بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 آب 2023 12:00ص حرصاً على ما تبقّى من هيبة الدولة ومصداقيَّة جهازها القضائي

حجم الخط
بادئً ذي بدء، وكي لا يُساء فهم مضمون هذا المقال واعتباره تدخّلاً في شؤون القضاء أو افتئاتاً على بعض المعنيين بملف سلامة وحتى على رياض سلامة نفسه، لأن ما سأقوله نابعٌ من حرصي على الحفاظ على سمعة الدَّولة وهيبتها، ومصداقيَّة الجهاز القضائي، وتحقيقًا للعدالة أولاً، وتنبيهاً لمن يعنيهم الأمر أنه في حال توارى حاكم مصرف لبنان عن الأنظار سيجدون أنفسهم ملاحقين جزائيًّا بجرم إعاقة تحقيق العدالة الجنائيًّة أمام عدد من المراجع القضائيَّة الدَّولية وربما أمام القضاء اللبناني، وقد يدانون بضلوعهم أو تقاعسهم أو تقصيرهم في وضع هذا الملف وفق مساره القانوني.
ليست المرَّة الأولى التي أناشدُ فيها المعنيين باتِّخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات ملاحقة وقائيَّة لضمان تحقيق العدالة الجنائيَّة في التَّحقيقات المُجراة بموضع اختلاس حاكم مصرف لبنان وشركائه المقربين منه لمبالغ كبيرة، كما في موضوع السِّياسات الماليَّة والنَّقديَّة التي اعتمدها وأدَّت إلى انهيار ماليٍّ واقتصادي.
لم يعد مقبولاً إبقاء رياض سلامة وشركائه طلقاء بعد أن أضحوا ملاحقين قضائيًّا لدى ما يزيد عن ثمانية دول والحبل على الجرَّار، أو التَّلطي خلف قرارات منع سفر الملاحقين، لأن تلك القرارات لن تحول دون مغادرتهم وفرارهم إلى جهة مجهولة، بحيث يصبحون بحكم المتوارين عن الأنظار قضائيًّا، لما ينطوي هذا الأمر على مخاطر جسيمة، لن يسلم منها لبنان، ولا المتربعون على عرش السُّلطة فيه ولا كبار المسؤولين الأمنيين ولا الجهاز القضائي والقضاة المعنيين بملاحقته لأن فرار رياض سلامة سيجعلهم موضع ريبة، وقد يعرِّضهم للملاحقة أمام جهات قضائيَّة خارجيَّة بمجرد إقصائهم عن مناصبهم أو إحالتهم على التَّقاعُد.
لم يعد بخافٍ على أحد حالة الإرباك التي تعاني منها السُّلطات اللبنانيَّة المعنيَّة بملاحقة رياض سلامة وشركائه في الملفات القضائيَّةِ المثارة في وجهه بقضايا اختلاس وإساءة استغلال السُّلطة، والتَّسبُب بأزمات اقتصاديَّة وماليَّة ونقديَّة نتيجة السِّياسات التي اعتمدها والقرارات الملتبسة التي اتَّخذها طيلة فترة تولِّيه حاكميَّة مصرف لبنان، وهي تنذر بأن وراء الأكمة ما يدينهم المسؤولين ويدلُّ عن تورُّطهم.
ما يُثير الاستهجان في هذه المسألة هو استمرار بعض من الطَّبقة السياسيَّة، والقضاة وكبار الموظَّفين من المعنيين بملف الملاحقة غير مكترثين، لا بل بدا بعضُهُم وكأنَّهم من أحرص المدافعين عن سلامة، ولو بصورة غير مباشرة، لتجنيبه تبعات المُلاحقات المثارة في وجهه خارج الأراضي اللبنانية. وما يدعونا للتعجُّب أكثر وأكثر، ما يدسُّ من معلومات وإشاعات عبر وسائل الإعلام وما ينشر من قبيل ذلك عبرَ وسائط التَّواصل الإجتماعي، ولكون الغرض منها جس نبض الشَّارع في لبنان وردَّات فعله المُرتقبة في حال فرار الحاكم السَّابق، وكان آخرها أن ثمَّة مساعٍ وتوافقات غير معلنة على تسهيل مغادرة سلامة للبنان إلى قبرص ومنها إلى بلد آخر في أميركا الجنوبيَّة، وأخرى تفيد أن رياض سلامة قد أودع حافظة رقميّة (Flash storage or Flash memory) تحتوي على معلومات على قدر كبير من الخطورة سيصارُ إلى نشرها في حال تعرَّضَ لأيِّ مكروه، وهذا الأمر في حال صحَّته ينطوي على فضيحة، وجرم جزائي يعاقب عليه القانون، ويستدعي استدعاء سلامة حالًا أو إجراء تحقيق معه بهذا الخصوص.
نعم لم يعد مقبولاً عقلاً ولا منطقاً ولا قانوناً ولا أخلاقيًّا إبقاء رياض سلامة وشركائه طلقاء، في ظلِّ إمكانيَّة فرارهم من لبنان وتواريهم عن الأنظار، ما يحول دون محاكمتهم وجاهياً، وتنفيذ العقوبات التي قد تصدر بحقهم، وإلزامهم بإعادة الأموال التي اختلسوها وتحصيلِ الغرامات التي قد يُقضى بها بحقِّهم.
إن تورُّط سلامة وشركائه، لم يعد مجرَّد شبهات عاديَّة بعد ما ورد في التقرير المعدّ بنتيجة التَّدقيق الجنائي، لا بل يُمكننا القول: يبدو أن حجم الإرتكابات يزيد أضعاف مضاعفة عما ورد في التَّقرير، لكون التّدقيق حُصِر في الفترة الممتدة ما بين 2015 و2020، في الوقت الذي كان يفترض أن يشمل التدقيق تولي سلامة لمهام حاكمية المصرف المركزي بكاملها، هذا بالإضافةِ إلى وزارات أخرى ولا سيَّما وزارة الماليَّة. علمًا أنه سبق لنا وتحفَّظنا على تكليف شركة لإجراء تدقيق جنائي، إذ ينبغي، أن تكون الإنطلاقة مع تحقيق جنائي، يكلِّف المحققين خبراء «مدققين حواسبيين جنائيين» لا العكس طالما نحن من الأساس في صدد شُبهات جرميَّة.
ويُستشف من إمعان المسؤولين وكافَّة المعنيين بالملاحقة القضائيَّة أن ثمَّة ارتكابات أفظع بكثير مما هو معلن أو مما يجول في مخيَّلتنا، متورِّطٌ بها رياض سلامة وعدد من النافذين السِّياسيين والموظَّفين الذين تعاقبوا على تولي المناصب الرفيعة في الدَّولة، وكان لهم تأثير في صناعة واتِّخاذ القرار. ويستشف أيضًا أن ثمَّةَ متورِّطين في إعاقة تحريك هذا الملف ومنع وصوله إلى خواتيمه، لقاء منافع أقرب إلى الرَّشى، حصلت بعد الانهيار المتعدد الأبعاد (مالي - نَّقدي - مصرفي اقتصادي...) الذي حصل في أواخر 2019، كنصح النَّافذين من المتموّلين بتهريب أموالهم للخارج، أو تحويل جزء كبير من إيداعاتهم من الليرة اللبنانية إلى عملات صعبة خارج السِّعر المتداول في الوقت الذي تمنع هذه الأمور على الغير؛ وعليه أقول:
لو كنت رئيسا لمجلس النواب لأقدمت فوراً على تشكيل لجنة تحقيق برلمانيَّة ذات طابع قضائي لتَقصّي الحقائق، وإجراء التَّحقيق في كل ما له علاقة بالانهيار المالي والمصرفي والنَّقدي وهدر المال العام. ولبادرتُ إلى إجراء عمليَّات قطع الحساب عن السَّنوات التي تخلف فيها مجلس النُّواب عن إنجازها وإقرارها في أوانها وكانت السَّبب في الانفاق العشوائي وأوصلنا إلى ما نحن عليه، ولأقرَّيت قانون يضمن أموال المودعين جميعهم.
لو كنت رئيساً لحكومة تصريف الأعمال لما كُنت لوَّحت بالاعتكاف، لأن معظَم الوزراء معتكفون عن القيامِ بواجِباتهم الوزاريَّة، مكتفون باللعي في الكلام، ومنشغلون في نقل البندقيَّة من كتف لآخر، استجداءً لرضى مرجعيَّات داخليَّة وخارجيَّة، ولو بالانقلاب على مُعلِّميهم الذين صنعوا منهم مسؤولين، وخلافاً لتوجُّهاتِ المكونات التي يدّعون تمثيلها؛ ولانكببت على وضع خطَّة التعافي موضع التَّنفيذ، وعدمِ انتظار القروض والهبات.
لو كنت وزيراً للماليَّة لأقدمت على تكليف لجنة لدراسة السِّياسات الماليَّة التي اعتمدتها وزارة الماليَّة خلال السنوات السَّابقة، وتحديد المسؤوليًّات عن فشلها، ولأودعت ملفاً كاملاُ لمجلس الوزراء بنتيجةِ أعمالها للبتّ به؛ ولتقيَّدت في إعداد موازنات موضوعيَّة متوازنة، ولحرصت على عرضها على مجلس الوزراء للموافقة عليها وإقرارها وإحالتها إلى المجلس النيابي لمناقشتها والتَّصديق عليها وفق مواعيدها الدستوريَّة، ولتخلَّيت عن سياسة إشغال الرأي العام بمدى توفُّر وراتب الموظفين من عدمها، أو بدفع ثمن الفيول من عدمه، أو بتأمين بدل فواتير الأدوية للأمراض المزمنة...
لو كنت حاكماً بالإنابة لمصرف لبنان، لشكَّلت لجان عدَّة للتدقيق في حسابات مصرف لبنان اعتباراً من تاريخ استلام رياض سلامة لحاكميَّة مصرف لبنان  بغرضِ استعادة الأموال المنهوبة أو التي بُذِّرت، الأولى تُعنى في تحديد الانتهاكات التي حصلت، والمبالغ التي بُذِّرت على وجه غير قانوني؛ وثانية تُعنى بتحديد الأموال التي أهدرت كعطاءات وتقديمات غير مبرَّرة لجمعيات خاصَّة بالسياسيين ولمآرب خاصَّة، وثالثة للتَّدقيق في الهندسات الماليَّة والوقوف على مدى توخي المصلحة الوطنيَّة منها، وتحديد الأموال التي استحصل عليها كل من المصارف المحظيَّة على وجه غير محق، ورابعة للتدقيق في القروض المدعومة (صناعية، زراعية، تنمويَّة، سكنيَّة)، لتحديد المنتفعين منها خلافاً للقانون، وخامسة للتدقيق في الأموال التي صرفت تحت ستار دعم السِّلَع المعيشيَّة الضَّروريَّة لتحديد الجهات التي استغلّت هذا الأمر لتهريب أموالها إلى الخارج، أو سحب أموالها من المصارف باستعمال أساليب ملتوية كفواتير وهميَّة أو اعتماد أسعار مبالغ فيها، أو استيراد السلع باعتبارها مدعومة واحتكارها وإخفائها تمهيداً لبيعها كسلع غير مدعومة. وأخيراً لجنة للتدقيق وتقصّي المعلومات عن الأشخاص النافذين الذي تم تمييزهم في المعاملة الماليَّة عن باقي المواطنين، بعد انفجار الأزمات (الماليَّة - المصرفية - والنقدية)، وبخاصَّة بعد افتضاح الارتكابات في مصرف لبنان، بتحويل إيداعاتهم وتعويضاتهم من العملة اللبنانية لعملات صعبة، أو من تم تحويل أموالهم من حسابات ثابتة إلى حسابات فرش لتمكينهم من سحبها من المصرف في حين تُمنَع هذه الأمور عن باقي المواطنين.
لو كنت وزيراً للعدل لأقدمت على توجيه كتاب تحت صيغة معجَّل جدًّا إلى مجلس القضاء الأعلى أدعوه للمبادرةِ فوراً إلى اتِّخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات لضمان حسن سير الملفات القضائيَّة المثارة في وجه حاكم مصرف لبنان وشركائه وغيرهم من المتورطين الذين لم تكشف هويَّاتهم بعد.
لو كنت مدّعي عام للتمييز لأقدمت على التَّوسُّع بالتَّحقيق العدلي الذي بُدء به، ليشمل كبار المسؤولين في المصرف المركزي ووزارة الماليَّة وغيرهم ممن تحوم حولهم الشُّبهات، تمهيداً لملاحقة من يثبت ضلوعه في هذا الملف، وتوقيفهم أو اتِّخاذ ما يلزم من تدابير للحيلولة دون فرارهم وتواريهم عن الأنظار.
لو كنت مدّعي عام مالي لأقدمت على تحريك الدَّعاوى بحقِّ جميع من تثبت إدانتهم في قضية الاختلاسات في مصرف لبنان، وهدر المال العام الناتج عن السِّياسات والهندسات الماليَّة الخاطئة، وبخاصَّة ما بُنِيَ على نوايا آثمة أو إهمال أو تقصير أو إساءة استغلال السُّلطة لتحقيق منافع أو مآرب خاصَّة.
لو كنت مديراً عامًّا لأي من الأجهزة الأمنيَّة لنَبَّهت المسؤولين شفهيًّا وخطِّيًّا لضَرورة اتِّخاذ ما يلزم من القرارات الإداريَّة والقضائيَّة الكفيلة بضمان عدم فرار الضَّالعين في الجرائم المشار إليها، وفي طليعتهم الحاكم السَّابق لمصرف لبنان، لأن الظُّروف الأمنيَّة السَّائدة تسهِّل عليهم عمليَّةَ فرارهم وتواريهم عن الأنظار.
لو كنت مواطنًا مسؤولاً لأقدمت على النُّزول إلى السَّاحات ولحذَّرت المعنيين لضرورة إظهار شَفافيَّة في مقاربة هذه القضيَّة الهامَّة، ولطالبت المسؤولين والجهاز القضائي اللبناني بإبداء المزيد من التَّعاون مع المراجع القضائيَّة الخارجيَّة، باعتبارها تخدمُ العدالةَ والمصلحة الوطنيَّة العليا.
وأخيراً لو كنت مكان رياض سلامة لما تمنَّعت عن حضور أية جلسة قضائيَّة أدعى إليها أمام أي مرجع قضائي، وجهوزيَّتي الكاملة لتحمُّل المسؤوليَّة عما هو منسوبٌ إليه من سلوكِيًّات أو تقصير، ولكنت طلبت توقيفي. وعليه التَّمثُّل بالرئيس الأميركي السابق «ترامب» الذي حرصَ على الامتثال للقضاء وأعلن مؤخَّراً أنه سيسلّم نفسه لينفذ قرار التَّوقيف بحقه. 
وأختم بالقول: كفى تسويفاً ومماطلة، وحذار الاستنكاف عن القيامِ بالواجباتِ القانونيَّة والقضائيَّة، وتنبهوا جميعاً لمغبَّةَ أن تكونوا مطيَّة لإعاقة العدالة، أو قرابين يُفدَّى بها أصحاب الياقات البيضاء، وأنَّكم لملاحقون قضائيًّا بمُجرَّد تمَّكُّن رياض سلامة من الفرار.