بيروت - لبنان

اخر الأخبار

20 أيار 2023 12:01ص الدَّولةُ التي تعجزُ عن إبلاغ موظَّف بموعد جلسة قضائيَّة هي حُكماً عاجزةٌ عن ملاحقتِه

حجم الخط
صدق المثل القائل «يلي استحوا ماتوا» إذ لم يبقَ في الطَّبقة السياسيَّة الحاكمة وأجهزة إنفاذ القانون في لبنان سوى يلي «ما يختشوش» كما يقول الأشقاء المصريين. لم يعد بخافٍ على أحد بما في ذلك البُسطاء من عامَّة الناس أن المولجين بمتابعةِ القضايا الوطنيَّةِ الهامَّة من سياسيين ورجال قانون قد وضعوا النُّصوصَ الدُّستوريَّةِ والقانونيَّةِ ومبادئ العدالةِ والانصافِ جانباً، وتنكَّروا لروحيَّتِها ومبادئها ومقاصِدِ واضِعيها، وها هُم في مَعرَضِ مُمارسةِ مهامِهِم الدُّستوريَّةِ والوظيفيَّةِ وتنفيذِ القانون واتِّخاذِ القراراتِ القضائيَّةِ يَبيعونَ ويَشترون ويُداهنون ويُهادنون من دون خجلٍ أو وجل، يراهنون على تَمريرِ الوقتِ ولا يَخشونَ لومَةَ لائم.
كان واضحاً منذ انكشافِ حالةِ الاهتراءِ داخلَ النِّظامِ اللبناني وانكشافِ الأزماتِ الاقتصادِيَّةِ والماليَّةِ والمَصرِفِيَّةِ والنَّقديَّةِ وافتِضاحِ مَسألةِ تمكين النافذينَ في الدَّولةِ والمساهمين في المصارفِ من استلامِ ثرواتِهم المودعةِ في البنوك وتهريب بعضِها للخارجِ أنهم لا يبالونَ لما تنطوي عليه فِعلتُهُم الآثمَةُ من مؤامرةٍ على الدَّولةِ والشَّعبِ والعِملَةِ الوطنيَّة، والتي أدَّت إلى انهيار القِطاعِ المَصرفي الذي أضحى عاجزاً عن تأمين ولو سُحوباتٍ ضروريَّةٍ مُتواضِعَةٍ لِصغار المودعين نتيجةَ إفراغِهِ من الأوراق النَّقديَّةِ.
رغم فداحةِ ما حصل، وتبعاتِه الكارثيَّةِ وتعالي الأصوات المُناديَةِ بإزاحةِ حاكم مصرف لبنان عن موقِعه في ظِلِّ الشُّبهاتِ الخطيرةِ التي حامت حول الدَّور الذي قام به في هذه اللعبةِ التآمُريَّةِ اللعينة، أصرَّ كِبارُ المَسؤولين وأصحابُ القرارِ في المَنظومةِ الحاكمةِ على احتفاظِهِ بمَنصِبِه، وكان لِكُلٍّ منهم تبريراتُه المُعلنةِ وأسبابُه غير المُعلنة، واستمروا على مواقِفِهم رغم تحريكِ العديدِ من المَلفَّاتِ الجزائيَّةِ في وَجهِ الحاكِمِ وبعضٍ من مُعاونيه داخِلَ لبنان وخارِجَه، والتي كان أهَمُّها تَشكيلُ وفدٍ قَضائي أوروبي من عِدَّةِ دولٍ أوروبيَّة، حضرَ الوفدُ إلى لبنان وأجرى مفاوضات شاقَّة مع المعنيين في لبنان بغرض الحصول على بعض البيانات الماليَّة والمعلوماتِ ذات العلاقة، وقد نجح بعد جهدٍ جهيدٍ في الاستماع إلى الحاكم وبعض معاونيه وشركائه، بوجودِ قضاةٍ لبنانيين، ولو بصفة شاهِدٍ «تمهيداً لاستجوابهم في ما بعد بصفة مدعى عليهم»، وكان هذا بادياً منذ السَّاعات الأولى لقدومِ الوفد إلى لبنان والمفاوضاتِ التي أجراها وجلساتِ الاستماع. وقد نصَحنا، منذ ما يزيدُ عن السَّنة عبر عدد من المُقابلاتِ المُتلفزةِ وبمقالاتٍ مكتوبة نشرت في صحف محليَّة، من يعنيهم الأمر بأنه، حرصاً على هيبةِ الدَّولةِ وسِمعتها وحِرصاً على المال العام، أضحى من الواجِب كف يد الحاكمِ أو تجميد صلاحيَّاته على أقل تقدير لحين الفصل في القضايا المُثارة في وجهه، نظراً لأهميَّةِ الصَّلاحِيَّاتِ المُناطةِ به ولكونه مؤتمن على احتياطي المَصرِفِ المركزي من ذهَبٍ وعُملاتٍ أجنبيَّةٍ ووطنيَّة، كما لكونه مَسؤولاً عن السِّياسَةِ الماليَّةِ والنَّقدِيَّة في الدَّولة، إلاَّ أن المسؤولين بمُعظمِهِم شَكَّلوا ظَهيراً داعِماً للحاكِمِ مُعرِبين عن وقوفِهِم خلفَهُ ظالماً كان أم مَظلوماً، رافضين كل تلك المُقترحاتِ بل عمدوا إلى تجديدِ ولايتِهِ السَّابقة.
الجِهازُ القضائي بدورِه بدى مُربكاً وغير فاعل إن لم نقل قاصراً عن القيام بدوره، إلى حد أنه لم يوحِ بحياديَّةِ تجاه ما أثيرَ حول الحاكِمِ من شُبهاتٍ تنطوي على جرائم خَطِرَة تُشكِّلُ مساساً صارِخاً بأمنِ الدَّولة من خلال التَّعرُّضِ والتأثير سلبياً على عملتها الوطنيَّة واستقرارها المالي والمصرفي، لا بل بدى في بعض الأحيان وكأنه يقوم بدور المُدافِعِ عن الحاكِمِ رغمَ تشكيل الأخير لفريقٍ كبيرٍ من محامي الدِّفاع سواء كان داخِلَ لُبنان أم خارِجَه. وآخرُ تلك الإرهاصاتِ تمثَّلَ في الاعلانِ عن عجزِ أجهزةِ إنفاذِ القانون في لبنان عن تبليغ الحاكم موعدَ جلسة الاستجواب التي حدَّدتها له القاضية الفرنسيَّة. بالطَّبعِ لم يكُن العذرُ المدلى به موفَّقاً إذ بنيَ على تجهيل مكان تواجُد الحاكِم الذي يشغلُ أهمَّ منصبٍ وظيفي في الدَّولةِ فيما لو استثنينا الرِّئاسات الثلاث، فكيف الحالُ والكُلُّ يعلمُ أنه مَغمورٌ بحِمايةٍ أمنيَّةً مُشدَّدةً هو وأفراد عائلته وحاشيته، وقابعٌ في مبنى المَصرفِ المركزي، فهل من الحِكمةِ بمكان تبرير قصورُ الدَّولةِ اللبنانيَّةِ عن تبليغ أحدِ موظَّفيها على هذا النَّحو؟ وهل سيَغفرُ المُجتمعُ الدَّولي كما القضاءين الأوروبي والفرنسي للدَّولةِ اللبنانيَّةِ وجهازها القضائي هذا الأمر، وخاصَّةً أن الجرائم الملاحقِ بها الحاكم هي من اختصاص المراجِعِ القَضائيَّةِ المُختصَّةِ في لبنان؟ وكيفَ الحالُ وهي لم تحرِّك ساكِنا في هذا الخُصوص رغم أنها صاحِبَةَ الوِلايةِ القَضائيَّةِ في مُلاحَقتِه.
لستُ على عِلمِ بمن نَصحَ الحاكم بعدم المثول أمامَ القضاءِ الفرنسي، وما إذا كان مُوجِّهُ النُّصحِ له قد أسدى خِدمةً صادقةً بقصدِ إعفاء الحاكمِ من المُلاحقةِ أمام القَضاء الفرنسي، وما قد يترتَّبُ على ذلك من عِقاب؟ أم أنه أسدى بها لتوريطِهِ والدَّولةِ اللبنانيَّةِ وجِهازِها القضائي بمواقِفَ مربكةٍ ستؤولُ إلى نتائجَ لا تُحمَدُ عُقباها؟ أقول هذا وإني لمدركٌ أن الحاكِمَ ليس المُرتكبَ الوحيد ممن تجبُ ملاحقتهم، وليس بأخطرِهم، ولكنَّه المايسترو الناظِم والمُسهِّل والمُشرف العارفُ بكُلِّ تلك الارتكاباتِ وخباياها ومن يقفُ خلفَها.
ثمَّةَ أسئلةٌ مَشروعةٌ أخرى تَطرحُ ذاتها في ظِلِّ كل ما حَصَلَ ويَحصَلُ، يصعُبُ حصرها، منها: ماذا لو رَكِبَ الحاكِمُ طائرةً أم يختاً جهارةً أم سرَّةً وغادرَ الأراضي اللبنانيَّةِ إلى جهةٍ مجهولةِ أو دولةٍ غير مُنضَمَّةٍ إلى مُنظَّمَةِ الأنتربوول على غِرارِ ما فَعلتهُ رنى قليلات وأمثالها وهم كثُرُ؟ وماذا لو افترضنا أن الحاكم لا يزالُ مُستمراً في ارتكاباتٍ جُرميَّة لغايةِ الآن، كتهريبِ مبالغَ طائلةٍ من الأموالِ نقداً أم تَحويلاتٍ نقديَّةٍ إلى الخارِج؟ وماذا لو تكشَّفَ بعد غيابِه أنه كان يتآمرُ على ماليَّةِ الدَّولةِ وعِملتِها الوطنيَّةِ قَصدِيَّاً ورُبما عن سابِقِ تَصوُّرٍ وتصميم؟ وماذا لو انكشفَ أنه كان يُسوِّقُ للقروضِ المدعومةِ وهو يَعلمُ بهشاشةِ الوضعِ المالي؟ وماذا لو تبيَّن لاحِقاً أنه كان يرشو بعض المسؤولين والنَّافذين في الدَّولةِ بموافقاتِه على تَحويلِ أموالِهِم إلى الخارِجِ أم سحبَها نقداً؟ أو أنه كان يميِّزُ بين المودعين بحيثُ يُتيحُ لبعضِ النافذين تَحويلَ إيداعاتهم إلى دولار أميركي بقيمة 1500 ل.ل. لكل دولار، ويحظُرُ ذلك على الباقين؟ وماذا لو كان ما يزال لغايَةِ الآن يُمعنُ في التَّمييز بين بعضِ الموظَّفين في صرفِ بعضِ تعويضاتِهم بأسعار دولار 1500 ل.ل. أو يزيد قليلا أو صرفِ تعويضاتِ من اقترب تاريخُ إحالتِهم إلى التَّقاعُدِ لقاء منافِعَ مَتبادَلَة؟ وماذا لو كان يُحابي بعض المُوظَّفين النافذين ممن قاربوا السن القانوني للإحالةِ على التَّقاعد بتحويل تعويضاتِهِم إلى دولار أميركي على سعر 1500 ل.ل. ويمتَنِعُ عن تحويلِ تعويضاتِ الآخرين؟ وماذا لو كان يمعنُ في الإيعازِ بتحويلِ إيداعاتِ بعضِ النافذين وكبار الموظَّفين من إيداعات عاديَّة إلى ما يُسمى بإيداعاتٍ حديثة «فريش» تمهيداً لتَمكينِهِم من سَحبِها؟ وماذا لو كانت تلك الخدماتُ جميعُها أو بعضُها تقدَّم لقاء الامتناعِ عن توقيفِهِ أو تنفيذ مُذكراتٍ بحقَّه أو أيَّةِ منافِع أخرى؟ إن منطق الأمور يدعونا للقولِ بأن من هو في وضعٍ يُشبهُ وضعَ الحاكِمِ لو كان غير مدعومٍ لأودِع في السِّجن منذُ سنوات وبالتَّحديد منذ انفجار الأزمتين الماليَّة - النَّقديَّة والمَصرفيَّة، ولمنع من مغادرةِ الأراضي اللبنانيَّة ولحجزت أموالُهُ لِحينِ التَّحقُّقِ من مدى قانونيَّةِ إجراءاتِه وقراراتِه؛ وكُلنا يعلمُ أن الكثير ممن هُم في السُّجون قد أوقفوا احتياطيَّاً لمُجرَّدِ توفر شُبهاتٍ بسيطَةٍ وغير مدعَّمة بقرائن ولأشسباب تافِهَة. وعلى اقل افتراض يقتضي الأمرُ تشكيلَ لجنةٍ لتقصي الحقائقِ للوقوفِ على مشروعيَّةِ قراراتِها وموافقاتِهِ خلالِ سنوات الرَّيبةِ الأخيرَة.
لست من دُعاةِ توقيفِ الأشخاصِ لمُجرَّد توفُّرِ شُبهات بسيطَةٍ ضدَّهم ، ولكني من دُعاةِ اتِّخاذِ تدابيرَ وإجراءاتٍ كافيَةٍ لمنعِ المُرتكبين من التَّهرُّبِ من المُلاحَقَةِ الجزائيَّةِ كما للحؤولِ دون تَخلُّصِهِم من العِقاب، ومن الدَّاعين أيضاً لعدمِ التَّهاونِ في الأمور الماسَّةِ بأمنِ الدَّولةِ واستقرارِها المالي والنَّقدي والسِّياسي، والحِفاظ على حُقوق المودِعين، خاصَّةً أولئك الذين سَهِروا الليالي وبذلوا كثيرَ الجُهدِ وقدَّموا التَّضحياتِ في سبيلِ بناءِ الدَّولةِ وخدمةِ مواطنيها، كما أولئكَ الذين هاجَروا وعانوا الأمرين في جَمعِ أموالِهِم طلباً للعيشِ الكريم، وآثروا على تحويل جنى عُمرِهِم إلى المَصارِفِ اللبنانيَّة بناءً لإغراءات وإيحاءاتٍ مُضلَّلةٍ من أهلِ السُّلطةِ وفي طليعتِهم حاكم مصرف لبنان الذي لطالما كان يُبشِّرُ بأن العِملةَ الوَطنيَّةَ بألفِ خير وأن لا داعي للقلقِ على الإيداعات.
وأختُمُ بدَعوةِ أصحابِ القرارِ في لبنان، ومن بيدِهِم الحَلَّ والرَّبط إلى الإقلاع عن هذه المُهاتراتِ المكشوفَةِ السَّاذَجَة المُبتذلَة، والكفِّ عن الاستِمرارِ بسياسَةِ التَّعامي عن الموبقات، والتَّعامُلِ مع المَسائلِ الوطنيَّةِ بشيءٍ من المَسؤوليَّة، وإلاّ سيورِّطون لُبنان وأنفُسهم بمآزِقَ نحن بغنى عنها، أقلُّها إبراز لبنان كدولةٍ مارِقَةٍ غير مُتعاونةٍ مع المُجتمَعِ الدَّولي، وأجهزةِ إنفاذِ القانون على أنها غير موثوقٍ بها، ومُتخاذِلَةٍ عن القيامِ بواجِباتها؛ كما أدعو الشَّعبَ اللبناني المغلوب على أمره، والمُستسلِم لقدره، والمُستنكفَ عن الدِّفاعِ عن حقوقِهِ التي أهدرتها زُمرٌ حاكِمَةٌ وِجِبَت ملاحقتُها بما تنص عليه المادتان 335 و336 من قانون العقوبات التي وصفتهُم بجَماعاتِ الأشرار. أما الناشطونَ فأدعوهم للنُّزول إلى السَّاحات للمطالبَةِ بكفِّ يدِ رياض سلامة لِحين جلاء نتائجِ التَّحقيقات ولتوكلُ مسؤولياتُهُ لنائب الحاكم وهو أهلٌ لها، وحثِّ الدَّولَةِ إلى تسليمِهِ للقَضاءِ الفَرنسي بعد صدورِ مُذكَّرَةِ توقيفٍ بحقِّهِ طالما أنَّها أعلَنت عن عَجزِها عن تبليغِهِ فَحَريٌّ بها الإقرارُ بعَجزِها عن مُلاحَقتِه وباقي المُجرمين الأشرار.