بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 شباط 2023 12:00ص الحالة الإنسانية

حجم الخط
 ينظر الناس، أول ما ينظرون، إلى الحالة الإنسانية السائدة في البلاد، فيحكمون من خلالها، على رقيّ شعبها وتقدّمه ونجاحه، أو على تخلّفه وتأخّره وفشله، في اللحاق بركب المجتمعات المتطورة. وإذا ما أردنا النظر في حالة البلاد عندنا، وحاولنا تطبيق المعايير نفسها، أصابنا الهول مما نرى. أصابتنا الدهشة، وتملكنا الرعب والخوف. تماما كما ندهش، حين ننظر في حالة مريض، يتفحصه الطبيب مليا، وينظر في كافة أنحاء بدنه، فيجده قويا متينا متماسكا. ثم يعيد النظر فيه، فيعييه الوقوف على مرضه. فيصير بعد ذلك، للبحث عن مرضه الخفي الذي يقلقه ويكاد يميته، وهو مع ذلك متماسك الأعضاء. متماسك البنية. ليس فيه أي ضعف، في كافة أنحاء جسمه.
كثيرون سمعوا عن هذه البلاد (لبنان)، وما تشكو منه، من ضعف يطالها ويهز إستقرارها ويؤلمها أشد الإيلام. فيجعلها تعاني طيلة الأوقات من كثرة الأوجاع. من شدتها. من خفوتها. ومن ظهورها المفاجئ. ومن تناوبها عليها بين الحين والآخر. حتى لكأنها تمضي معظم أوقاتها، وهي تمضمض منها الروح. حتى لكأنها تكاد تسقطها أرضا لتوّها.
كثيرون جاءوا إليها من أقصى الأرض لتفحصها والوقوف عليها وإستطلاع حالتها. ولكنهم سرعان ما كانوا يعودون عنها، وهم يتحدثون عن بنيتها السليمة: أرضا وشعبا ومؤسسات. فيأخذهم العجب العجاب، لأمراضها، ولا يعرفون منها الداء. ولا يعرفون لها الدواء. وأود أن أذكر ها هنا، في معرض الحديث عن مرض هذه البلاد، أنني كنت اراهم يتساءلون. وأريد أن أتوسع بالشرح والتفصيل، حتى لا يفوتني الإجابة عن سؤال...:
1- لسان حالهم مثلا كان يقول: وجدنا في هذه البلاد ( لبنان)، أجمل بقعة من الأرض. يتحدثون عن بحرها و عن شواطئها، بكل رؤوسها وخلجانها، ومصبات الأنهار فيها. فيعجزهم لسانهم عن الوصف. يقولون: إن الجبال المقدسة تغسل أقدامها في مياهها كل يوم. ثم تأتي الشمس والرياح والأمطار، فتكمل ما بدأه النهار. فيعودون عنها، بعد أن يغبطوا شعبها على جنة عندهم، عرضها السموات والأرض.
 2- زوار هذه البلاد ( لبنان)، يخالطون شعبها منذ قديم الزمان.  تعرفوا إليه في مواطنه منها. وفي مهاجره عنها. فكانوا يجدون عنده الحفاوة البالغة بالضيف. وكانو يلمسون منهم كرم الضيافة. وحسن الحياة والمعاش. وحسن تطوره وتقدمه. فشعب هذه البلاد منذ قديم الزمان، كان قد ساهم في تأسيس الحضارات. ولم يقصر يوما، عن علم ومعرفة. ولم يقصر يوما، عن حرف وعن كتاب. بل كان في طليعة الشعوب الحضارية. وكانت حياته كلها ولا تزال، مدرسة لشعوب العالم، آن يحتكون به، ويعاشرونه، ويشاركونه، في الحياة وفي المعاش.
3- وأهم ما كان  يعجب الزائرين والدارسين لهذه البلاد (لبنان)، هو أن مؤسساتها العظيمة تنافس أرقى المؤسسات في جميع بلدان العالم. يقف عليها الخبراء، من أي إختصاص جاءوا، فيجدوا أصالتها وعمق تجربتها. هم يجدون أيضا القوانين التي تحميها والدستور الذي يصونها. والقواعد التي نشأت عليها. والبنى التى رفعتها عاليا، فكانت مضرب المثل لسائر البلدان.
يعود الزائرون لهذه البلاد (لبنان) والناظرون في أوضاعها، فلا يجدون سببا يزعج، أو يقلق في جميع هذه الدعائم التي تنهض عليها عادة، جميع الأوطان. فيتملكهم العجب. وتدخل الحيرة إلى قلوبهم. فيأسفون على بلاد، هذه صفاتها، وهي تسير بين بلاد العالم مثقلة الخطى، مكبلة، متعثرة، مثل رهينة، تطلب محبسها، حتى لا ترى على مثل الهيئة التي هي عليها.
يعود العارفون، الواقفون، الكاشفون.. يعود النطاسيون عن هذه البلاد (لبنان)، فتكاد تتملكهم أعظم الآلام، لما رأوه وشاهدوه، في كل ناحية . وفي كل دسكرة. في كل مؤسسة، وفي كل إنسان عرفوا عنه، أنه ينتمي إلى هذه البلاد. فيتحققون أمرها. وينظرون مجددا في خيبتها بين سائر البلدان.  فيقفون على سر أسرارها. على ما يقتلها ويرميها أرضا. تتناتشها الصقور و العقبان. وتتطلع إليها الوحوش من أقصى الأرض، فتتحضر لها في المصائد. حيث تتمكن منها، وتنهشها نهشا، فلا تقوم لها قائمة من بعد.
ما هذا اللغز المحير للعلماء وللأطباء، وللنطاسيين والخبراء، الذين أعجزتهم هذه البلاد؟
الأمر بسيط جدا، يقول العارفون بدائها. ألا ترون أن كل فرد فيها، يستقل بنفسه، ويحسب أنه الزعيم عليها. وأنه أحق من غيره في تولي أمرها.  مثل أخوة قاصرة، مات عنها والدها. وإذا تجاوزنا النزاع الفرداني بين الأشخاص، واجهنا نزاع الجماعات والأحزاب. واجهنا نزاع أهل الدين الواحد وأهل الطائفة الواحدة وأهل المذهب الواحد. واجهنا أيضا وأيضا نزاع الملل والنحل والطوائف والأديان. واجهنا نزاع الحارات في البلدة الواحدة وفي المدينة الواحدة. واجهنا نزاع الزعماء والشيوخ ومن تقدم من أهل المجتمع، على أنه النصير والمجاهد والمناضل والقدير،  والعالم والنحرير.
التفكك إذا، هو علة هذه البلاد. طيش الأشخاص. وطيش الزعماء: زعيم الطائفة والقادة الروحيين. وكذلك النافذين، ممن يدعون تمثيلا كاذبا، نالوه بقوة المال، أو بقوة السلاح. فلا نرى في هذه البلاد من يشفق عليها. لا نرى من يشفق على نفسه. ولا على أهله. ولا على الأجيال التي طوت أزمانها، وهي تبني. ثم تبني. حتى تستحق هذه البلاد.
أجيال كثيرة وراء أجيال، قدمت مالها ورجالها. ما بخلت بعلمها يوما. ولا بخلت بمعارفها. ما بخلت بأرواح أبنائها. حتى إستطاعت هذه البلاد، أن تكون في يوم من الأيام، سويسرا الشرق، لا فينزويلا الشرق، كما يريد جبابرة هذا الزمان.
مرّ لبنان بتجارب كثيرة: تجارب علمية، فكان يصدر الأدمغة. وكان يصدر العلماء.  وبتجارب إستعمارية. وبتجارب وتجارب: من إحتلال. من ضغوط. من منافسة. من حصار. من دمار. من تهديد بالحديد والنار. فكنا نراه يتجاوزها وينتصر عليها. ويسجل تفوقه، في كل الميادين التي يخوضها. أما اليوم، فقد أضاع بوصلته، ولم يعرف أن يحافظ على الحالة الإنسانية التي يمكن، أن تنهض بالبلاد، من قيعان الظلمة والجهل والشرذمة والتفكك، حتى حدود السقوط في مهاوي التاريخ، فلا يكون له شأن فيما بعد، إذا ما أحتسبت الشعوب، ذات الشأن والكبرياء.
فكيف لنا أن نعيد البلاد إلى النظام والإنتظام. كيف لنا أن نعيد الإعتبار لجميع المؤسسات التي ورثناها عن الأجداد. كيف لنا أن ننهض بهذه البلاد التي كانت ذات يوم سيدة البلاد. بل كيف لنا أن نعيد للحكم هيبته، وللقانون هيبته، وللدستور هيبته وللمؤسسات هيبتها. وللشواطئ والجبال والوديان والسهول. كما للمدن والقرى، جمالها، إذا ما أردنا إنقاذ البلاد.
قولا واحدا نقول: تعالوا نتخلى عن الشخصانية. عن الفردانية. عن الزعامتية. عن العتو والقهر والإستلاب، في إستعمال المال والسلاح.  بل تعالوا إلى كلمة سواء، فيكون لنا أن نستعيد على الفور الحالة الإنسانية التي إفتقدتنا وإفتقدناها، في غياهب الجهل في التسلط على رقاب البلاد والعباد.
 أذكر تماما، حين كنت في سن الثانية عشرة، أن والدي، رحمه الله، طلب مني أن أذهب إلى محول الساقية/ سكر الماء، في أعلى نبع عودين، لأضبط منه الماء إلى ساقية بستاننا. 
 حذرني، أن في أعلى نهر شدرا، مجنون أسمه نعمة. طلب مني أن أحذره فقط، ولا أخشاه، لأنه مسالم. 
 إنتبهت بدقة إلى طلبه. وصرت كلما تقدمت في الصعود إلى أعلى النهر، أتلفت يمنة ويسرة حولي، أفتش عن نعمة المجنون بين شجر الدلب، على حوافي النهر.
فاجأني المجنون. كان عاري الصدر. أسمعني بلطف، أنه يريد مني طلبا ضروريا. قال لي:  أنت ستصل حتما إلى محيط طاحونة أحمد خليل. سلم عليه. و قل له: أن أخاك نعمة ، يريد منك «عصا سنديان»، فأنا قطعت هنا كل شجر الدلب، فما وجدت بينها عصا سنديان. 
  والسؤال المجنون: هل نجد عصا سنديان، بين أغصان شجر الدلب. هل نجد شخصية تتمتع ب»الحالة الإنسانية»، في بلاد صارت كل شخصياتها من شجر الدلب. تلك هي المسألة.!

* أستاذ في الجامعة اللبنانية