بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 حزيران 2021 12:01ص الحاجة سنية.. الكابيتال كونترول.. والعيب!

حجم الخط
انها الحاجة سنية، بائعة الصابون العربي وذائعة الصيت في ذاك الزمان الغابر الجميل، اما كيف ولماذا ستسلط هذه المقالة الضوء على تلك السيدة المعروفة بأنها كانت «على البركة» ذلك لأن العبرة لا بل العبر التي يجب ان نتلقفها ونتعلمها من تجربة وحكاية الحاجة سنية تجعلنا أكثر اصراراً وتمسكاً بسرد قصتها بدقة وامانة، للتمييز والمقارنة بوضوح ما بين «قرش الحلال وقرش الحرام» من جهة، كما الاضاءة أيضاً على كل ما يدور من حولنا في هذه الأيام العجاف من مآس وكوارث اجتماعية ومعيشية ومالية وصحية وممارسات لا تمت بأي صلة الى أبسط قواعد الأخلاق والانسانية والضمير من قبل الحكام والمسؤولين والسياسيين والمصرفيين الفاسدين مهما علا شأنهم.

كانت في الخمسينات من عمرها، عندما كنا صغاراً ننتظر قدوم الحاجة سنية إلى منزلنا في برج البراجنة آنذاك عند السابعة من كل صباح، صدقوني انها كانت أدق من ساعة «بيغ بن» في موعد وصولها اليومي، حيث كنا ننتظرها لكي نسمع منها اخبار «الضيعة بأمها وأبيها وطولها وعرضها»، وكانت تحمل في يدها كيساً تضع فيه قطع الصابون العربي «ريحتها بتشق القلب» وعدد تلك الصابونات لا يقل أو يزيد عن عشرين صابونة يومياً، وبعد ان تصبّح بالخير على الوالد والوالدة - رحمهما الله - وهما يرتشفان قهوة الصباح، تبدأ الحاجة سنية بسرد اخبار «الضيعة»: فلان اعطاكم عمره والدفن الساعة... وفلان سيتزوج و«العرس» اليوم الفلاني... وفلانة انجبت ولداً أو بنتاً... إلى ما هنالك من اخبار، وكأنها تعكس دور وسيلة اعلام بحد ذاتها حتى كان يُطلق على الحاجة سنية صفة «نشرة أخبار».

كانت تلك المرأة تجوب شوارع البلدة من أقصاها إلى أقصاها، بيت بيت وحي حيّ، وزاروب زاروب، وبعد ان تنتهي من سرد نشرتها المفصلة عن اخبار «الضيعة» فرحاً أو ترحاً تعرض بضاعتها من الصابون، لكي تبيع صابونتين بنصف ليرة والاربع بليرة لبنانية واحدة، حيث كان لتلك الليرة مجدها وعزها وتألقها من دون منازع.

وكانت الوالدة حينها تحاول يومياً ان تشتري منها أربع صابونات وتحاول اعطائها ليرتين بدل الليرة الواحدة من ثمنها وذلك لدعمها والعطف عليها ومساعدتها من دون ان تجرح مشاعرها، الا ان الحاجة سنية كانت ترفض هذا العرض المغري وتغضب ولا ترضى ان تأخذ أكثر من ليرة واحدة - «وهذا هو حقي فقط» كما كانت تقول - وهذا ما اوصاني به «محمد طالب» أي زوجها الذي كانت تحبه وتطيعه حتى العبادة، كما كانت تقول أيضاً، وتعطيه «الغلة» مساء كل يوم وهي عبارة عن خمس ليرات دون زيادة أو نقصان، كانت كافية للعيش معاً على بركة الله دون مد ايديهما لأي كان من النّاس.

اما لماذا قصة الحاجة سنية والتركيز على تلك الحقبة الجميلة بناسها وزمانها؟ ذلك للمقارنة مع هذه الأيام وهذا الزمن الرديء، حيث كانت ترفض بإصرار أخذ أكثر من حقها ولو بقرش واحد. اما حقوق النّاس اليوم، ولا سيما المودعين منهم في المصارف اللبنانية، التي يحاول القيّمون عليها بشتى الوسائل والاساليب الملتوية سرقة تلك الأموال والسطو عليها وذلك عن طريق إصدار تعاميم الواحد تلو الآخر وعن طريق مصرف لبنان في سياق ما يعتبرونه هندسات مالية «جوفاء» بالأرقام والتواريخ تحت ذريعة إعادة تنظيم إعطاء المودعين اموالهم في أساليب بهلوانية وفي محاولة لاقناع النّاس ان المصرف المركزي وجمعية المصارف ستعيد إلى المودعين اموالهم بالتمام والكمال.

لكن ليس هكذا أيها السادة تورد الإبل يا حكام بلادي، وآخر بدع تلك المنظومة الفاسدة من المصرفيين والسياسيين إعطاء المودعين مبلغ 400 دولار كاش و200 دولار بالعملة اللبنانية بحسب تعرفة المنصة الرسمية (أي 12 ألف ليرة لبنانية) وايضاً مبلغ ما يوازي 200 دولار بالعملة اللبنانية بحسب سعر صرف المنصة أيضاً توضع في بطاقة تمويلية لاتاحة الفرصة للناس لشراء حاجاتهم عبر هذه البطاقة. فيما الدولار الأميركي يحلق صعوداً مع تفلت ليس له حدود ولا يمكن لجمه أو الحد من ارتفاعه حتى الآن.

بالله عليكم، هل هناك وقاحة وفساد وسرقة ونهب منظم أكثر مما نسمع عنه ونراه في هذا السياق؟؟ وبالتالي من هي الجهة المخولة أياً تكن ان ترسم خريطة طريق للمودعين في كيفية التصرف بأموالهم وحقوقهم أياً تكن الحجج والذرائع الواهية خاصة وان صدور مثل تلك التعاميم جاء بعد جهد جهيد وبعد صرخات مدوّية لأصحاب الحقوق والودائع، زد على كل ذلك ان ما اعتبره «ممثلي الشعب» من إنجاز تمكنوا من تحقيقه عبر اللجان النيابية المشتركة بشأن إقرار البطاقة التمويلية لحوالى 500 ألف عائلة لبنانية والذي احيل إلى جلسة الهيئة العامة للمجلس النيابي في أوّل تموز، إلى جانب البحث بموضوع الكابيتال كونترول لمناقشته ذلك يطرح أكثر من علامة استفهام والف سؤال وسؤال حول الضمانة عمّا إذا كانت كل مشاريع القوانين تلك ستقر وتعتمد من قبل المجلس دون خلافات قد تودي بها جميعاً وتعيدنا إلى نقطة الصفر.

اما السؤال الأهم في كل ما يجري بشأن البطاقة التمويلية، ترى هل بالإمكان على سبيل المثال لا الحصر ان يدفع المواطن أقساط المدرسة والجامعة أو فاتورة المياه والكهرباء والمولد والهاتف الثابت والخليوي وان يدفع ايضاً لسائق التاكسي أو السرفيس بموجب هذه البطاقة، وايضاً من يضمن لذاك المواطن الطيب بأن تلك البطاقة ستُقبل خلال شرائه الأرز والسكر والعدس والطحين والصابون والزيت من السوبرماركت والمحال التجارية وعلى أي أساس سيتم اعتماد سعر الدولار الذي يتبدل صعوداً في كل يوم لا بل في كل ساعة، «ومن أين سنأتي بحاجة سنية أخرى لا ترضى أخذ أكثر من حقها»، في مثل هذه الأيام.

لقد سمعت أحدهم ينبري ويقول عبر شاشات التلفزة بالفم الملآن وبكل وقاحة تعليقاً على تعاميم مصرف لبنان المتتالية وما اقرته اللجان النيابية المشتركة بشأن البطاقة التمويلية والكابيتال كونترول بأن «الكحل أحسن من العمى» وعلى ما يبدو أن «صاحبنا» وهو من السياسيين الذين «يتأتئون» قبل ان يتفوه بتصريحاته الطنانة الرنانة التي لا تغني من جوع، ويبدو انه لا يشعر ولا يسمع ولا يرى ماذا يحصل امام محطات الوقود من الوقوف بالطوابير واذلال النّاس ما بعده اذلال، وايضاً ما يجري امام الصيدليات وفي السوبرماركت، وقد لا يعرف كغيره من السياسيين والحكام والمصرفيين الفاسدين كم يبلغ ثمن ربطة الخبز وما هو خطر نفاد مادة المازوت من المولدات لتحل العتمة ناهيك عما يحصل من تأثيرات على عمل الانترنت وخدمات أوجيرو وغيرها، كل ذلك قد غاب عن بال مسؤول «الكحل أحسن من العمى» وهذا ما ينطبق أيضاً على كلام وزير الطاقة الأخير بأن سعر صفيحة البنزين قد يصل إلى مئتي ألف ليرة والا على المواطنين ان يفتشوا عن وسيلة نقل أخرى غير السيّارة «وشي تاني»!!

كل ذلك والحكام والمسؤولون في البلد غارقون في سجالاتهم وتغريداتهم واعتماد فن السباب والشتائم والمشاحنات في ما بينهم، عاجزين عن تشكيل حكومة في بلد الأرز لبنان منذ ما يقارب التسعة أشهر والوطن ينزف والمواطن يئن جوعاً وعوزاً ومرضاً وفقراً، من دون رحمة، وباتت معاناتهم اليومية على كل شفة ولسان.

نعم لقد سئم النّاس وملوا مما يتم التداول به في نشرات الاخبار التي أصبحت «كورقة نعوة» ولم تعد تعنيهم الاجتماعات والاتصالات ولا المبادرات أياً تكن لأنهم أدركوا ان المسؤولين في هذا البلد يعيشون في بروجهم العالية، وهم في وادٍ والناس في وادٍ آخر.

اما ماذا تبقى في هذا البلد من ركائز يمكن الاعتماد عليها من جديد، للأسف يمكن القول انه لم يبقى له شيء بعد انهيار المؤسسات والعملة الوطنية والشغور الحاصل في الإدارات الهامة كسلك القضاء ومجلس القضاء الأعلى والمجلس الدستوري وغير ذلك فيما التشكيلات القضائية لا تزال نائمة في الادراج حتى الآن دونما مبرر، علماً ان سوسة السياسة قد نخرت هذا السلك الأهم في البلد وبات الفساد يتحكم ولو بقلة من القضاة المعروفين بالاسم والشهرة وما كلام نقيب المحامين ملحم خلف الأخير حول هذا الموضوع الا بمثابة جرس إنذار وناقوس خطر لما يجري في هذا القطاع الذي يعلق عليه كل اللبنانيين الآمال.

اما وقد آلت أوضاع البلد الخطيرة إلى ما آلت إليه وقبل الوصول إلى «الارتطام الكبير» وتحسباً للأسوأ، ما على الحكام والمسؤولين في لبنان، الا التفتيش عن «حاجة سنية» أخرى ترضى عن قناعة بما كتبه الله لها من رزق، فيما الكابيتال كونترول يضيع بين «حانا ومانا»، وإلى الحكام والسياسيين والمصرفيين الفاسدين نقول بصريح العبارة: «خافوا الله، عيب واللي استحوا ماتوا»!.