بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 تشرين الأول 2023 12:00ص خمسون عاماً على حرب تشرين: المشروع النهضوي شرط الإنتصار

حجم الخط

كان ذلك يوم السبت في العطلة اليهودية وفي شهر رمضان، حين اقتحم الجيشان المصري والسوري في السادس من تشرين الأول العام 1973 خطوط الدفاع الإسرائيلية في سيناء والجولان المحتلين، في سابقة حينها جاءت بعد نيف وسنوات ست على مرارة هزيمة 1967 أو "النكسة"، المصطلح الذي اجترحه الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل تخفيفاً على العرب من نكبتهم الثانية في وجه العدو نفسه بعد نكبتهم الكبرى قبلها في العام 1948.

كان العرب قد ذاقوا علقم الصدمة في 67 بعد أن كانوا يمنون النفس برؤية جيوشهم تجتاح إسرائيل لتحرير الأراضي المحتلة الفلسطينية بعد 19 عاماً من سقوط معظم فلسطين التاريخية. وأشّرت الهزيمتان إلى عمق الهزال العربي الذي لم يسقط فقط عسكرياً كما خُيل لكثيرين حينها وما زالوا مكابرة، بل سقط حضارياً ولم تكن الهزيمة العسكرية سوى المؤشر الأكبر على الفجوة التي كانت قائمة (وما زالت) بين المشروع العربي القائم على فردية الحكم واختزال مؤسسات القرار، وبين المشروع الإسرائيلي الغربي في الأساس والمزروع على أرض فلسطين لكنه الناقل حينها لتجربة حداثية أوروبية وغربية وسط وحشية عنصرية ودينية.

صحيح أن العرب لم يستسلموا في 67، فخرجت مقررات قمة الخرطوم بعدها سريعاً باللاءات الثلاث، لا صلح لا تفاوض لا اعتراف، وصحيح أن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر أطلق بعدها حرب الاستنزاف، وفي الجانب السوري التقدمي حرب التحرير الشعبية، ومن ثم الحرب النظامية في 73، إلا أن الصحيح أيضا أن الأخيرة كانت حرباً "تحريكية" ضد عدو لم يقاتل العرب لوحده بل قاتلت معه فعلياً القوة العظمى الكبرى على الأرض مباشرة، الولايات المتحدة الأميركية، التي كان مدها العسكري واللوجستي لإسرائيل في الحرب متفوقا بأشواط على الدعم السوفياتي للعرب وسابقا له بجيل السلاح وعمره وحداثته والأهم، بجديّته.

لسنا هنا في مجال نقد التجربة العربية العسكرية فقد أثبت الجندي العربي بسالة وتفانياً كما أثبت معنوياً أن الهزيمة ليست قدراً مكتوباً يجب الإستسلام له، لكن المقصود أن الصراع مع كيان العدو لم ولن يكون يوماً عسكرياً محضاً، بل هو في جوهره حضاري الطابع، فقد انتصرت إسرائيل على العرب دوماً بحداثتها وطبعا بمجازرها لا سيما في البدء حين استولت العصابات الصهيونية على القرى والمدن الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى بالقتل والترهيب المعنوي وسط عجز عربي وتخلف قتالي وتواطوء رسمي..

هذه البسالة العربية في الصراع المحض عسكري، تمّت هزيمة الجيش الإسرائيلي "الذي لا يُقهر" وجها لوجه.

حدث ذلك بدءاً من اندلاع شرارة المقاومة في أيلول 1982 في لبنان الذي شكل نقطة التحول في هذا الصراع وصولاً إلى تحرير الغالبية العظمى من الأرض اللبنانية، ثم بالانتفاضات الفلسطينية الشعبية والعسكرية المتتالية التي أثبتت أن الشعب الفلسطيني لم يمت يوماً وبأن جذوة النضال والقتال باقية مهما تعاظم جبروت العدو..

لكن البسالة العربية لم تكن لتكفي لهزيمة المشروع الصهيوني وكانت مقتصرة على المواجهات المباشرة معه.

في عقود ما بعد نكبة العام 1948، ساد رأي عربي رسمي وشعبي مفاده أن الصراع مع إسرائيل هو جزء من الصراع مع العالم الغربي المتآمر على العرب. ووسمت الأنظمة العربية، يسارية الطابع، الصراع مع إسرائيل بالصراع الأممي، واستقر الرأي على أن هزيمة العدو ستؤدي إلى كرة ثلج تدفع إلى انتصارات عربية على كل محتل ومستعمر.

لكن الخطاب كان للإستهلاك (للحق ليس عند الجميع) وأثبت التاريخ العربي أن النظام الرسمي لم يلتفت إلى الداخل إلا بقدر حماية نفسه وتم إرجاء المعركة مع العدو يوماً تلو الآخر حتى تحين ظروفها التي لم تتحقق يوماً، في الوقت الذي انشغلت فيه الأنظمة بحروبها الخارجية بعيداً عن فلسطين. صحيح أن موازين القوى العسكرية لم تكن يوماً لصالح العرب، لكن الصحيح أيضا أن تلك الفجوة مع إسرائيل فعل العرب في تعميقها عبر أنظمتهم العسكرية والفردية الهشة داخلياً والمعتمدة ببقاء الكثير منها على الغرب نفسه الذي تتهمه بإنشاء ومن ثم دعم عدو العرب وحمايته من الزوال.

الواقع أن الإنتصار في الصراع بين العرب وإسرائيل لن يتم من دون انتقال العرب من حصر هذا الصراع بالجانب السياسي والعسكري، إلى العمل على الذات العربية أولاً عبر التحديث السياسي والإقتصادي وإيلاء الأولوية للبناء الذاتي وللعلم وللصناعة، وتمدين المجتمع مع إطلاق الحريات العامة والعملية الديموقراطية فعلاً لا قولاً، لتأتي المعادلة العسكرية تكملة لتمتين الجبهة الداخلية بعد حفظ الإستقرار الداخلي وضمان أمنه كون الإستقرار مفتاح التقدم الاقتصادي والمالي وباب الرساميل الخارجية والاستثمارات وضخ الأموال في اقتصادات منهارة ومجتمعات متهالكة..

تحصين العرب لمجتمعاتهم لن يفعل فقط في صراعهم مع عدوهم، بل أيضا في تحقيق الإكتفاء الذاتي الذي يضمن عدم تبعيتهم للخارج ، ما يعني حُكماً الإستقلال الوطني الذي لطالما نادى به العرب منذ تقسيم وطنهم الكبير أوائل القرن الماضي في مؤامرة عظمى من القوى الغربية الكبرى لم تكن لتنجح لولا هشاشة العرب الذاتية وتخلفهم المجتمعي والإقتصادي وحتى الإنساني.

وُصفت حرب تشرين أو حرب أكتوبر بـ"آخر الحروب"، لكنها لم تكن كذلك على الإطلاق، بل شكلت مثالاً حيّاً على أن المشروع الإسرائيلي الإستيطاني لا يُهزم بالسلاح وحده، بل بمشروع نهضوي مجتمعي حداثي كبير يلحظ كل مقومات الأمة.. ومن بينها السلاح.