بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 نيسان 2023 12:57ص العصيان المدني حال لا محالة

حجم الخط
غريبٌ هو أمرُ السُّلطاتِ اللبنانيَّةِ في أدائها التَّخريبي، عبثا يُحاولُ المُجتهدون تبربرَ أدائها الذي لا يقبلُهُ عقل، ولا يُبرِّرُه مَنطِق. من يُسيؤونَ النَّوايا بها يقولون أن سِياساتِها تآمُريَّةٌ على الوَطن والمُواطِن، أما من يُحسنونَ الظَّنَّ بها فيقولون أنَّ مُقارباتَها ترقيعِيَّةٌ عبثيَّة، لكونها تنصَبُّ على النَّتائجِ وتُهمِلُ الأسبابِ. وعليه نرى أن مآلاتَها كارثيَّةٌ في كِلتَي الحالَتَين.
إنه لمِن قبيلِ العَجَبِ العُجاب، ما شَهِدَهُ ويَشهدُهُ لبنان من مُهاتَراتٍ سِياسِيَّة، كانت السَّبَبُ في توليدِ مُعظَمِ الأزَماتِ التي عَصَفَت بلُبنانَ وأوصلَتنا إلى هذا الواقِعِ المأزوم. نحن في لبنان في حالَةِ سُقوطٍ حُر (chute libre)، وقد وصلنا إلى أقصى سُرعةٍ يُمكِنُ بُلوغُها في هذا النَّوعِ من السُّقوط، بعد أن تَخلَّينا عن كُلِّ المِظلَّاتِ التي كانت تَقينا شُرورَ هذا الهُبوط، ولكن سُلطاتِنا المُتعاقِبَةِ أبت إلَّا أن تُعرِّينا من كُلِّ وسائلِ الحِمايَة، ولم تترُك لنا مِظَّلَّةً واحِدةً ولو من خُيوطِ العَنكَبوت، وهي تتنافَسُ في ما بينها على تَسريعِ وَتيرَةِ السُّقوط برفعِ الرُّسوم والضَّرائب. 
لم تكتفِ سُلطاتُنا السِّياسِيَّةُ المُتعاقبةِ بتَسبُّبِها بسَيلٍ من الأزماتِ السِّياسِيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ والمالِيَّةِ والاجتِماعِيَّةِ والمَعيشِيَّةِ والتَّربَوِيَّة... الخ، وقَضائها على القِيمَةِ الشِّرائيَّةِ للعُملَةِ الوَطَنِيَّة، إذ يبدو أنها عَزَمَت على تَخريبِ القِطاعِ العام، باعتِبارِهِ آخِرَ مُقوماتِ الدَّولَةِ المُتهالِكَة، وإلَّا بما نُفسِّرُ حَربُها الضَّروسُ على الموظَّفينَ منذُ قُرابَةَ ثلاثةِ أعوام. حَربٌ تَركيعِيَّةٌ يُعتَمَدُ فيها الكثيرُ من المُناوراتِ الاحتِيالِيَّة، لِفَرطِ هذا القِطاعِ الأساسي الذي يُشَكِّلُ الشِّريانَ الحَيوِيَّ الذي يَمُدُّ الدَّولَةَ بالعائداتِ المالِيَّة، من خِلالِ جِبايَةِ الضَّرائبِ وجَمعِ الرُّسوم، وفي الوَقتِ عينِهِ يُعتَبَرُ الأداةَ التَّنفيذِيَّةَ التي تقومُ الدَّولَةُ من خلالها بجميعِ المَهامِ المُناطَةِ بها، وتأمينِ الخَدَماتِ المَسؤولةِ عن تُوفيرِها للمُواطِنين.
حربٌ تُذِلُّ السُّلطاتُ فيها المُوظَّفينَ بتَجويعِهِم وفَرطِ شَملِهِم بسياسَاتِها القائمَةِ على التَّمييزِ بين العامِلين في القِطاعِ العام عَملاً بمَبدأ فرِّق تَسُد؛ ومُبادرتِها إلى مُحاوَلَةِ استِمالةِ فِئةٍ منهُم، واستِرضاءِ فئاتٍ أُخَرى بعَطاءاتٍ أقرَبُ منها إلى الرَّشى من المُساعداتِ الماليَّة، وقد نجَحَت في أخمادِ ثورَةِ الجِهازِ القَضائي في مَهدِها، إذ سعت إلى تَخصيصِ القُضاةِ بآليَّةٍ خاصَّةٍ لاحتِسابِ رواتِبِهِم ومخصَّصاتِهم من صُندوقِ التَّعاضُدِ الخاصِّ بهِم وبذاتِ المِزاجيَّةِ قارَبَت اعتِصامَ العامِلين في مصرفِ لبنان، ومن بعدِهم العاملينَ في شَرِكَةِ الطَّيرانِ الوَطنِيَّةٍ التَّابِعَةِ له والمُراقِبينَ الجَوِّيين، وليسَ بَعيداً عن تلك المُقارباتِ تَعامَلَت مع مُوَظَّفي وزارَةِ المالِيَّة، إذ سعت من خلالِ تلك الهَرطقاتِ إلى تَمييزِ بعضِ الفئاتِ وتَمايُزِهِم عن باقي المُوظَّفينَ برواتِبِهِم وكيفِيَّةِ احتِسابِها.
سياسَةُ الإذلالِ المبنيَّةِ على التَّجويعِ التي اعتمَدتها السُّلطةُ طاولَت باقي المُوظَّفين، وجَعلَت منهم مُتسَوِّلين يَنتَظرونَ صَرفَ مُساعَداتٍ اجتِماعِيَّةِ خُصِّصَت لهم خِلافاً للقانون، كونَها تَفوقُ قيمةَ رواتِبهِم بل تُضاعِفُها. ومُحاولاتُ السُّلُطاتِ التَّفريقيَّةِ بين المُوظَّفينَ لم تَقِف عند هذا الحَدِّ، إذ سَعَت إلى رَمي بُذورِ الفُرقَةِ ما بين المُوظفين في الخِدمَةِ الفِعلِيَّةِ والمُتقاعِدينَ من مُختلِفِ الأسلاكِ المَدنِيَّةِ والعَسكَرِيَّةِ بتَخصيصِ العامِلينَ منهم ببَدلاتِ انتاجِيَّةٍ شَهريَّةٍ وأخرى يوميَّةٍ تحت مُسمى بدلِ انتِقال. كُلُّها أقربُ إلى الرَّشاوى لشِراء الوقتِ، بضَمانِ حُضورِ الحدِّ الأدنى من المُوظَّفينَ إلى مَراكِزِ عَمَلِهِم، لتأمينِ الخَدَماتِ المُلِحَّةِ والأُمورِ التي لا تقبلُ التَّأجيل.
إن تَعامُلَ السُلُطاتِ مع المُوظَّفين بهذا النَّمَطِ من الاستِخفافِ والسَّفاف، واكتِفائها بتَخصيصِ مَداخيلَ لهم لا تفي بتأمينِ الحدِّ الأدنى من مُقتضياتِ العَيشِ الكريم، ومُحاولاتِها التَّفتيتِيَّةِ - التَّجويعيَّة، يُضعِفُ رَكائزَ الهَيكَلِ البُنيَويُّ للدَّولَة، والتي في حالِ انهيارِها يَنهارُ الكِيانُ برُمَّتِه، بعد أن انهارَت هَيبتُهُ ودُنِّسَت سِمعَتُهُ دولِيَّاً ومَحلِّيَّا.
يبدو أن أهلَّ السُّلطةِ في لبنان متَّفقونَ على تَقويضِ مُقوِّماتِ الدَّولَة، ومُتعاونونَ على تَفتيتِها، ففي الوقتِ الذي تَستنكِفُ السُّلطَةُ التَّشريعِيَّةُ عن سَنِّ القوانين ومُمارسَةِ دورِها الرِّقابي، وتَتقاعَسُ عن إنجازِ استِحقاقِ الانتِخاباتِ الرِّئاسِيَّةِ في موعِدِه، تقومُ السُّلطَةُ التَّنفيذِيَّةُ بِشَلِّ القِطاعِ العام بمُقاربتِها التَّقشُّفِيَّة، أمَّا الجِهازُ القَضائيُّ فقد قَضى على كُلِّ فُرَصِ تَحقيقِ العَدالَة، بتجاوزِ صلاحِيَّاتِهِ وتَشويهِ سِمعَتِهِ والتَّفريطِ بتَماسُكِه وبنقلِهِ الخُصومَةَ إلى ما بين القُضاةِ أنفُسِهِم بالنِّيابةِ عن المًتقاضين، وأضحى عائقاً أمامَ تَنفيذِ المُذكَّراتِ العَدلِيَّةِ والأحكامِ القَضائيَّةِ بَدَلاً من الإيعازِ بتَنفيذِها.
لقد تَخَطَّى من هُم في السُّلطَةِ حاجِزَ الخَجل، فها هم يناشدونَ الجيشِ لتَسييرِ سنترالاتِ الهاتِف، وسَبقَ لهم واستعانوا بقِوى الأمنِ لتَسييرِ شُؤون هيئةِ إدارةِ السَّير والآليَّاتِ والمَركبات، مُتغافلينَ عن أنَّهم أوصلوهم لحالَةِ من العَوز، والتَّسكُّعِ على الطُّرقاتِ بانتِظار من يُشفِقَ عليهم ليُقِلَّهُم لعدَّةِ كيلمترات أثناءَ توجُّهَهم من مَراكِزِ عَملِهِم إلى منازِلِهِم التي أضحوا يتردَّدون في توجُّهِهم إليها تهَرُّباً من لومِ أعيُنِ أطفالِهِم، وينفونَ أنهُم بسياساتِهم الفاشِلةِ دفَعوا بالعَديدِ من العَناصِرِ إلى الانتِحار.
أليسَ أهلُ السُّلطةِ هم من دفعَ بالمَسؤولين عن الأجهِزَةِ العَسكَرِيَّةِ والأمنِيَّةِ لقُبولِ الهباتِ والتَّبرُّعاتِ العَينيَّةِ والماليَّةِ أو استِجدائها من الخارِج، وهم يعون جيِّداً أن في ذلك مُقامَرَةٌ تَطالُ ما تبقَّى لدى العسكريين والأمنيين من ولاءٍ للوَطن، ورَغمَ ذلك تراهُم يُراهِنونَ على مَناقِبِيَّةِ تلك الأسلاكِ ويَطلبونَ منها المَزيدَ من التَّضحِياتِ، ألا يَجدُرَ بهِم سؤالَ أنفُسِهِم: كيفَ لمُوظَّفٍ أن يَعملَ جاهِدا وهو يَلحَظُ كُلَّ يومٍ أن الدَّولَةَ التي يَعمَلُ لصالِحِها ويَتفانى من أجلِها، تُهمِّشَ زُملاءَهُ المُتقاعِدين وتزدريهِم، وترميهِم عِظاماً بعد أن قامَت على لَحمِ أكتافِهِم وعَرَقِ جَبينِهِم وتضحياتِهم.
ما أبشَعَ التَّآمُرَ على الذَّاتِ في ظِلِّ الأزماتِ والمِحَن، وليس هناك من مَخاطِرَ تَفوقُ مَخاطِرَ الهَريانِ والتَّآكُلِ الدَّاخِلي، هذه المُقارباتُ التَّخريبِيَّةُ لمُكوِّناتِ الدَّولَةِ والمُقوِّضَةُ لمَكانتِها وهَيبتِها، من أخطَرِ ما يواجِهُهُ الوَطن والمُواطِنون، سواء كانت نابِعَةً عن جَهلٍ أم عن نوايا آثمَة، ورُبما فاقَ الجَهلُ بمَضارِهِ مَضارَ النَّوايا الخَبيثة، لأن المُجرمينَ بفِطنتِهم يُفكِّرونَ مليَّاً بمَخاطِرِ ارتكاباتِهِم قبل اقتِرافِها، أما الجُهَّالُ فمَخاطِرُ أفعالِهِم لا حُدودَ لها.
أهلُ السُّلطةِ، بإمعانِهِم في أدائهِم التَّعطيلي، ومُقارباتِهِم غير المَدروسَة، وتجاهُلِهِم للجَوانبِ المَعيشِيَّة والانسانِيَّة، يَتآمرونَ على الدَّولةِ ويَغدُرونَ بموظَّفيها، ويَدفعونَهم إلى التَّمَرُّدِ على الأوامِرِ، والامتِناعِ عن التَّقيُّدِ بالتَّعليمات. كما يَدفعونَ بالشَّعبِ إلى العُصيانٍ المَدني، لأن الشَّعب َأضحى في وضعٍ لا يُحسَدُ عليه، ولا سبيلَ للخَلاصِ من مُعاناتِه سِوى بالتَّخلُّصِ من جَورِ حُكَّامِه، المُتَطاولينَ على حُقوقِه والمُبَذِّرينَ لمُدَّخَراتِه. وهذا يَجعلُ المواجَهَةَ ما بين الشَّعبِ والحُكَّامِ شِبه حَتمِيَّةً، في ظِلِّ تَشبُّثِ الحُكامِ بمَواقِعِهِم وتمسُّكِهِم بمناصِبِهِم رَغمَ كُلِّ فَشلِهِم وفسادِهِم، وإن وقعت الواقِعةُ فَكُلٌّ منهما سيَبذُلُ قُصارى جَهدِهِ للنَّيلِ من الآخرِ بما يمتلِكُهُ من وسائلَ وأدواتٍ مُتاحة.
المواجهَةُ حالَّةٌ ولا مناصَ منها، لذا على الشَّعبِ أن ينتفِضَ مُجدَّداً لينقضَّ في الوَقتِ المُناسِب على خُصومِهِ الذينَ خانوا الأمانةَ، أمَّا النَّاشطونَ المُثقَّفون فعليهِم العَملَ على إعادَةِ النَّبضِ إلى الحِراكِ الشَّعبي اعتِباراً من الآن، بإقناعِ الناسِ بضَرورَةِ النُّزولِ إلى السَّاحاتِ العامَّةِ مُجدَّداً، وعلى من يمتلكونَ المَهاراتِ والخُبُراتِ في الاحتِجاجاتِ الأهلِيَّةِ أن يُبادروا إلى وَضعِ الخُطَطِ وإعدادِ السِّيناريوهات، للإطاحَةِ بالزُّمَرِ الحاكِمَة الجاثمَةِ على قُلوبِ اللُّبنانيين، واقتِلاعِها من جُذورِهِا، وإخضاعِها للمُحاسَبَةِ أمام قَضاءٍ نزيهٍ وشُجاع. ولا سبيلَ إلى ذلكَ إلاَّ بعصيانٍ مَدَني شامِل، يَشُلُّ الحَرَكَةَ في البِلاد، بدءا بامتِناعِ المُوظَّفينَ عن القِيامِ بمَهامِهِم، وامتناعِ العَسكرِيينَ عن حِمايَةِ كِبَارِ لُّصوصِ الدَّولةِ والمُتآمرين عليها، ونُزولِ المُواطنينَ وفي طليعتِهم المُتقاعِدينَ إلى السَّاحاتِ، وقَطعِ الطُّرُقاتِ الرَّئيسِيَّةِ برَكنِ آلِيَّاتِهِم في وسَطِها، وشَلِّ مُختلِفِ القِطاعاتِ الأساسِيَّة.
إن إسقاطَ المنظومَةَ الحاكِمَةَ لا يُمكِنُ أن يَحصَلَ بانتِفاضاتٍ عَشوائيَّةٍ غيرِ مُتناسِقَةٍ مُفكِّكَة، إنما يَتطلَّبُ ثَورَةً مُتماسِكَة، تقومُ على إيديولوجِيَّةٍ مُتكامِلَةٍ جامِعَة، وإن بدأت بحِراكٍ شَعبيٍّ عَفَوي، يَنبغي لمُّ شَملِهِ وتوحيدِ مُكوِّناتِهِ من قَبَلِ النُّخَبِ المُثقَّفَة. إن الثَّورَةَ التي يَنشُدُها الشَّعب، هي ثورةٌ مُوشَّحَةٌ بألوانِ العَلَمِ اللُّبناني، تَستمِدُّ نَقاءَها من لونِهِ الأبيَض، وعُنفُوانَها من شُموخِ أرزَتِه، وطَهارَتَها من لونِهِ الأحمَرِ القاني الذي يَرمُزُ لدِماءِ ّشُهَدائها الأبرار.