بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 نيسان 2024 12:19ص ذاكرةُ ستين عاماً

حجم الخط
ستون عاماً مضت على تأسيس جريدة اللواء، كانت خلالها الشاهد الحي والأمين على قمة تألق لبنان والمنطقة، ومن ثم على ويلات الحرب الأهلية التي شوَّهت شكل وروح الوطن الصغير، ومن بعدها مؤتمر الطائف الذي طوى صفحة الحرب ووضع المدماك الأول للسلم الأهلي وأسس لمرحلة إعادة الإعمار مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بكل ما رافق مشواره من تحديات وصعوبات زرعت على درب إعادة لبنان على الخارطة العالمية كما يليق به وحده.. وصولا الى نقطة اغتياله السوداء التي لم تغير وجه لبنان وحسب، بل غيرت وجه المنطقة برمتها وكانت نذير مخطط شامل يُحاك للشرق الأوسط حيث لم يعد من مكان للاعتدال والحوار، بل أطلقت شياطين التطرف والتشدد وإشعال الفتن في محيط وطن الأرز. 
و لم ينتهِ درب الجلجلة هنا، بل مرَّ على محطة الثورة حيث حاول اللبنانيون إحداث خرق ما في جدار المافيا الحاكمة فكان الرد بإخضاع هذا الحراك وفتح أبواب جهنم الاقتصادية بشكل غير مسبوق من خلال ما عُرف بأزمة المصارف وما هي بالحقيقة سوى سرقة موصوفة ومحمية لجنى عمر الطبقة الشريفة حصراً ودون أن يحرك أي فريق، كان قد نصب نفسه الحاكم بأمره، ساكناً للخروج من هذه الحفرة العميقة، بما أن الهدف كان ضرب عصب الاقتصاد اللبناني من خلال ضرب الثقة بنظامه المصرفي والذي ميَّزه عن محيطه العربي والذي صمد في أحلك ليالي الحرب المظلمة!
ثم كانت الشهادة المدمية على انفجار المرفأ الذي ضرب ما تبقَّى من أمل في إعادة دولة المؤسسات الى الحياة، فدفنت العدالة تحت أهراءات المرفأ وتلاشت في قاع الأزرق الكبير.. فكانت الهجرة الجماعية المخيفة، وكأن إفراغ الوطن المنكوب من شبابه وكفاءاته هو الخطوة التالية في هذا المخطط الجهنمي. 
وتوالت الأزمات على الوطن الصغير سياسية واقتصادية وكيديات وتعطيل للمؤسسات وفراغ رئاسي لا يريد ان ينتهي، وزج لبنان في حروب الغير وبقيت جبهاته مفتوحة مع الحرص الكامل على إبقاء الشحن الطائفي على جهوزية تامة في حال طلب إشعاله!
 ستون عاماً والرسالة تطورت خلالها من شهادة حيَّة وأمينة الى دور فاعل في المطالبة بحقوق فئات منسية من قبل دولة الغيبوبة، فكانت تجربة «لواء المناطق» الرائدة التي تبلورت في ملاحق أسبوعية للفيحاء، البقاع، صيدا والجنوب .. فكانت صوت هذه المناطق المحرومة من أدنى حقوقها بالإنماء والتي تعاني الإهمال والتهميش المستدام منذ عقود من قبل دولة أغبى من أن تفهم المركزية الإدارية الفاعلة، وأعجز من أن تحقق اللامركزية المنتجة، ومن قِبل طبقة سياسية لا تلتفت الى قاعدتها الشعبية إلاّ عند الانتخابات والشحذ للعصب الطائفي عند الضرورة!
اما «اللواء الاسلامي»، فكان له الدور الأكبر بنقل رسالة الإسلام الحق المعتدل والمنفتح الذي جمع الأطياف والطوائف في حوارات وندوات ودراسات تهدف الى مدِّ جسور التواصل مع الآخر وتبني القضايا المحقة مثل إعادة افتتاح مسجد محمد الأمين على سبيل المثال لا الحصر!
 لم تتردد اللواء يوماً بفتح صفحاتها دون قيد أو شرط أمام مختلف المؤسسات الخيرية والاجتماعية مساهمة في نشر الوعي حول أهمية التكافل الاجتماعي وتعزيز المبادرة الفردية حتى تستمر هذه المؤسسات في تلبية حاجات المجتمع في ظل غياب الدولة المدوي.
 وكانت للثقافة والرياضة والتربية والبلديات النصيب نفسه من الاهتمام في ملاحق أسبوعية مخصصة وسنوية موسعة، أعطت كل ذي حق حقه من التغطية الشاملة والمفصلة.
أما لواء العروبة فكان مرفوعاً منذ ستين عاماً حتى اليوم، مواكباً مختلف أزمات المنطقة وانتصاراتها. فعلى الرغم من تطوير اقتصاديات العديد من دول مجلس التعاون واتباع سياسات الانفتاح والتطور والبناء، إلا أن الصورة كانت قائمة في العديد من الدول العربية، بدءًا من ربيع تحول الى شتاء عاصف وحروب أهلية في العراق وسوريا، الى انحلال الدولة وافلاسها في ليبيا وتونس وصولا الى حرب الإبادة التي يشنها العدو الصهيوني ضد غزة و أهلها العزَّل، وهي تمثل القضية الأغلى على قلب اللواء والتي لم تتوانَ يوماً في حمل راية القضية الفلسطينية والدفاع عنها منذ يومها الاول وحتى الساعة.
 لم تعترف اللواء يوماً بالحدود التي تقسِّم الوطن العربي الى دول، والشعب العربي الى شعوب ، فكانت صلة الوصل بين الوطن الصغير ومحيطه الكبير من خلال مكاتب ومندوبين على امتداد الوطن العربي، ترجمت في ملاحق عربية مخصصة لمواكبة الأحداث والتطورات الاقتصادية والعمرانية ..
 لم تكن اللواء جريدة يومية سياسية وحسب، بل هي رسالة موجهة هادفة اختارت طريق الاعتدال والانفتاح و لم تحد عنه يوماً رغم كل الضغوطات والاغراءات، ورغم الأثمان الباهظة التي دفعتها في أمنها أو من خلال معاداتها لجمهور كان توَّاقاً الى الخطاب الطائفي البغيض،ومدمناً على الصحافة الصفراء المحرِّضة للغرائز.. إلّا أن المسار كان واضحاً والقيد الوحيد المفروض على أي صحافي في اللواء هو الخطاب الوطني ووضع السلم الأهلي والمصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار، و ما دون ذلك فكانت مساحة حرية مفتوحة ترحب بكل رأي حر والرأي الآخر له.. فلم يشعر الفريق يوماً انه مقصيٌّ أو مستهدفٌ مهما بلغت الخصومة السياسية او اختلاف مساره عن مسارها شرط الالتزام بقواعد التعبير الديمقراطي والمنفتح .
تمثِّل عائلة اللواء نموذجاً مصغراً عن بيروت المدينة الحاضنة لأبناء الوطن على مختلف مشاربهم، من شماله لجنوبه، دون تمييز أو تحيُّز، يؤمنون بفكر مؤسسها وعميدها عبد الغني سلام، ورئيس تحريرها صلاح سلام المعتدل والمنفتح والمؤمن بثقافة الحوار والتصالح مع الذات ومع الآخر، وتغليب المصلحة الوطنية العليا على أساس لا غالب ولا مغلوب في وطن حكمت عليه تركيبته الفريدة والمتنوعة بالتعايش والتحاور البنَّاء، هما حافظا أسرار المهنة الأمينان اللذان آمنا أن أي نصر صحفي يسقط أمام السلم الأهلي ومصلحة الوطن العليا !
اللواء مدرسة خرَّجت آلاف الصحافيين وأطلقتهم في رحاب العمل الإعلامي والسياسي، إنها مدرسة القيم الوطنية والحريات المسؤولة وثقافة الحياة والانفتاح وتقبُّل الآخر واحترامه.. إنها مدرسة المهنية والموضوعية لتغليب لغة الرصانة والاتزان على مشاعر الإحباط والغضب التي يمرُّ بها كل لبناني في وطن الانقسامات والكيديات، إنها مدرسة القيم الوطن الوطنية الصافية التي باتت نادرة في زمن الهبوط والإسفاف الذي نعيشه !
وأخيراً، اللواء هي ذاكرة الوطن الصغير القابع في قلب الوطن العربي الكبير والتي لن يستطيع الزمن أن يمحوها، بل ستبقى شهاداتها دروساً تعطى لأجيال قادمة على أمل أن تتعلم من تجارب الماضي حتى تعيش ستين عاماً جديدة تليق بها!