بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 آب 2023 12:00ص حرصاً على ضمان حسن سيرورة الملف الجزائي الخاص برياض سلامة وصحبه

حجم الخط
خطوةٌ جريئةٌ ومسؤولة تلك التي أقدمت عليها هيئة التحقيق الخاصَّة بتاريح 14/8/2023، حيث أصدرت القرار رقم 1/1/12/2023، والذي قضى بتجميد الحسابات بصورة نهائيَّة لدى جميع المصارف والمؤسَّسات الماليَّة العاملة في لبنان والعائدة لكل من الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة ومعاونته ماريان الحويك وصديقته أناكوسوفا ونجله ندي وشقيقه رجا، ورفع السريَّة المصرفيَّة عنها تجاه جميع المراجع القضائيَّة المختصَّة. هذا القرار، وإن أتى متأخراً، يُشكِّلُ بحدِّ ذاته أسبقيَّة لم يسبق أن اتُّخذَ مثيلاً له بحق أي ممن توالوا على تولي حاكميَّة مَصرف لبنان، كما يُشكِّلُ خطوةً احترازيَّة تحول دون تمكين رياض سلامة وشركائه من تهريب أموالهم والنَّفاذ بها لحين بت المراجع القضائيَّة المختصَّة بمدى مشروعيَّة الحصول عليها.
هذا القرار، وإن يكن على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميَّة كونه يضمن عدم تهريب رياض سلامة وشركائه لأموالهم المشكوك بمشروعيَّتها، إلاَّ أنه لا يضمن مثولهم لإجراءات الملاحقة الجزائيَّة التي أقيمت في وجههم خارجيًّا ومن ثمَّ محلِّيًّا، إذ عمد سلامة عدَّة مرًّات لعدم حضور الجلسات التي دعي إليها مستندا إلى دفوع شكليَّة كعدم التبليغ أصولاً، الأمرُ الذي دفع بالقضاءين الفرنسي والألماني إلى إصدار مذكرتي توقيف غيابيَّة بحقَّه، فكان ردَّه بأن طلب من النيابة العامَّة التَّمييزيَّة في لبنان أن تجرى ملاحقته في لبنان لزعمه أن ثمَّةَ تحامُلاً عليه من القضاء الأوروبي، واتَّخذت النيابة العامَّة بدورها تدبيراً وقائيَّا لضمان بقائه في لبنان بحيث صدر قرار بمنعه من السَّفر واحتفظت بجوازي سَفره اللبناني والفرنسي. إلَّا أن رياض سلامة لم يحضر جلسة التَّحقيق الأخيرة التي دعي إليها أمام قاضي التَّحقيق لعلَّة أنه لم يُبلَّغ موعدها (لجهالة عنوان سكنه)، علماً أن لبنان بأسره كان يعلم بموعد الجلسة التي تناقلته وسائل الإعلام. تكرار التَّغيًّب هذا إن دلَّ على شيء فهو يدل على سَعي سلامة إلى إطالة أمد الملاحقة بحقَّه، وربما يدفعنا كما بدفع الكثيرين للخشية من تواريه عن الأنظار ومُغادرته الأراضي اللبنانيَّة إلى جهة مجهولة، الأمر الذي يحول دون تحقيق العدالة ويُبقيه وغيره من المتورطين بمنأى عن العِقاب، وإن جرت محاكمته في ما بعد كمتهم فار من وجه العدالة، خاصَّة وأنه لدينا كلبنانيين الكثير من التَّجارب السَّابقة، أشهرها فرار رنا قليلات «بطلة» اختلاسات بنك المدينة.
يبدو أن هيئة التحقيق الخاصَّة قد استندت في اتخاذها لقرارها إلى ما ورد في تقرير شركة الفاريز بنتيجة الأعمال التي قامت بها على ضوء تكليفها بعملية تدقيق جنائي لحسابات مصرف لبنان ما بين عامي 2015 و2020. وثمَّة من يقول أن المحفِّز الأكبر كان بيان وزارة الخارجيَّة الأميركيَّة الذي أعلنت فيه أن الولايات المتحدة الأميركية وكندا وبريطانية قد اتُّخذت جملة من العقوبات الماليَّة بحق رياض سلامة وشركائه، خاصَّةً وأنه سبق للقضاء في عدد من الدول الأوروبية ومنها فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ واتَّخذ قرارات مماثلة بهذا الخصوص، بحيث أصدر القضاء الفرنسي قراراً يقضي بمصادرة الأصول العقاريَّة التي يملكها سلامة في فرنسا وهي تقدَّر بعشرات ملايين اليورهات، وأن فرنسا ولوكسمبورغ عمدتا إلى تجميد أصول «يشتبه أيضا بأن ملكيتها تعود له» تقدر قيمتها بـحوالي 120 مليون يورو؛ كذلك أصدر جهاز الأنتربول نشرة حمراء بحقّه، وبالتالي لم يعد مقبولاً وقوف لبنان موقف المتفرج لقاء كل ما يحصل وخاصَّة تخلّفه عن مجاراة ومواكبة التحقيقات الأجنبيَّة كونه الدَّولة المعنيَّة في المقام الأول نظراً لكون الدَّولة اللبنانية هي صاحبة الولاية على ملاحقة الجرائم التي تنطوي عليها الإرتكابات المنسوبة للحاكم السَّابق وشركائه خاصَّةً وأن الأول مسؤول عن إساءة استعمال السُّلطات التي خُوِّلت إليه، بصفته حاكماً لمصرف لبنان، لارتكاب اختلاسات ماليَّة واعتماد سياسات نقديَّة وهندسات ماليَّة وقروض غير مدروسة تسبَّبت في انهيار الأوضاع الاقتصاديَّة والماليَّة والعملة الوطنيَّة في لبنان.
للأسف لم يكن الجهاز القضائي اللبناني موفَّقاً في مُقاربته هذا الملف القضائي الحسَّاس، بل بدى مٌتخبِّطاً في ذاته ومُربكاً وقاصراً عن القيام بما هو مطلوب قضائيًّا، الأمر الذي ولَّدَ شكوكاً لدى معظم اللبنانيين، كما لدى جهات دوليَّة خارجيَّة لم تخفِ ريبتها من مقاربة السُّلطات اللبنانيَّة لهذا الملف، والتي بدت وكأنها غير راغبة في تحريك الملف القضائي في موضوع الشُّبهات حول الحاكم وبعض المقربين منه لارتكابهم اختلاسات مالية فاقت الثلاثماية مليون د. أميركي، ولا حتى في كشف حقائق الانهيار المالي والنَّقدي، وقد تعزَّزَ هذا الاعتقاد بتأخُّر القضاء اللبناني في تحريك ملف المُلاحقة بحق سلامة، كما في إنجاز كل ما طُلِب منه، وإصداره قرار بمنع السَّفر بحقه والذي بدا، من حيث توقيته، وكأنه وسيلة لتبرير عدم حضور الحاكم لجلسة التحقيق التي كانت مقررةً أمام القاضية الفرنسيَّة والتي تبلع موعدها مسبقًا، ويضاف إلى ذلك مُحاولة بعض الجهات الرسميَّة مؤخرًا حجب تقرير شركة ألفاريز، التي كلفت بإجراء التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، والتَّكتم على مضمونه.
إن موجة الاستغراب المحليَّة، والدَّوليَّة والتي وصلت إلى حد التَّشكيك بمصداقيَّة السُّلطات اللبنانية في مقاربتها لهذا الملف، وبحياديَّة الجهاز القضائي واستقلاليَّته في اتِّخاذ القرارات القضائيَّة مُبرَّرة ومشروعة، وتعزى لكون لبنان هو المعني الأساسي بهذه القضيَّة، باعتبار أن الأفعال الجرميَّة على درجة كبيرة من الخطورة، ولكونها ارتكبت على أراضيه، ومن قبل أشخاص لبنانيين، وأن ضحاياها أشخاص طبيعيون ومعنويون لبنانيون وعرب وبعض الأجانب، ومحل الجريمة أموال عامَّة لبنانيَّة وإيداعات خاصَّة معظمها للبنانيين، وقد ألحقت أضراراً جسيمةً بالاقتصاد اللبناني والماليَّة العامَّة للدولة، وبالقطاع المصرفي وبالعملة الوطنيَّة. ورغم ذلك لم تحظَ هذه القضيَّة بما يلزم من اهتمام، ولم يُصَر إلى كف يد سلامة ولا بتوقيفه مع باقي المُشتبه فيهم احتياطيًّا، على غرار ما يحصل عادةً في معرض ملاحقة المُشتبه فيهم حتى في جرائم أقل خطورة، بل حظيَ رياض سلامة باهتمام ملحوظ وجرت مُحاولات لإبقائه في منصبه رغم خطورةِ ذلك على احتماليَّة العبثِ بمسرح الجريمة وإخفاء الأدلَّة والقرائن الجرميَّة أو العبث بها، وجعل مسألةِ تقفي الآثار الرقميَّة التي خلَّفها المجرمون فائقة الصُّعوبة.
إن مبدأ المُساواة بين المواطنين يملي على الجهاز القضائي التعامل مع رياض سلامة وباقي المُساهمين في هذه الجرائم بذات المعيار الذي يتم التعامل به مع باقي المشتبه بهم والملاحقين حزائيًّا، كونهم يتمتَّعون بأهليّة قانونيَّة كاملة وأن ما اقترفه جاء بناءً على وعي وإرادةٍ حُرَّةٍ وعن سابق تصور وتصميم، وبالتالي عليهم تحمل وزر ما اقترفوه من سُلوكيَّات مجرَّمة أسوة بباقي الملاحقين قضائيًّا، وعملاً بمبدأ وحدة المعايير في تحقيق العدالة، لا الكيل بمكيالين، وعليه نقول لا مبرِّر لإبقائهم طليقين ولو رهن التَّحقيق وممنوعين من السَّفر، وذلك ضماناً لحضورهم إجراءات الملاحقة وبخاصَّة المحاكمة، وكي تضمن محاكمتهم حضوريًّا، وكي يدلوا (وبخاصَّة الحاكم السابق) بما لديهم من معلومات لكشف حقيقة ما حصل وكشف باقي المتورِّطين بغضِّ النَّظر عن مناصبهم والحصانات التي يتلطون خلفها.
على المعنيين بملاحقة هذه الأفعال الجرميَّة الشَّنيعة أن يعوا أنه من حق اللبنانيين أن يعلموا بمن هم المجرمون الضَّالعون بهذه القضيَّة وغيرها من الجرائم، وما هي الأفعال المنسوبة لكل منهم، وأين مصير الأموال التي اختلسوها وكيف بدَّدت أموال المودعين، ومن هم الأشخاص الطبيعيين والمعنويين الذين انتفعوا من السياسات النقدية والهندسات الماليَّة المشبوهةِ وسياسات الدَّعم غير المدروسة ومنح القروض على مختلف اشكالها وصورها لغير مُستحقيها، وبكيفيَّةِ إعادةِ تلك الأمول المهدورة إلى أصحابها، كما ينبغي العمل وسريعاً على استعادةِ الأموال التي تم تهريبها إلى الخارجِ لأن تهريبها أدى إلى انهيار الوضع المالي وينطوي على مآمرةً ومُضاربةً على العملة الوطنيَّة.
إن التاريخ لن يرحم أي مسؤول أو قاضٍ تخاذلَ أو ساهم من قريب أو بعيد في إعاقة سير الملاحقة الحزائيَّة بهذه القضيَّة، وبخاصَّة فيما لو تمكُّن الحاكم السابق لمصرف لبنان أو أي من شركائه من التواري عن الأنظار ومغادرة الأراضي اللبنانيَّة، وهذا الأمر جائز وفي كل وقت. من هنا تأتي مناشدتنا لضَرورَة اتِّخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات لمنع أي منهم من الإفلات من الملاحقة أو العقاب، كما ينبغي اتخاذ ما يلزم من إجراءات لضمان استعادة الأموال المنهوبة أو المختلسة وبخاصَّة تلك التي هرِّبت إلى الخارج، وتدريك المسؤولين مسألة التعويض عن الخسائر الماديَّة والمعنويَّة التي تسبَّبوا بها ولحقت بالدَّولة كما بالأفراد.
إن العدالةَ تستصرخُ ضمائر القضاة، وكافَّة المسؤولين عن كشف الحقيقةِ بأن يبذلوا كل جهد متاح لكشفِ ملابسات كل الانتهاكات القانونيَّة والسلوكيات الإجراميَّة التي أوصلت لبنان إلى حالة الانهيار التي نشهدها، واللبنانيين إلى حالةِ اليأس التي يعيشونها نتيجةَ اضمحلال القوة الشرائيّةِ لمداخيلهم وتبذير مدَّخراتِهم، وعجزهم عن تأمين متطلبات حياتهم اليوميَّة واستشفائهم وتعليم أولادهم. وتحقيقُ العدالة في هذا الخصوص يستوجب جملةً من الأمور، نكتفي بالإشارة إلى أهمها:
أ- توسيع نطاق التَّحقيق الجزائي ليشمل كافَّة المتورطين في الملف بحيث يشمل كل المسؤولين في مصرف لبنان والمصارف الخاصَّة الذين سهّلوا عملية اختلاس الأموال المُشار إليها، وفتحِ تحقيقاتٍ أخرى موازية.
ب- إعادة النَّظر في الفترة الزَّمنيَّة التي حصرت فيها عمليَّة التَّدقيق الجنائي، بحيث تشمل فترة ولاية الحاكم السابق أي 30 سنة كاملة.
ج- تكليف لجنة تدقيق محاسيبي لبنانيَّة (يمكن تطعيمها بخبراء محاسبة وتدقيق أجانب عند اللزوم)، للوقوف على حقيقة ماليَّة مصرف لبنان وموجوداته، وعلى مدى صوابيَّة السِّياساتِ النقدية والهندسات الماليَّة ومنح القروض التي كان اتَّبعها، ومدى شفافيَّتها وعدم التلاعب بها لتحقيق مآرب خاصَّة.
د- تكليف لجنة تقصّي معلومات للتَّحقٌّق من أن الأموال التي صرفت على دعم بعض السِّلع قد استغلت للغرض الذي أقرّت من أجله، وبيان الارتكابات التي حصلت ومن هم المنتفعين بوجه غير مشروع منها، وإعادة الأموال التي أسيئ استعمالها أو تم الاستحصال عليها على وجه غير مشروع، وملاحقة المتورطين فيها.
هـ- تكليف لجنة تحقيق من (قضاة وضباط وخبراء محاسبة)، للتحقيق في الأموال التي هرِّبت خلال فترة ما قبل الانهيار (فترة الرَّيبة إن صح التعبير)، ومعرفة من أفشى أسرار الإنهيار المالي، ومن أوعز لكبار المسؤولين والمودعين بتهريب أموالهم إلى الخارج وتسهيل ذلك.
و- تشكيل لجنة تحقيق لإعادة النَّظر في القروض التي منحت لأشخاص طبيعيين أو معنويين والغرض منها، وهل فعلاً تم استغلالها في الغرض والوجهة التي حدِّدت في طلبها، وما إذا كانت مستوفيةً للشروط المحدَّدة مُسبقا.
ز- توجيه كتاب إلى الدُّول التي هُرِّبت إليها الأموال والطَّلب منها تجميد الأموال المهرَّبة لحين التَّحقق من مدى مشروعيَّة مصادرها البت بذلك.
ح- إخضاع ثروات جميع كبار الموظَّفين الحاليين والسَّابقين (خلال العقود الثلاثة الأخيرة) لعملية تدقيق محاسبية للوقوف على مدى مشروعيَّة الأموال التي يحوزونها، خاصَّة وأن معالمَ الثراء والبذخ التي بدت من بعضهم تفوق الخيال، ولا تتناسب أبدًا مع مداخيلهم، أو مع أوضاعهم الماليَّة التي كانوا عليها قبل مزاولة لوظائفهم وللمناصب التي تولوها مؤخراً.
وأختم بالقول: أن الله يمهل ولا يهمل، ولكن على المسؤولين أن يستقوا العِبرَ من التاريخ، وأن يتَّعظوا حتى من تجربة رياض سلامة، الذي لم تشفع له الحفاواتُ التي كان يستقبل بها، ولا حفلات التَّكريم المتكررة التي كانت تقام له ولا جرس بورصة نبويورك الذي قرع له، ولا الجوائز الدَّوليَّةُ والإقليميَّةُ والمحليَّةُ التي منحت له، ولا أمواله الطائلةُ التي جُمِّدت، إذ انقلبت جميعها عليه لتكشف حقيقته وليمسي ملاحقاً مذموماً منبوذاً بعد كل ما حظي به من تكريم وتعظيم، ورغم حساباته المصرفيَّة وأملاكه الموزَّعة على ما يقارب 17 دولة، وها هو في موقف لا يحسد عليه.