفضحَ من يقفُ خلفهما دفعا بالمعنيين كُلٌّ فيما خصَّهُ للتَّراجُعِ عن السَّيرِ بهما.
نعم لدينا في لبنان ساسةٌ لا سياسِيُّون، لأن عَمَلَ السَّائسِ يَقومُ على التَّحايُلِ والمُراوغَةِ والتَّضليلِ لتَحقيقِ مآرِبَ شَخصِيَّةٍ وهذا دأبُهُم، أما السِّياسَةُ فهي عِلمٌ يَقومُ على تَغليبِ المَصلَحَةِ العامَّةِ على المَصالِحِ الفئويَّةِ كما الخاصَّة، وباعتِمادِ مُقارباتٍ مُحكمةٍ ومَحسوبَةِ النَّتائج، من خِلال تِقديرِ الوَضعِ بجَمعِ وتَحليلِ المَعلوماتِ وتَشخيصِ الواقِعِ بكُلِّ مُعطيَاتِه، وتَحديدِ عناصِرِ القُوَّةِ ومَواضِعِ الضًّعفِ والفُرَصِ المُتاحَةِ والمَخاطِر، وإعدادِ الخَياراتِ والسَّيرِ بأنسَبِها، وهذا بعيدٌ كُلَّ البُعدِ عن نهجِ السَّاسةِ عنا، المبني على تبنّي خياراتٍ غيرِ مدروسةٍ وقراراتٍ مُرتجلةٍ وغير مُحكَمَة، والانشغالِ بمصالِحِهم الخاصَّةِ وجَمعِ الثرواتِ واكتنازِ الأموال ولو من مَصادِرَ غير مَشروعَة.
في عالمِ السِّياسةِ: السياسيون خطَّاؤون، يُصيبونَ ويُخطؤون ولكن بحُسنِ نِيَّة، أما في عالمِ السَّاسة عنا، فهم معصومون عن الخطايا في الوقتِ الذي ارتكاباتُهُم بغالبيَّتِها نابعةٌ عن نوايا آثمَة، في عالمِ السِّياسةِ: السِّياسيون مؤمنون لذواتِهم علمانيون في أدائهم الوظيفي، أما في السَّاسةِ ففي خباياهم فحشٌ وفُجور، وفي ظهورِهم أشبهُ بنُسَّاكٍ زاهدينَ وأئمَّةٍ مُطَهَّرين. في عالمِ السِّياسةِ: شفافيةٌ ومساءلةٌ ومُحاسبة، أما في عالمِهِم فخفَّةٌ وتلاعُبٌ، وثمَّةَ حصاناتٌ تحولُ ما بينَ المُساءلةِ والمُحاسبةِ والملاحقةِ القضائيَّة وما بينهُم.
أيُّها السَّاسةُ، حِفاظاً على مَكانتِكم في المُجتمع، وبالتَّحديدِ في نَظَرِ أتباعِكُم وأزلامِكُم ومُحازبيكُم، ومَظاهِرِكُم تجاهَ الخارجِ، وكي لا تُكرهونَ مُستقبلاً على التَّراجُعِ عن خياراتِكُم وقراراتِكم مِراراً وتِكراراً كما دأبتُم، وقبلَ أن تنكَشِفَ فَداحَةَ خَياراتِكُم، ثمَّةَ نصيحةٌ لكم، بأن تُحسِنوا التَّحليلَ وتحذروا العَواقِب، عليكم بتقديرِ المواقفِ قبل حَسمِ خياراتِكم، وإصدارِ قراراتِكم، وأن تبنوا توجُّهاتِكُم على تَحليلِ المَوقِفِ، الذي يُمكِّنُكم من التَّعرُّفِ على عناصِر القوَّةِ ومواضِع الضَّعفِ والفرصِ المُتاحةِ والمخاطِر، وفَهمِ المُعطَياتِ وحَيثيَّاتِ الأمورِ والتَّحدِّياتِ التي تواجِهُكم، واستِقراءِ المُستقبلِ للتَّنبؤِ بالمُستَجِدَّاتِ المُستَقبَلِيَّة.
عليكم أن تؤمنوا بإن الرؤيةَ السياسيَّةَ المُستقبليَّةَ القويمةِ والواضِحَةَ المعالم، تَقومُ على تقديرٍ صَحيحٍ للمَوقِف، ما يسمحُ لكم بتَبني خَياراتٍ سليمَة ومَحسوبَةِ النَّتائج، وهذا يَتَطلَّبُ عَصفاً ذِهنِيَّاً لتَحليلِ البيئتين الدَّاخليَّةِ (المحليَّة) والخارجيَّةِ (الإقليميَّةِ والدَّوليَّة)، ونقاشاً فكرياًّ دقيقاً ومُعمَّقاً. وتحديدَ الخياراتِ المُتاحةِ وإعدادَ سيناريوهاتٍ مُختلفةٍ على ضَوئها، وشرحاً تَفصيليّاً لكلٍّ منها، يُبيَّنُ فيه حَساتُ وسيئاتُ كُلٍّ منها والمُبرِّراتُ والحِججُ الدَّاعِمةُ لتَرجيحِ بعضِها على البعضِ الآخر، وبذات الوقتِ مُعوِّقاتِ التَّنفيذِ إن وجِدَت. على أن يُتركَ لمُتَّخذِ القَرارِ اختيارُ ما يراهُ أنسَبُ منها على ضَوءِ ما لَديهِ من مُعطيَاتِ وتَحليلات، مُقابِلَ تَحمُّلِهِ لنتائجِ قرارَهِ وتَبِعاتِه، عليكم استبدالَ المقربون منكم والمحسوبون عليكم بخبراءَ مَشهودٍ لهم.
أيُّها السَّاسةُ، إن الوطنَ والشَّعبَ لم يعودا قادرينِ على تَحمُّلِ وزرِ أخطائِكُم وخَطاياكُم وقراراتَكُم المُتردِّدَة، عليكُم بتَقديرِ الموقِفِ لتَحصينِ خياراتِكم وترشيدِ قراراتِكم، وتجنُّباً لتهوُّراتِكم وهفواتِكم؛ ولكونِهِ يُساعِدُكُم في التَّصدي للأزماتِ وإدارتِها ومنعِ وقوعِها، والحَدِّ من مَخاطِرِها وتَجنُّبِ تَداعِياتِها.
أيُّها السَّاسةُ، صارحوا النَّاس، أقروا بأخطائكُم، ولا تقفوا مكتوفي الأيدي مُتفرِّجين على الأزماتِ، بادروا إلى طَرحِ الحُلولِ للخروجِ من المآزِقِ والأزَمات التي نتخبَّطُ فيها، لا تضيعوا المزيدَ من الفُرَصِ أعدُّوا خُطَّةً مُتكاملةً للتَّعافي، وأخرى للنُّهوضِ بالوطنِ، بالاستِناداً لإمكانيَّاتِنا الذاتِيَّةِ واستِغلوا ثرواتِنا الطَّبيعيَّة، اطرحوا الخُطَطَ على الرأي العامِ للنِّقاشِ واستفيدوا من النَّقدِ البناءِ والأفكارِ المَطرحَة، لا تهدروا المزيدَ من الوقتِ بانتِظارِ مُساعَدَةٍ من هنا أو قَرضٍ من هناك، ولا تُضيعوا المزيدَ من الفُرَصِ فتُقوِّضونَ كُلَّ إمكانيَّةٍ للتَّعافي والنُّهوض، تَعلموا من أخطاءِ الماضي، ومن كُلِّ ما أهدرتموه من أموالٍ تحت عُنوان دَعمِ السِّلَعِ الاستِهلاكيَّة، وصيرفةٍ وما جرّى مَجراهُما، وثقوا أن استِجداءَ المُساعَداتِ والتَّسوُّلَ على السَّاحتينِ الدَّوليَّةِ والإقليميَّةِ لن يبديا نفعا، ما حكَّ جِسمُكَ مثلُ ظِفركَ وما بنى بيتَكَ مثلُ ساعِديك.
وأحيراُ اتَّقوا الله في وطنكم وبلدِكم وشَعبِكم، وإن وجدتُم ألَّا جديداً في بناةِ أفكارِكُم، فالاستقالةُ أشرَف لكُم.