بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 تشرين الأول 2023 12:01ص العروبة تُوحّد ولا تُفرّق

حجم الخط
العروبة هي انتماء حضاري تاريخي لشعب محدد في المكان الجغرافي واللغة وما أثمرت على مدى التاريخ من حضارة وتفاعلت مع عدة حضارات ازدهرت في منطقتها في فترات تاريخية مختلفة التنوّع ساهمت في إغناء وإثراء للحياة العربية المشتركة، وانطلقت منها المسيحية منذ أحفاد تغلب وغسان وبثورة الإسلام تكوّنت النواة البشرية الأولى للعروبة التي ولدت فيه ونمت معه واكتملت به.
لقد شهد تاريخنا مشاركة كاملة بين المسلمين والمسيحيين في بناء الحياة المشتركة العربية على مرِّ الأجيال أثمرت في بناء حضارة اتحدت باللغة و اشتركت معها عوامل عميقة عديدة مهّدت في تكوينها، أبرزها الحرية والسلامة المشتركة والأديان والعقائد والدم والتاريخ والطبيعة وتجارب من الآلام والتحديات.
ان الانتماء للعروبة يشمل كل الناطقين بلغة الضاد المشاركين في تاريخها وتراثها مهما كانت مذاهبهم الدينية، وإن انتماء الإنسان العربي لها لا يكون بعصبية عرقية وإنما باللسان فمن تكلم العربية فهو عربي، وهي علاقة انتماء إلى وضع تاريخي تدركه منذ مولده وتصاحبه حتى وفاته ولو كفر بها فإنه لا يستطيع أن ينسلخ عنها ولو أراد، إذ ان الانتماء إليها وليد تطور تاريخي سبقه ولحقه فكان عربيا بغير إرادته لأنها علاقة انتماء تكوّنت خلال مرحلة تاريخية طويلة كإستجابة موضوعية لحتمية تقدّم الشعوب بعد أن استنفدت العلاقة الأسرية ثم العشائرية ثم القبلية والعروبة لا تلغي هذا الانتماءات بل تحدّدها في إطار علاقة الجزء مع الكل.
ان انتماء الإنسان لقومه والاشتراك معهم في توفير مستلزمات الحياة والتواد والتراحم معهم ومحبتهم هو سنّة الله في خلقه والتعدد هو من آياته ليكون حافزا للتعارف والتضامن لا للشقاق والتناحر.
ان العروبة ترفض المفاهيم العنصرية، ولا تستهدف إذابة الأقوام بما يفقدهم قسمات شخصيتهم وبذلك تمكّنت كل المجموعات البشرية التي كانت تعيش على الأرض العربية في أن تنصهر في بوتقة قومية واحدة أعادت تشكيل الشخصية القومية بعقلية منفتحة تحمل كل التجارب الإنسانية دون انغلاق على الذات ودون تبعية في إطار اجتماعي له مقومات تمقت الشعوبية والفئوية.
العروبة رابطة انتماء ببُعد إنساني وجوهر توحيدي تكاملي، وعندما تكوّنت كانت وجودا ذا خصائص مميّزة من العناصر التي التحمت معا فكوّنتها، وارتكزت على مميزات خاصة هي:
١- وحدة اللغة التي صنعت وحدة الفكر والعقل.
٢- وحدة الأرض الممتدة من شمال البحر المتوسط وجبال زغاروس وطوروس، ومن الشرق الخليج العربي وبلاد فارس، ومن الجنوب المحيط الهندي وهضبة الحبشة فالصحراء الأفريقية الكبرى، ومن الغرب المحيط الأطلسي.
ان من حقائق الجغرافيا ان المنطقة العربية هي قلب العالم، وعلى أرضها وفي بحارها وأجوائها توجد أخطر ممراتها الاستراتيجية، وأهم طرق تجارته ومواصلاته، وشكّلت حلقة الوصل بين قارات ثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، فهي تطلّ على أهم البحار والمحيطات وتتحكم بأربعة مضائق بحرية هي باب المندب، وهرمز، والسويس، وجبل طارق.
٣- وحدة التاريخ الذي يسجل أطوار الحياة المشتركة، والتي تصنع وحدة الضمير والوجدان والذاكرة.
٤- وحدة التراث الفكري والثقافي والتقاليد والأعراف الاجتماعية.
٥- وحدة الآلام والآمال التي تصنع وحدة المصلحة والمستقبل والمصير.
العروبة وعاء حضاري مختلف عن كل القوميات نظرا لرسالتها ووظيفتها ودورها فهي ليست نظاما لحكم أو حكراً على فئة أو حزب، وهي سياج لحماية الوحدات الوطنية وتحصينها من الاعتداءات الخارجية.
ان الالتزام بالعروبة ليس دعوة لتحطيم الكيان الوطني بل لإعلاء الشأن الوطني فهي تحمي ولا تهدّد، تصون ولا تبدّد، ترد كيد الأعداء، ودعوتها تؤدي إلى كبح السياسات القطرية التي عجزت عن حل المشكلات وتلبية احتياجات مواطنيها الأساسية والتي استخدمت أساليب القمع والاضطهاد.
لقد حاولت قوى متعددة السيطرة على المنطقة العربية بإشاعة الفرقة والانقسام وإقامة الحدود والسدود، وأدركت القوى المعادية ان أضعاف قسمات عروبتنا وتشويه سماتها شرط ضروري لهزيمتنا، وركّزوا حربهم على مصادر القوة وعوامل الدفع والحركة فيها، وخلقوا التجزئة والإقليمية تخريباً، اعتمدوا على الاستشراق والتغريب ونظريات علمانية وماركسية وليبرالية وقومية شوفينية مما ساهم بالبعض الهجوم على العروبة نتيجة خلط بينها و بين نزاعات نحو قومية علمانية وإلصاق الشعوبيون بها أبشع النعوت افتراء وافتئاتاً نكرانا لدورها الرائد.
لقد أنشأت القوى الاستعمارية كيانات مصطنعة مخالفة لواقع الأرض والتاريخ والاجتماع، وبثّت النعرات الطائفية العنصرية والمذهبية المقيتة وشكّلت ولاءات وارتباطات داخل دول قطرية التي أخذت تترسخ وتحصر اهتمامها بهمومها الخاصة وبات الشعب العربي معتدى عليه من خارجه اغتصابا واحتلالا وهيمنة وتبعية، ومعتدى عليه من داخله قهرا وظلما واذلالا و استغلالاً.
ان جذور العروبة الإيمان، وهذا ما يشكّل قوة كامنة لا تستطيع قوة في العالم تحطيمها، وهي تتناقض مع الصهيونية وتعاديها وليست مراسيم أنظمة لأنها حتمية وجودية لا ترتبط بشكل ايديولوجي ولا تتغيّر مع تغيير الأشكال ولا تزول مع زوالها، وليست دعوة إلى التقوقع والانغلاق على المنافذ العالمية، هي وضع رسالي وامتداد للمستقبل في مواجهة الظلم والبغي والعدوان.