بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 كانون الثاني 2024 12:01ص الشرق الأوسط على مشارف تحدّيات استراتيجيَّة تُنذر بنشوب حروب موجعة

حجم الخط
نودِّع عام ونستقبل عام والنزف الدَّموي المتواصل الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة مُستمرٌّ وقد شارف شهره الثالث على الانتهاء، ولا مؤشِّر لغاية اليوم يوحي باقتراب نهاية مُسلسل المجازر التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني برعاية غربية. وقد تجاوز عدد الضَّحايا الأبرياء من الفلسطينيين إثنين وعشرين ألفا، وهو مرشَّحٌ لتجاوز الخمس وعشرين ألفا، بعد انتشال الجثث تحت الأنقاض، هذا عدا الجرحى والمعوَّقين. يبدو أن مَصاصي الدِّماء في كيان العدو لم يرتووا بعد من دماء الأبرياء، ولم يكفهم ما أحدثوه من دمار، كل ذلك ينذرُ بأن ثمَّةَ مزيداً من المَجازرِ وتدميراً لما تبقّى من أحياء سَكنيَّة، واستهدافاً لما تبقّى من مشافٍ ودورِ عِبادةٍ ومراكزِ إيواء للنَّازِحين.
جُل ما قامت به إسرائيل في حربها الحالية هو الانتقام من الشَّعب الفلسطيني، لخلخلته استقراره ككيان، ولقهره جيشها الذي أُسقِطَت هيبتُهُ وانهارَت مَعنويَّاتُه، ولكسره غرور قادتها وعنجهيَّتهم، ورغم كل ما اقترفته من فظاعات لم تنجح في كسرِ الإرادَةِ الصَّلبَة للشعب الفلسطيني وفي ثنيه عن الدِّفاع عن وطنه ومُعتقداته.
إسرائيل سعت منذ إعلانها الحرب إلى تنفيذ مُخطَّطها الجهنمي الهادف إلى تجريد الفلسطينيين من هويَّتهم وحرمانهم من وطنهم، وتهجيرهم من كل أراضي فلسطين. وهذا ما يفسِّره تخريبها للبنى التَّحتيَّة في قطاع غزَّة وقضائها على كل أسباب الحياة فيه وإصرارها على حشر ما تبقّى من سُكانه أحياء في بقعة جغرافيَّة بالكاد تتَّسع لهم وقوفاً، لدفعهم مكرهين إلى خروج منه بأية وسيلةٍ ومن دون عودة. ولكن كل تلك المحاولات تواجه بإصرارٍ من الشَّعب الفلسطيني الذي يستبسل في الدِّفاع عن أرضه، ويتحمّل الأمرين للبقاء فيها ولو في العَراء.
يُناور الكيان الإسرائيلي، بتَمرير هُدَن مُؤقتة متتاليَة تخصص لتبادل بعضٍ من أسراه بمعتقلين فلسطينيين، مستعيناً بأجهزة مخابراتٍ الدُّول الغربيَّة علَّه يظفر بتحديد أماكن احتجازهم، ولكنه رغم كل الجهود الاستخباراتيَّة لم يفلح في تحديد مكان وتحرير ولو رهينة واحدة من دون تفاوض، وهذا يمثل ذروة الإخفاق لأجهزة مخابراته. الفلسطينيون فطنوا لمكائد العدو الإسرائيلي، فعمدوا بعد المبادلة الأولى على رفض الهدن المؤقَّتة وتجزئة عمليَّة التَّبادل مصرّين على وقف نهائي للقتال على الرَّغم من علمهم أن شعبهم بحاجة ماسَّة لأيَّة هدنة تتيح المجال لهم التقاط الأنفاس، وقد أظهروا ثباتاً في إصرارهم على وقف نهائي للقتال، مطمئنين للوضع الميداني لمقاومتهم.
القادة الإسرائيليون لا يرغبون في وقف أعمال القتال رغم كل إخفاقاتهم العسكريَّة والإستخباراتيَّة، وحجم الخسائر اليوميَّةِ التي يتكبَّدها جيشهم في ساحات القتال، ويفرضون حظراً إعلاميًّا لإخفاء خسائره، التي ينزلها بهم مقاتلو كتائب القسَّام وسرايا القدس الذين يوثقون الكثير من عمليَّاتهم العسكريَّة التي يستهدفون بها جحافل جيش الكيان رغم إقحامه العديد من الفرقِ والألوية المزوّدة بأحدثِ الأسلحةِ تحت غطاء جوي مستدام، ويستدل مما يُنشر من تَسجيلات أنهم ينفذون عملياتهم بحِرَفيَّةٍ قتاليَّة عالية، وإن بأسلحةٍ وعبوات مرتجلة وشبه بدائيَّة.
الحرب في غزَّة أضحت اليوم أشبه بلعبة عض أصابع، الإسرائيليون يراهنون على الوقت وتراكم الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين كوسيلة ضغط على حماس لدفعها إلى الخضوع تجنُّباً للمزيد من الخسائر في الأرواح والممتلكات هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى على أملِ الحصول على معلومات قد ترشدهم إلى أماكن وجود أسراهم، علَّهم يقومون بعمليَّة عسكريَّة استعراضيَّة لتحريرهم ليتَّخذونها مُسوِّغاً لتسجيلِ انتصارٍ وهميّ، هم في أمسّ الحاجة إليه للتَّهرّبِ من تبعاتِ إخفاقاتهم التي ستَجعلهم موضع مساءلة قضائيّة وسياسيّة.
تدعونا الموضوعيَّة للإقرار بأن الفلسطينيين قد لحق بهم الكثير الكثير من الخسائر البشريَّة والماديَّة، ولكن ثمَّة مفارقةٌ غريبةٌ خاصَّة بهذه الحرب، تتمثَل في أن الفلسطينيين دخلوها منقسَّمين مُتناحرين، إلَّا أنه رغم تخاذل السُّلطة الفلسطينيَّة في لعبِ دورٍ تكاملي لاستغلال النشاط العسكري والقيام بما يلزم لتخفيف المعاناة عن أهالي غزَّة، نلحظُ أن الآلام قد وحَّدت صفوف الفلسطينيين أقلّه على المُستوى الشَّعبي، وعزَّزت العلاقة ما بين منظَّمتي حماس والجهاد الإسلامي، ولكن على الجهة المقابلة نرى أن الإسرائيليين كانوا شبه مُوحَّدين قبل الحرب، ولكن استحكمت الخلافات في ما بينهم خلالها، وبالتالي سيخرج الكيان الإسرائيلي منها مفكَّكاً سياسيًّا، وقد بانت ملامح التَّصدُّعات داخل الإئتلاف الحكومي، وبخاصة ما بين رئيس الوزراء ووزير الدفاع، كما تتظهَّر للمراقب ملامح انفصام جزري ما بين الحكومة الإسرائيلية والشعب الإسرائيلي المتعاطف مع ذوي الأسرى الرافضين للحرب حرصاً على حياة الأسرى وتجنُّباً للمزيد من الخسائر بين صفوف الجيش الإسرائيلي الذي بدا عاجزاً عن تحقيق أية نتائج عسكرية تُذكر.
الخسارة الإسرائيليَّة في الواقع لا تقتصر على التَّصدُّع السياسي الدَّاخلي إنما تخطَّت ذلك إلى حد يجيزُ لنا القول أن إسرائيل فقدت مصداقيَّتها لدى المجتمع الدَّولي بما في ذلك الدُّول الغربيَّةُ التي لطالما كانت داعمةً لها، كما انكشفت حقيقتها العنصريَّة وزيف مزاعمها الديمقراطيَّة لدى شعوب الأرض قاطبةً، كما تظهَّرَ صلفُها وتغطرُسها ووحشيُّتها في ما ترتكبه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيَّة وإبادة جماعيَّة للشعب الفلسطيني؛ هذا على المُستوى السياسي، أما على المُستوى المادي فبالإضافة إلى خسائرها في صفوف جيشها من ضبَّاط وعناصر قد خسرت مئات المدرعات وناقلات الجند والمعدات اللوجستيَّة وغيرها من التَّجهيزات بالإضافة إلى ما استهلكته من صَواريخ وذخائر متطورة باهظة الأثمان، والتي تقدَّرُ بملايين الدُّولارات، فكيف الحال فيما لو أضفنا إليها ما أصاب بنيتها المدنيَّة من تدمير، وما لحق باقتصادها من شَلل في شتى المجالات، وثمَّةَ من يُقدِّرُ مجمل خسائرها الماديَّة بما يتجاوز الخمسين مليار $ أميركي، وهذا ليس مجرَّد تكهن، إنما تقديرات أعلنتها مراجع رسميَّة في إسرائيل. والخسارة الأكبر تتمثَّلُ في خسائرَها المَعنويَّة التي لا تقدَّر بثمن ويصعبُ تعويضها، ونكتفي بالإشارة إلى أنها فقدت مُبرِّرَ وجودِها لدى صانعيها، كما لدى غالبيَّة اليهود المُقيمين فيها.
مما لا شكَّ فيه أن طوفان الأقصى وما تبعه من حرب قد أحرج القادة الإسرائيليين والذين وجدوا أنفسهم في مصيدة يصعب الخروج منها، فإما هالكين وإما مهشَّمين سياسيًّاً، وليس من شكٍّ في أنه سيقضي على المستقبل السياسي للكثير منهم؛ ولكن الإسرائيليون ليسوا الوحيدين المحرجين، فمنظَّمةُ حماس قد أحرجت بحجم الخسائر البشريَّة والماديَّة التي لحقت بقطاع غزَّة وأهله كردّة فعل على الطوفان، ولكن يبقى لديهم ما يبررون فيه ما قاموا به، إذ لا سبيل لتحرير وطنهم سوى الجهاد في سبيله بعد فشل كل المحاولات السِّلمية وتمادي العدو في غطرسته وإذلاله للشعب الفلسطيني وتطاوله على مقدساته. أما الإدارة الأميركيَّة فحرجها يكمنُ في كونها انزلقت إلى حرب لم تختر توقيتها وفي مواجهةِ عدوٍ أو خصمٍ (إيران) أشبه بالأخطبوط تُحيط أذرعه بكافَّة قواعدها ومعسكراتها المنتشرة في منطقة الشَّرق الأوسط، وبالتالي هي مضطرَّة للتَّعامل مع مناوشات الأذرع بدلاً من مقارعة العدو في عقر داره. أمَّا باقي الدُّول الغربيَّة التي انساقت خلف أميركا في إعلان دعمها لإسرائيل، فإحراجها ينبع من كونها تناصرُ نظاماً إجراميًّا عُنصريًّا مُتغطرساً. 
القادة العرب وهم أكثر المعنيين بالقضيَّةِ الفلسطينيَّة إحراجاً، إذ القضيَّةُ الفلسطينيَّةُ قضيَّتُهم التاريخيَّة، والقدس قبلتهم الأولى، والشَّعب العربي الفلسطيني شعبهم، وحرجهم يكمنُ في كونه يؤلمهم ما يتعرَّض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعيَّة، ولكنهم في ذات الوقت لا يرغبون في السَّير خلفَ منظَّمة حماس التي يرونها تعمل وفقَ أجندة إيرانيَّة، ويزيدهم إحراجاً أن معظَمهم قد انجرف في تيَّار التَّطبيع مع الكيان الإسرائيلي الذي بدوره لم يُراعِ مشاعرهم، رغم سيرهم في التَّطبيع وتخلّيهم عن مبادرتهم السِّلمية التي أطلقوا في وقت ليس ببعيد.
وحدها إيران ستخرج من هذه الحرب ظافرةً، بعد أن أثبتت أنها قوة إقليميَّة قادرةٌ على مناوءة قوى عُظمى ولو بتكتيكاتٍ مواربة، ولكنها ستجد نفسها مضطرة للمضي قدماً في تطلّعاتها الإستراتيجية وهي تخوض حرباً مزدوجه أولها الرقابة الدُولية وثانيها صراعها مع الزمن لتدارك الانقضاض عليها قبل نفاذها بامتلاك سلاح نووي، يمكنها من القفز من المدار الإقليمي الشرق أوسطي إلى مدار دولي عالمي.
حرب غزَّة ستضع أوزارها قريباً، وبقرار إسرائيلي يؤخذ على مَضض بعد انتهاء إسرائيل من عمليَّةِ تدمير كامل البنى التَّحتية لقطاع غزَّة، وقد شارفت على نهايتها، وذلك تلافياً للمزيد من الإخفاقات، وتجنُّباً لمزيد من الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي، وحفاظاً على أرواح أسراها، وإن اقتضى الأمر الإستجابة لشروط حماس، أقلَّه تبييض السُّجون الإسرائيليَّة من المعتقلين؛ ولكن ثمَّةَ تحدِّيات إقليميَّة ودوليَّة ملحَّة على قدر كبير من الأهميَّة ولا تقبل التَّأجيل توحي بأن منطقة الشرق الأوسط على مشارف تحدياتٍ استراتيجيَّة تنذر بنشوب حروب موجعة: أولها وجوب استنباطِ حلٍّ نهائي للقضيَّةِ الفلسطينيَّة، وثانيها كيفيَّةُ ترويض الأخطبوط الإيراني بتقليم أذرعه والحؤول دون تمكُّنه من حيازة أسلحة استراتيجيَّة نوويَّة وغير نوويَّة، وثالثها البحث عن سُبل وآليَّات لضمان أمن الملاحة البحريَّة والمضائق، حتى وإن اقتضى الأمر إعادة النَّظر في الاتفاقيات الدَّوليَّة ذات العلاقة، أو إقامة أحلاف عسكريَّة لهذا الغرض.

* عميد مُتقاعد