بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 شباط 2024 12:02ص إزدواجية المعايير الغربية بين غزة وأوكرانيا وانعكاساتها عربياً وإسلامياً

حجم الخط
إذا ما أخذنا عيّنة من التصريحات والتعابير والمصطلحات والمفارقات السياسية والإعلامية الغربية المتناقضة في توصيف حالتي الحرب على أوكرانيا وغزة فإننا نخلص الى إزدواجية «نفاق» واضحة في الأقوال والأفعال والتوصيفات والالتزامات وبالتالي العالم أمام مشهدية سوريالية لما يسمّى النظام العالمي، وقد تجلّت صورته القبيحة في أروقة مجلس الأمن في استباحة كليّة لكل المعايير القانونية والأخلاقية والإنسانية، عندما كانت الغلبة لمنطق استمرار الحرب والمجازر فرضتها بمداولاتها قلّة منبوذة عالمياً وإنسانياً لكنها كانت مؤثرة بشكل ساحق بناء على متطلبات الواقع الدولي القاصر بفعل أحقية الفيتو لقلّة متمكّنة من السلطة والثروة.
ومع اختلاف الواقع البنيوي بين أوكرانيا وفلسطين وبغض النظر عن فارق الدمار والضحايا والارتكابات في الزمان والمكان، حيث الثانية محتلة منذ ما يدنو من القرن بمندرجاته السادية إلّا ان البلدين يعانيان من فرض وقائع بالقوة على حساب الحق القانوني والإنساني وبشيء من التفصيل، منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022 انتفضت أميركا ومعها الغرب لدعم كييف بالمال والسلاح والسياسة والدبلوماسية والإعلام ودفعت مجمل المنظمات والهيئات والمؤسسات الدولية الإغاثية والقانونية والإنسانية لمناصرة أوكرانيا وتقديم الدعم لها وبسرعة كبيرة أدانت المحاكم الدولية روسيا ورئيسها بوتين وذرف ساسة الغرب دموعهم بغزارة على مدني وأعيان أوكرانيا بفعل ما أسموه بالهمجية الروسية وبوتين شخصياً.
في المقابل فلسطين يحتلّها الصهاينة منذ 76 سنة ويرتكبون مختلف الجرائم والمجازر برعاية ودعم هذا الغرب المنافق، وفي (7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023م) تاريخ طوفان الأقصى اخترقت المقاومة الفلسطينية بعملية دقيقة لساعات جدران الفصل العنصري التي أقامتها إسرائيل في غلاف غزة وهي التي تمعن في حصارها منذ عشرات السنين، لقد كان اختراق المقاومة إياه فعل أمني وعسكري بهدف مقايضة الأسرى لدى الطرفين وقد سد الاحتلال كل الخيارات الأخرى مقيّد بضوابط المقاومة وأخلاقها التي تبدّت للعلن في كيفية معاملتها للأسرى على ألسنة المفرج عنهم وأمام كاميرات الصحفيين ضد الاحتلال بعسكرييه ومستوطينيه استغلته تل أبيب لبث الكثير من الأكاذيب حول ارتكابات لا إنسانية تبيّن فيما بعد وحسب تحقيقات صحفية إسرائيلية انها تمّت بأيدي الجيش الإسرائيلي نفسه، من أجل التحريض الدولي لاستغلال اللحظة وتطبيق خطط الإبادة والتهجير المبيّتة.
في أول رد فعل أميركي غربي على أساس ان القتل مسألة «جمالية» عنصرية، تقاطرت مجمل الطبقة السياسية الغربية الى تل أبيب وأعلنت صهينتها وتبنّيها لرواية نتنياهو الكاذبة ودعمها المطلق لما أسمته حق الاستيطان في الدفاع عن احتلاله وأدانت بكل اللغات همجية المقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية محاولة دعشنتها بغرض ذبحها وتبرير المجازر الإسرائيلية لاحقاً، في إبادة غزة وتهجير الضفة وتغيير الوقائع في القدس بشكل نهائي.
منذ أكثر من 130 يوماً تشنّ إسرائيل عدوان إجرامي على غزة ذهب ضحيته أكثر من 100 ألف بين شهيد وجريح ومفقود جلّهم من النساء والأطفال، ناهيك عن التدمير الكلي وشبه الكلي لكل ما هو قائم فوق الأرض ورغم صرخات محكمة العدل الدولية في وجه إسرائيل كمتهمة بشكل لا يلبث الشك بالجرائم بحق الإنسانية في غزة وقبلها صرخة المنظمات الحقوقية والإنسانية والإغاثية على رأسها الأمين العام «انطونيو غوتيريش»، ردّت إسرائيل بالمزيد من ارتكاب المجازر، ولا يزال الناطقين الرسميين بإسم الأبيض يرفضون وقف لإطلاق النار ويبررون ارتكابات تل أبيب ويتفهمون حاجتها الأمنية المقدسة فوق كل اعتبار وتعطش «بنغفير-سموتريتش» للدماء ولا يرون دليلاً ملموساً على تلك الجرائم والمجازر في تصريحات مستفزة للحد الأدنى من المنطقية الأخلاقية والسياسية، فضلاً عن جولات الوزير «بلينكن» الشرق أوسطية لشراء المزيد من الوقت كي تستكمل إسرائيل مجازرها والعمل على الاستفراد بغزة وإحكام الحصار عليها بحجة الحؤول دون تمدد الصراع وقد بلغ البحر الأحمر حيث تتغاضى واشنطن عن جذر المشكلة وتتلهّى بالفروع معتبرة ان استهداف الحوثيين للسفن المتجهة الى إسرائيل والذين ربطوا رد فعلهم بما يجري من استباحة إنسانية وإغاثية في غزة، عمل غير قانوني يستدعي تحالفاً دولياً للرد، وأعلى ما وصلت إليه سقوف واشنطن تجاه تل أبيب هو التمني بخفض عدد الضحايا الفلسطينيين ليس إلّا!!!
الازدواجية الغربية هذه أطاحت بكل المقاربات الغربية في الشرق الأوسط المتعلقة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بحيث انها من الآن وصاعداً أصبح الحديث عنها مقترناً بالنفاق وبشيء من التعلّم بالفعل المنعكس الشرطي الذي يصبح نهاية الأمر بمثابة الايعاز في حالة عبّر عنها القرآن الكريم بأوضح الصور والمعاني في قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف-17]، «تَلَطُّف عَظِيم فِي تَقْرِير مَا يُحَاوِلُونَهُ يَقُولُونَ وَنَحْنُ نَعْلَم أَنَّك لَا تُصَدِّقنَا وَالْحَالَة هَذِهِ لَوْ كُنَّا عِنْدك صَادِقِينَ فَكَيْف وَأَنْتَ تَتَّهِمنَا فِي ذَلِكَ لِأَنَّك خَشِيت أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْب فَأَكَلَهُ الذِّئْب فَأَنْتَ مَعْذُور فِي تَكْذِيبك لَنَا لِغَرَابَةِ مَا وَقَعَ وَعَجِيب مَا اِتَّفَقَ لَنَا فِي أَمَرْنَا هَذَا».
{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف-18).
عندما تفردت واشنطن برعاية مسار أوسلو أدرك العرب والمسلمون انهم أوكلوا قضيتهم المركزية للخل الوفي يحرس أسوارها بالقضم التدريجي لصالح الاحتلال الصهيوني.
عند مقارنة الموقفين الأميركي والغربي بشكل عام بين القضيتين الفلسطينية والأوكرانية تتضح الفضيحة المدوية بإنعكاساتها ليس فقط على العلاقة الغربية والعربية والإسلامية في الوعي العميق بل على مجمل النظام العالمي السائد بحيث تجب مقاربات أكثر عدالة وتمكيناً خصوصاً لمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ليكون أكثر فاعلية في تحقيق مضمون إنشائه في حفظ الأمن والسلام الدوليين على ان المقاربة الأهم تكمن في كيفية إيجاد العرب والمسلمين مساراً أكثر فاعلية في الفضاء الدولي خصوصاً عندما يواجهون تحدّياً كالذي يحدث في غزة رغم قدراتهم البشرية والمادية الكامنة التي لو فعلت لرفعتهم لمستوى الدولة العظمى ما لم تكن الأعظم.
بعض المحللين يرون بوادر تغيير بالموقف الأميركي يقوده ثنائي الخارجية والدفاع «أنتوني بلينكن - لويد أوستن» والملحق الأوروبي عبر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد «جوزيب بوريل» ويعيدونها لأسباب موضوعية منها إصرار «الدوحة» على اقحام التفاوض كمسار بديل يفضي لوقف إطلاق النار تحت عنوان الهدن الإنسانية يستند الى صمود غزة شعباً ومقاومة واعلام وحاجة «بايدن» لانجاز يقدمه للشعب الأميركي على أبواب الانتخابات الرئاسية وقد أظهرت استطلاعات الرأي تخلّفه بشكل كبير نتيجة دعمه المجازر الإسرائيلية والوعي الذي 
أحدثته غزة في أذهان الأميركيين والأوروبيين الذين يحاولون ولو متأخّرين الإبتعاد عن وصمة عار الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بدعم من حكوماتهم.
وعندما نمدّ بصرنا كمحللين الى الزمن القادم نجد انه لأول مرة تضحّي إسرائيل في حربها مع الفلسطينيين بالاستراتيجيا من أجل انتصارات تكتيكية وعملياتية محدودة خدمة لمصلحة نتنياهو السياسية الشخصية، أشار الى تآكلها أكثر من مسؤول إسرائيلي بفعل غموض اليوم التالي، ساعد في ذلك ان إسرائيل يقودها متطرفون حمقى متعطشون للدماء، يعبّرون عن المخزون العنصري للمجتمع الصهيوني، وفي المقابل انه ورغم قساوة المعركة كان آداء المقاومة الفلسطينية مهنياً بإمتياز فيما بدا انه تبادل تاريخي للأدوار بين العرب والإسرائيليين وقد عبّر عن ذلك «يوسي كوهين» رئيس الموساد السابق في «هآرتس» تحت عنوان «الخطر الكبير» قائلاً: في ٧ أكتوبر حصلنا على دعم العالم «الحر» وأتى جميع اصدقائنا إلى تل أبيب، لو كان في إسرائيل قيادة سياسية على حجم الحدث لكنا اليوم جزء من تحالف دولي ضد الارهاب وكنا قد استطعنا من اخراج حماس من غزة وكنا قد أعدنا حزب الله إلى ما وراء الليطاني، ان التهور المسعور لبيبي وغانتس قد حوّلنا في نظر العالم إلى مجرمي حرب وقتلة الأطفال، اليوم وبعد ثمانين يوماً من الأخطاء والتقديرات غير المدروسة تجد دولة إسرائيل لأول مرة منذ الـ ٤٨ في صراع الوجود واللاوجود، إذا استمر هذا الفريق في قيادتنا فنحن عائدون إلى بولندا وروسيا وبريطانيا وأميركا ذلك إذا سمحوا لنا بالعودة.
«بيبي» يغرق و يأخذنا معه إلى الهلاك، لا زال يراهن على جرّ  أميركا إلى هذه المعركة وهذا رهانه الأخير، لا أحد في قيادة الجيش ولا في قيادة الأجهزة الأمنية لديه البأس الكافي ليطلعكم على مدى هشاشة موقفنا على الجبهات.
الوقت لم يمضِ على تدارك الموقف و لكن على القيادة السياسية أن تأخذ فوراً قرارات صعبة ومريرة تبدأ بالوقف الفوري للحرب وأن تتحمّل الثمن اليوم وإلّا  سوف يتحمّل جميع بني إسرائيل الثمن ولن يبقى من حلم الدولة اليهودية إلّا أحاديث الذكريات ونحن نحتسي القهوة على قارعة الطريق في أوروبا.