بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 حزيران 2023 12:00ص الحريات والقضايا الخلافية في المادة التاسعة من الدستور اللبناني

حجم الخط
ينقسم الرأي في لبنان حول وجوب توحيد نظام الأحوال الشخصية لجميع المواطنين اللبنانيين، وضرورة إقرار قانون خاص للزواج المدني، ينظم العلاقات ويحكم النزاعات الناشئة عنه، بصرف النظر عن الطائفة التي ينتمي إليها كل من الزوجين. ولا شك في أن الإعتبارات الدينية، وكذلك السياسية والإجتماعية المرتبطة بها، تشكّل مجالاً خصباً للمعارضين لإقرار مثل هذه القوانين الموحّدة، ومن بين هذه الإعتبارات ما ينفي الحق بإقرار الزواج المدني في لبنان بشكل مطلق، ومنها ما لا يرقى إلى ذلك لاقتصارها على نقد ما جاء في مشاريع قانون الزواج المدني المقترحة منذ نشأة الجمهورية اللبنانية، وصدور قرار المندوب السامي الفرنسي رقم /60 ل.ر./ تاريخ 13/3/1936، وتعديلاته بالقرار رقم /146 ل.ر./ تاريخ 18/1/1938، والقرار رقم /53 ل.ر./ تاريخ 30/3/1939 الذي نص صراحةً على عدم تطبيق القرار رقم /60 ل.ر./ تاريخ 13/3/1936 على المسلمين، والقانون الصادر بتاريخ 2/4/1951 لتنظيم صلاحيات المراجع المذهبية للطوائف المسيحية واليهودية الذي نص في المادة 25 منه على أن الزواج المدني الذي يعقد في الخارج بين لبنانيين، أو بين لبناني وأجنبي، في بلد يقر الزواج المدني فقط، يعتبر صحيحاً ويخضع للقانون المدني ولسلطة المحاكم المدنية، مروراً بمشاريع القوانين الموحدة للأحوال الشخصية 1974 و1976 و1997، ومشروع قانون الزواج المدني الإختياري 1998، وصولاً إلى كافة مشاريع القوانين التي تستمر محاولات التقدم بها لغاية اليوم من أجل إقرار قانون موحد للأحوال الشخصية في لبنان، وهو ما يرى فيه المؤيدون ضرورة وطنية، ومسلَّمة قانونية وسيادية، ومتلازمة أكيدة مع قيام الدولة المدنية على أسس سليمة تكفل الحريات وتحقق المساواة وعدم التمييز بين جميع المواطنين.
مسألة الحريات واحترام الأديان والنظام العام وهذه القضايا الخلافية حملتها المادة التاسعة من الدستور اللبناني وما ورد في نصّها الآتي: «حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإِجلال للَّه تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية». وقد أكّد المجلس الدستوري في قراره رقم 2 تاريخ 8/6/2000 على أن هذه المادة وإن كانت تعطي للطوائف استقلالاً ذاتياً في إدارة شؤونها ومصالحها الدينية، إلا أن ذلك لا يحجب حق الدولة في سن التشريعات المختلفة والمتعلقة بتنظيم أوضاع هذه الطوائف وفقا لأحكام الدستور، وأن حق الدولة في التشريع هو حق من حقوق السيادة، وأن سلطة التشريع هي سلطة أصيلة ومطلقة حصرها الدستور بهيئة واحدة دون غيرها هي مجلس النواب.
ويطرح موضوع الزواج المدني في لبنان العديد من القضايا والمسائل القانونية:
1- قضية اختصاص المحاكم اللبنانية المدنية بالنظر في المنازعات الناشئة عن عقد الزواج الذي تم في بلد أجنبي بين لبنانيين أو بين لبناني وأجنبي بالشكل المدني المقرر في قانون ذلك البلد سنداً للمادة 79 من قانون أصول المحاكمات المدنية. وقد حددت هذه المادة حالات انعقاد صلاحية المحاكم المدنية اللبنانية للنظر في المنازعات الناشئة عن الزواج المدني المعقود في الخارج، بين لبنانيين، أو بين لبناني وأجنبي. حيث تشترط هذه المادة أولاً: عقد الزواج بالشكل المدني المقرر في قانون دولة مكان إبرام العقد، لا بالشكل الديني. وثانياً: أن يكون مكان إبرام العقد خارج لبنان. وثالثاً: أن يكون أحد الزوجين لبنانياً على الأقل. ورابعاً: ألا يكون كلا الزوجين من الطوائف المحمدية وأحدهما على الأقل لبنانياً، ففي هذه الحالة ينعقد الإختصاص للمحاكم الشرعية والدرزية. إلا أنه يبقى الإختصاص العام للمحاكم المدنية، وتحديداً للغرفة الإبتدائية سنداً للمادة 90 من قانون أصول المحاكمات المدنية، وذلك في حالات عدم اختصاص القضاء المذهبي الدرزي، كحالة بطلان الزواج المدني ولو بين درزيين سنداً للمادة 16 من قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية، وحالة الزواج الباطل بين الدرزي والمسلم السني أو الشيعي، سنداً لتقاليد وأعراف الطائفة الدرزية التي تشترط أن يكون الزوجين درزيين.
2- قضية اختصاص المحاكم اللبنانية المدنية بالنظر في المنازعات الناشئة عن عقد الزواج المدني المبرم على الأراضي اللبنانية بالنسبة لمن لا ينتمون لطائفة دينية ومذهبية وفقاً للقانون المدني اللبناني سنداً للمادة 10 من القرار /60 ل.ر./ تاريخ 13/3/1936.
3- قضية القانون الواجب التطبيق في المسألة السابقة المتعلقة بعقد الزواج المدني على الأراضي اللبنانية بالنسبة لمن لا ينتمون إلى طائفة دينية ومذهبية في ظل الفراغ التشريعي المتعلق بعدم وجود قانون مدني موحد للأحوال الشخصية، أو لعدم وجود قانون مدني ينظم الزواج المدني في لبنان. وفي هذه الحالة يطبق القاضي اللبناني المبادئ العامة والعرف والإنصاف سنداً للمادة 4 من قانون أصول المحاكمات المدنية. وقد نصت هذه المادة على أنه: «لا يجوز للقاضي تحت طائلة اعتباره مستنكفاً عن إحقاق الحق: 1- أن يمتنع عن الحكم بحجة غموض النص أو انتفائه. 2- أن يتأخر بغير سبب عن إصدار الحكم. وعند غموض النص يفسره القاضي بالمعنى الذي يحدث معه أثراً يكون متوافقاً مع الغرض منه ومؤمناً التناسق بينه وبين النصوص الأخرى. وعند انتفاء النص يعتمد القاضي المبادئ العامة والعرف والإنصاف». ومع ذلك، تبقى هذه الحالة خاصة، ومتزامنة مع انتفاء وجود قانون موحد للأحوال الشخصية، أو قانون ينظم عقد الزواج المدني بين اللبنانيين على اختلاف طوائفهم. وهي لا تقدم رؤية شاملة لضمان حق المواطنين بوجود قانون موحد ينظم أحوالهم الشخصية، وعقود الزواج الخاصة بهم، كما هو حاصل في سائر الدول.
4- قضية العمل على إقرار وجود قانون مدني موحد للأحوال الشخصية، أو قانون ينظم عقد الزواج المدني المبرم على الأراضي اللبنانية، ويعطي الحق بإجرائه لجميع المواطنين اللبنانيين بصرف النظر عن انتماءاتهم الطائفية الدينية والمذهبية، ودونما حاجة لشطب قيدهم الطائفي من سجلات الأحوال الشخصية. وذلك لتلافي الغموض حول القواعد القانونية الواجبة التطبيق، ولضمان مصالح وحقوق المتقاضين.
وتتفق المراجع الدينية اللبنانية المسيحية والإسلامية على رفض إقرار قانون زواج مدني في لبنان لاعتبارات وأسباب تتعلق بمخالفة القانون المدني لأركان وشروط وأحكام الزواج الديني، وهو ما يؤدي بنظرها إلى بطلان الزواج المدني، وإلغاء الآثار المترتبة عليه من الناحية الدينية. كما أن هناك مسألة قانونية مهمة تتعلق بالصفة الإختيارية لقانون الزواج المدني، إذ يعتبرها المعارضون للزواج المدني بأنها هرطقة قانونية كونه من غير الجائز تشريع قانونين للأحوال الشخصية، وترك الحرية للمواطن في اختيار الإحتكام لأيٍّ منهما. وأنه من خصائص القاعدة القانونية أنها قاعدة إلزامية تطبق على جميع المواطنين في الدولة. ويمكن الرد على هذا الرأي من جهتين: أولهما أن الصفة الإختيارية لهذا القانون غايتها الإبقاء على أنظمة وقوانين الأحوال الشخصية العائدة للطوائف الدينية، وهي متعددة في الأصل، بعكس ما يحاول المعارضون تصويره على أنه تنازع بين نظامين للأحوال الشخصية أحدهما ديني، والآخر مدني. وحجة المعارضين في هذه المسألة تؤدي بالمنطق القانوني السليم إلى وجوب إلغاء قوانين الطوائف الدينية لصالح قانون مدني موحّد يطبق على جميع اللبنانيين، لا إلى منع إقرار قانون ينظم الزواج المدني بين جميع اللبنانيين على اختلاف طوائفهم الدينية. وثانيهما أن قواعد قانون الزواج المدني لا تنقصها صفة الإلزام بالنسبة لجميع المواطنين الذين يختارون عقد الزواج وفقاً لأحكام هذا القانون، وهو نفس الأمر المنطبق على صفة الإلزام التي تتمتع بها القواعد القانونية المنصوص عليها في أنظمة الأحوال الشخصية المعمول بها لدى جميع الطوائف الدينية بالنسبة إلى كافة المواطنين الذين يختارون عقد الزواج وفقاً لقانون الطائفة التي يتبعونها. وبالتالي، فلا فرق موضوعياً بين إطلاق تسمية الزواج المدني الإختياري على القانون، أو الإكتفاء بتسمية قانون الزواج المدني دون كلمة الإختياري، سوى الإشارة بأن المشرع اللبناني لا يهدف بِسَنِّه لهذا القانون إلى إلغاء أنظمة وقوانين الأحوال الشخصية العائدة لجميع الملل الطائفية والدينية، وذلك احتراماً منه لهذه الأنظمة والقوانين، وضماناً لمصالح القائمين عليها والتابعين لها سنداً للمادة التاسعة من الدستور اللبناني. ومن الأسباب القانونية الموجبة بنظر المؤيدين لإقرار الزواج المدني أنه يدخل في إطار حق الدولة في تنظيم الشؤون العامة، وفي سن التشريعات المتلائمة مع حاجات المجتمع وتطلعاته. وأنه يتلاءم مع الدستور الذي يولي مسألة الحريات عنايته الخاصة، كحرية المعتقد التي اعتبرتها المادة التاسعة من الدستور اللبناني مطلقة، كما اعتبرتها مقدمة الدستور اللبناني من أركان النظام الأساسي للدولة، إلى جانب العدالة الإجتماعية والمساواة. وأن النقص التشريعي في مجال الأحوال الشخصية يوجب على المحاكم اللبنانية تطبيق القانون الأجنبي المعقود في ظله الزواج المدني في الخارج، مما يسيء إلى مبدأ سيادة الدولة في مجال التشريع.
وهكذا لا تزال الحريات والقضايا الخلافية في المادة التاسعة من الدستور اللبناني مثار جدل بين المؤيدين والمعارضين لإقرار قانون موحد للأحوال الشخصية في لبنان . وإذا كان المنطق القانوني السليم في الدولة يفرض إقرار هذا النظام والقانون الموحد لتندرج في إطاره حالات الزواج الديني والمدني على السواء على غرار الدول التي اعتمدت النظامين الديني والمدني معاً منذ سنوات طويلة كاليونان التي بدأت بتطبيق الزواج المدني في سنة 1982 إلى جانب الزواج الديني الأورثوذوكسي، وقبرص التي سمحت لرعاياها بالزواج المدني اعتباراً من عام 1990 إلى جانب الزواج الديني الذي تعترف به الكنيسة والدولة، إلا أنه ما زالت للإعتبارات الدينية والسياسية والإجتماعية في لبنان رأي آخر.