بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 تشرين الثاني 2019 06:07ص تحية من بيروت إلى فيحاء الوطن

حجم الخط
هي طرابلس التي أرادوها قندهار لبنان، فرفضت بكل عناد واباء، وبقيت مدينة الإعتدال والحوار،

هي العاصمة الثانية لوطن الارز، التي حولوها إلى أفقر مدينة على ساحل المتوسط، ومع ذلك حافظت على إنتمائها الوطني، وكانت دائماً الخط الأول في الدفاع عن الجمهورية والشرعية،

هي المدينة التي أهملتها الدولة، وسلبت حقها الطبيعي بالإنماء المتوازن، فبقيت صامدة في خندق الشرعية، وصابرة على ما يلحق بها من ظلم وإجحاف من أهل القرار،

هي الفيحاء الشماء التي إستقوت على حصار الفقر والتخلف لأحيائها الشعبية، وبقيت ترفع عالياً الراية التاريخية : مدينة العلم والعلماء.

هي المفاجأة التي أدهشت اللبنانيين والعالم بحماسها وشجاعتها في رفع شعلة الثورة، وفي تحويل ساحة النور فيها إلى منارة حضارية للوحدة الوطنية، تشع أنوارها يومياً بعشرات الآلاف من المواطنين القادمين من مختلف مناطق الشمال ليحتفلوا مع «عروس الثورة» في العرس الوطني الذي يعيشه الوطن، منذ ١٧ تشرين الأول، إحتفاءً ببزوخ فجر جديد، يحمل شمس التغيير لغد أفضل للأجيال الشابة.

لم تخرج طرابلس إلى الثورة لتثأر من الدولة وظلمها الجائر وحسب، بل لتؤكد أيضاً أنها حاضنة صيغة العيش الواحد بين اللبنانيين، بعيداً عن كل ألوان التعصب والتطرف التي حاولوا إلصاقها بها وبشعبها المغلوب على أمره.

تجاوزت الفيحاء كل آلامها المزمنة، وتجاهلت كل أوجاعها المستفحلة، ورفعت راية الثورة عالياً، وحولت التظاهرات والتجمعات في ساحة النور إلى مهرجانات فرح وحبور، سرعان ما إنتقلت أجواءها إلى بقية الساحات المنتفضة في مختلف المناطق اللبنانية .

لقد نجحت قيادة الحراك في طرابلس في وضع يدها على مواطن الوجع والمعاناة الدائمة ، من خلال الإعتصامات التي نفذها شباب المدينة وشاباتها في المواقع الواعدة، وفي مقدمتها مطار القليعات، الذي يختصر حجم الإجحاف الرسمي، ليس بحق الفيحاء وحسب، بل تجاه كل مناطق الشمال.

لا يُعقل أن تتوافر في المدينة إمكانيات طبيعية وكبيرة لتحقيق مشاريع تنموية وحضرية مهمة، وتبقى ضحية الإهمال الرسمي المتمادي على مدى عقود طويلة من الزمن. وتكفي وقفة سريعة أمام ثلاثة مرافق رئيسية لتبيان حجم التقصير الحاصل مع المنطقة الأكثر فقراً في لبنان:

١ - مرفأ طرابلس: تم إنفاق عشرات الملايين من الدولارات على تعميق وتوسعة هذا المرفأ الذي بقيت إدارته أسيرة المصالح والأهواء السياسية، في ظل غياب أية خطة مدروسة لتشغيله بكامل طاقته، وتخفيف الزحمة والضغط على مرفأ بيروت . وتتضاعف أهمية هذا المرفق الحيوي مع إنجاز المنطقة الإقتصادية الحرة على مقربة من حرم المرفأ، من جهة ، ومع إنطلاق ورشة إعادة الإعمار في سوريا، من جهة ثانية، ومع بدء إستخراج النفط والغاز في مناطق الشمال البحرية والبرية، وما يُحكى عن إستعداد روسي لإعادة تشغيل مصفاة طرابلس، بعد ترميمها وتحديث تجهيزاتها، من جهة ثالثة، وكل ذلك من شأنه أن يؤمن أكثر من عشرين ألف وظيفة لأبناء طرابلس والشمال.

٢ - مطار القليعات: قليلة هي الدول التي تعتمد مطاراً واحداً لحركتها الجوية، خاصة في بلد مثل لبنان، يعاني من حالات عدم إستقرار سياسية وأمنية مستمرة، وتؤثر على حركة الملاحة الجوية في المطار المركزي الوحيد في بيروت. وفي ذروة أحداث الحرب في سوريا، ومع إنتشار التفجيرات الإرهابية في الضاحية الجنوبية، قررت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تشغيل مطار القليعات، وخصصت المبالغ اللازمة لشراء معدات الإرشاد الجوي وتجهيز برج المراقبة، ولكن هذه الخطوات توقفت فجأة إثر إستقالة حكومة ميقاتي، وبقيت المعدات المشتراة في صناديقها منذ تلك الفترة!

وتوقعت بعض الدراسات يومها أن يؤمن تشغيل المطار أكثر من أربعين ألف وظيفة، فضلا عن التسهيلات التي يوفرها لزيادة التصدير الزراعي والصناعي من مناطق الشمال.

٣ - معرض طرابلس الدولي: تمت إشادته على مساحة مليون متر مربع منذ أواسط الستينيات ، على أن يكون المعرض المركزي الوحيد في الأراضي اللبنانية، ولكن هذا المرفق الحيوي يكاد يتحول إلى ما يشبه زريبة للحيوانات بسبب الإهمال المستمر لأعمال الصيانة، وعدم القيام بأي نشاط تجاري فيه، رغم وجود هيئة إدارية رسمية تكلف الخزينة الملايين سنوياً!

رغم كل هذا الوضع المأساوي والذي لا ينتهي فصولاً ..،

فيحاء الوطن إنتصرت على واقعها..، وتغلبت على أوجاعها..، وتعالت على جراحها..، وفتحت قلبها لأكبر إنتفاضة وطنية في تاريخ دولة الإستقلال ، وإستحقت بتنظيمها الحضاري الذي جمع أطياف الوطن في منصة واحدة، وشجاعتها الوطنية بمواجهة سلطة الفساد والفاسدين، أن تكون «عروس الثورة»!

طرابلس..، يا فيحاء الوطن..، يا مدينة الوفاء والأخلاق..، ننحني أمامك بعبارات الإعتذار والإستغفار عن إهمالنا..، وعن تقصيرنا..، وعن غيابنا..، وعن تأخرنا في الإلتفات إلى أوجاعك!

هذه الصفحات تحية محبة و تقدير من بيروت، إلى طرابلس الفيحاء وأهلها الميامين الصابرين، ومنهم إلى كل أهلنا في الشمال الأشم.