بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 آب 2023 12:00ص اللهم جنِّب لبنان تبعات فصاحة وزرائه

حجم الخط
كان الله في عون دولة رئيس حكومة تصريف الأعمال في درء مخاطرِ زلّات ألسن وزرائه وحلفائه، إلى حد أخاله في تضرّعه إلى الله يناجيه «اللهم قني شرَّ حلفائي وزلَّاتِ ألسن وزرائي أما أعدائي فأني كفيل بهم»، إذ لا يكاد يرتِّي رتقاً أحدثه تصريح وزير إلَّا ويُفاجأ بصدعٍ جديد جرّاءَ موقف سياسي متهور لوزيرٍ ثانٍ، وما إن ينتهي من معالجة ذيوله إلّا لينشغل في رأب شرخٍ أحدثته فكاهةٌ سمجةٌ لثالث، ويبدو أن الحبل على الجرار في عهد هذه الحكومة التي طال عمرها بسبب تواردُ مَصالِحِ سياسيينا، على خلاف رغبة اللبنانيين، الذين أمست هذه الحكومة تُشكِّلُ عبئاً ثقيلاً عليهم، لإخفاقاتها وفصاحة وزرائها. إذ لم نرَ أبينَ منهم منطقاً وأظهرَ منهم قولاً في التعبير عن نكران الجميل والإساءة للأشقاء العرب الذين قدَّموا الكثير للبنان، ووقفوا إلى جانبه في الملمَّات.
لا يختلف اثنان على أن أكثر من أساء إلى لبنان، هم حُكامُه، نعم أولئك السياسيون المتنفذون المُتحكمون بمصير البلاد والعباد، والذين أوصلونا إلى ما نحن عليه من معاناة. أقول هذا، لأن السَّفاهةُ (خفّة العقل) ليست في المناصب إنما في عقول الأشخاص الذين يَشغلونها. ليتهم يدركون أن الكلمة كالسَّهم متى ما نُطِقَ بها انطلقت ولا تعود، لكانوا عملوا بالقول المنسوب للإمام علي رضي الله عنه: «ليت لي رقبة كرقبة البعير لأزن بها الكلام قبل خروجه»؛ ولكن يبدو أن بعضهم لم يأخذ من خواص البعيرِ سوى واحدة ألا وهي «الحِقدُ والانتقام»، وأهملوا باقي مزاياه وفضائله كقوة الذاكرة والصَّبر والقدرة على التَّحمّل، والنقاوة والحميَّة والأنفة والإباء والشمم، وصدق العاطفة.
الخشيةُ كلَّ الخشية من أن يكون بعض مما يظهر كزلّات لسان نابعة عن حماقة ما هي إلّا سلوكيات مقصودة، يقوم بها موتورون بلغوا مبلغاً من الخُبث والمكر وانعدام المسؤوليَّة، سلوكيات مبنية على النفاق والضلال، بغرض إثارة الفتن وتقويض علاقة لبنان بأشقائه، وسلخه عن بيئته العربيَّة؛ ودفع مواطنيه إلى الانكسار والذُّل، والشعور بمرارة العيش لتهجيرهم، وبأنهم غرباء مهمشون داخل وطنهم. ليس من شك أن لبنان يتخبطُ اليوم في مُستنقعٍ من السياسات القذرة، إذ الأدبيَّات السياسية هابطة، والانتماء الوطني شبه مفقود، والولاء له شبه معدوم، والنواميس الأخلاقيّة والإنسانيَّة شبه مغيَّبة، ولا صوت يعلو فوق صوت الدياثة. فالشهرة للأقذر، والمهابةُ للأرذل، والفصاحةُ للأسفه، فلا مناصَ من بذاءتهم، ولا رجاء في مهادنتهم، ولا نفعٌ في مناشدتهم ولا جدوى في محاورتهم. ذلك أن المنتفعين من الباطل قلما يهتدون أو ينصاعون لصوت الضَّمير، كونهم لا يدافعون عن مبدأ يعتنقونه، إنما عن مصالحَ فرديَّة خاصَّة بهم أو فئويَّة وفق توجُّهات الزَّعيم.
فاتهم أن السنين تمرّ، والأشهر تنصرم والأيام تجري والوقت يعبر مُسرعاً، ولبنان مكانك راوح، يتخبَّط بأزماته؛ إذ لا قيادة، لا مسؤولية، لا اتفاق ولا توافق لا استقرار، لا ديمقراطية، ولا مبادرات إنقاذيَّة؛ فالمواقف متباينة، والجهود مشتِّتة والأهداف متعارضة، والغايات متضاربة، وكأن شيئاً واحداً متوافقٌ عليه هو «إسقاط الدَّولة»، من خلال تفويت الفرص، وإفشال محاولات استعادة العافية، وتقويض فرص تحقيق العدالة الجنائية، وشلُّ القطاع العام، وتشويه سمعة الموظَّفين، وتعميم الفساد، وكسر معنويات الأحرار، وتدنيس المقدسات، وتيئيس عامَّة الشَّعب تمهيداً لتركيعهم.
لبنان اليوم شبه دولة، يفتقد إلى النُّخب والقادة الوطنيين، يحكمه رُعاعٌ عديمو الفكر، فاسدون مفسدون، يفتقدون إلى المبادئ الوطنية والقيمِ الانسانيَّة، تتحكم بهم نزعتا التَّخاذل والرعونةُ، منهجهم اللامبالاة لكل ما يدور من حولهم والتقصير والإهمال في واجباتهم وقلَّة الاحتراز في تدخلاتهم وعدم الإكتراث لمعاناة المواطنين، هم لا يدركون أن هذا الضَّلالَ في إدارة شؤون الدولة والاكتفاء بردَّات الفعل وانعدام روح المبادرة، يجرنا إلى مزيد من الانهيار، والتَّفكك الاجتماعي، ويدفع بالمواطنين إلى التَّعنصر والانجراف في غياهب الفتن، وبالشُّرفاء منهم إلى الانتفاضة رفضاً للمزيد من الإنكسار والإذلال.
جلّ ما ينتهجه ويتقنه أرباب السِّياسة القذرةِ في لبنان يتمثَّلُ في أساليبهم الدنيئة ومناوراتهم الخسيسة، دفاعا عن مصالحهم الشخصية والفئوية؛ من خلال زرعِ بذور الفرقة بين أبناء الشعب الواحد، ونشر العداوة والبغضاء والفرقة بين مكوناته، وإثارة الفتن تمهيداً لنشوبِ صراعات عبثيَّة بين أبناء الوطن الواحد، أو بينهم وبين اللاجئين على أرضه قد تودي بالوطن إلى أتون حرب أهلية تكلّفنا الكثير من الخسائر البشريَّة والماديَّة التي لم نعد قادرين على تحمّل ما تجرُّه إلينا من دمار وويلات. ذلك لأنهم بمعظمهم قادةُ ميليشيات أو خرّيجوها، دأبهم إرهابُ رجال الفكر وعامَّة الناس، وسيلتُهُم نشرُ التَّمييز والفرقة، والعمل على استضعاف بعض المكونات لحساب مُكونات أخرى، لتسود سيطرتهم، وليُتاح لهم إحكام سيطرتهم على مقدِّراتِ الوطنِ وخيراتِه. إنهم يقتاتون من أنقاض الدَّولة ويتغذون من دماء الفقراء، ويتسلقون على جُثث القتلى، ويبنون سعادتهم وراحتهم على حسابِ عرقِ المُكافحين ومعاناة المرضى وآلامهم.
للأسف إن ما نشهده اليوم من أداء سياسي لهو مؤسف ومريب، لأن السياسيين المستحكمين بمفاصل السياسة في لبنان، يغلِّفون انتهاكاتهم بلبوس المَشروعيَّة، متلطّين خلفَ انتخابات صوريَّة، تجرى وفق قوانين انتخابيَّة مفصّلة على مقاسات مصاطبِ زعاماتهم. ويستغلون الوصوليين والمتزلفين والمتملقين وطيبة البسطاء من عامَّة الناس، الذين يحملونهم على الأكتاف، ويسلمونهم الأعناق، وينادون بمعصوميتهم إلى حدِّ التَّأليه، الأمرُ الذي يمكنهم من الإمساك بمراكز القرار، ويوفرُ لهم مجالاً رحباً للتَّنكيل بالطُّلقاء من المفكرين والمثقفين الأحرار.
عجباً، ما هي خطيئة الشَّعب اللبناني، كي يدفع كل هذه الأثمان الباهظة من حياته ومستقبل أبنائه!!!! فما كاد يتَّخلُّص من تسلُّط الإقطاعيين والمشايخ والبكاوات والغازين ليَقع فريسةً للميلشياويين الذين زعموا أنهم ثائرون منقلبون على الإقطاعيين فسار خلفهم؛ ولم يجنِ «الشعب» من ذلك سوى المزيد من الأزمات والكوارث. والمضحك المبكي أن الشعب المسكين «الضَّحيَّة» هو منقسمُ على ذاته بدلا من التَّوحد في مواجهة الحُكام الأشرار، كونه مُشتَّتٌ فئوياً «طائفياً ومذهبياً»، ومنساق غرائزياً، ولذات الأسباب يقبع خانعاً لمشيئة الزُّمر الميليشياويَّة الحاليَّة المتحالفة في ما بينها، والتي تمكَّنت بدهائها ومكرها من خداع بسطاء الناس والتَّنكيل بالمواطنين الآمنين بأساليبها القذرة المبنية على تشويه الحقائق، والتَّهويل والتَّهديد والوعيد، كما بدفع جماعات غوغائية للقيامِ بأعمال تخريب ونشر للفوضى كلما دعت الحاجة، كذلك بالاستعانة بجماعاتها المسلَّحة للقيام بعمليات تفجير ترويعيَّة، وتصفية المفكرين واغتيال الرافضين لمنهجها وتوجُّهاتها والمعرقلين لمآربها. كل ذلك مجتمعاً مكنهم مجتمعين من إحكام قبضتهم على مفاصل الحكم لعقود من الزَّمن، والسَّطو على مقدرات الوطن، وتقويض هيبة الدَّولة، والتَّنكُّر للمطالب الشَّعبيَّة المُحقَّة.
يبدو أن الله عزَّ وجلَّ يطيلُ من أعمار رموزِ الطَّبقةِ الحاكمة، ليس حُبًّا بها، ولا تقديراً لتضحياتها، إنما ليرينا فيهم أرذل العُمر، وليكشف عنهم أقنعتهم المُزيَّفة، وليكونوا عبرةً لمن يعتبر؛ وليزيل الغشاوة عن أوجه المَضلَّلين من الشَّعب، وربما ليذيقهم مرَّ ما كانوا يصنعون بالشَّعب، وثمَّةَ أمثالٌ جليَّة عما تعرَّضَ له بعضُهم من مهانة، وسباب وشتم ودعوات...الخ، وأختم مقالي هذا بقول الله تعالى بمحكم تنزيله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (صدق الله العظيم)، فحبذا لو يتَّعظون قبل فوات الأوان.