بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 تموز 2023 12:00ص سيبقى لبنان كياناً فاقداً للأهليّة طالما بقي حكّامه ينشدون الحلول الخارجيّة

حجم الخط
لقد آن الأوان لكي نعي ونقرّ نحن اللبنانيين بهذه الحقيقة المؤلمة، أننا قاصرون عن تدبير شؤوننا الذاتيّة، وطالما نحن مستمرّون بهذه الذّهنيّة في إدارة الدّولة سنبقى ولأبد الآبدين معوّقين ذهنيّا، وبحاجةٍ لوليٍّ أو وصيٍّ ليرعانا. لم يعد بخافٍ على أحدٍ أن مشكلة لبنان نابعةٌ عن قصورٍ في التّفكير، حيث تتحكّم الجوانب الغرائزيّة على العقل في تحديد خياراتنا وسلوكياتنا في تدبير شؤوننا. وخير دليلٍ على ذلك الخضّات والنّزاعات والكبوات التي شهدها لبنان ماضيًا ولم يزل يشهدها لغاية اليوم، والتي هي نتاج الفشل الذّريع  في تسيير شؤون الدّولة ورعاية مصالحها.
فلنعترف إذن، وبصراحةٍ متناهيةٍ، بهذا الواقع الأليم، ولنقرّ بأنّ بلدنا مريضٌ ذهنيّاً إلى حدّ التّخلّفّ العقليّ الذي يصعب شفاؤه، وفق المقاربات العلاجيّة التّرقيعيّة التي اعتمدت سابقاً لانتشاله من سقطاته وأزماته السّابقة، وهي غير كفيلةٍ  بتعافي لبنان من المرض العضال الذي يتخبّط فيه، لأنّها بمثابة جرعاتٍ مسكّنةٍ آنيّةٍ المفعول، لا يكاد الوضع يتحسّن ليتدهور من جديد، ولنعود إلى هستيريا سياسيّةٍ بحلّةٍ جديدةٍ بعد انقضاء مهلة مفعول العلاج بالمخدّر. كما إن الاستخفاف المتمادي بالمرض أوصلنا إلى ما نحن عليه من انهيار، وأوقعنا في الكثير من الفتن الدّاخليّة التي كلّفتنا آلاف الضّحايا وخسائر مادّيّةٍ فادحة.
إن المعالجات السّابقة لم تنجح في شفاء لبنان من مرضه، لكون العلاج الشّافي لا بدّ أن يبنى على تشخيصٍ صحيح للحالة المرضيّة، والوقوف على مدى قابليّتها للشّفاء من عدمه، وفي الحالة السّلبيّة يقتضي التّعايش مع المرض، ولكن بأقلّ قدرٍ من المضار والآلام، وبكلتي الحالتين نحن بحاجةٍ لتّشخيصٍ المرض أولاً ومن ثمّ لتحديد أسبابه الحقيقيّة، وتحديد آليّة العلاج المثلى في ظلّ المعطيات المتوفّرة. إن التّشخيص الصّحيح لحالتنا المرضيّة يستدعي منا استعراض، ولو بعجالةٍ، مسيرة لبنان التّاريخيّة، وما شهده من نهضاتٍ وتعثّراتٍ وكبواتٍ منذ ما قبل نشأته وإلى يومنا هذا. 
يبدو أن مؤشّرات التّشوّهات الخلقيّة كانت واضحةً منذ ما قبل ولادة لبنان، وحبّذا لو كانت الطّبابة السّياسيّة تجيز إجهاض الجنين الذي يعاني من تشوّهاتٍ خلقيّةٍ قبل ولادته لتخفيف المعاناة عنه وعن ذويه، لكنّا ارتحنا وارتاح أسلافنا، وربّما ارتاحت من مشاكلنا أمتنا العربيّة والمجتمع الدّولي اللذان ضاقا ذرعاً بنوبات جنوننا المرضيّة المتكرّرة وخياراتنا المتهوّرة. لبنان الفينيقي كما يطيب لنا تحديد نسبه، لم يعرف الاستقرار يومًا، ويستدلّ على ذلك من الصّراعات الفئويّة التي كانت تحصل بين الفينة والأخرى بين المدن الفينيقيّة السّاحليّة من صور إلى طرابلٍس مرورًا بصيدون وبيروت وجبيل، ولم تكن فترة الإمارات المعنيّة والشّهابيّة ولا الولايات العثمانيّة ولا القائمقاميتين الجنوبيّة (الدرزيّة) الشماليّة (المارونيّة) ولا عهد المتصرّفيّة بأفضل حال، إلاّ أن ما نشهده اليوم من نزاعاتٍ بين المكونات اللبنانيّة الحاليّة، ما هو إلاّ الصّورةٌ الأبشع من النّزاعات كونها تلبس لبوسًا دينيّةً طائفيّةً طورًا ومذهبيّةً طوراً آخر،  والقاسم المشترك بينها جميعها هو التّناحر الولاّد لمناوشات عسكريّة وأمنيّةٍ وأزمات اقتصاديّةٍ وعدم الاستقرار السّياسي.
فلنعترف إذا أننا، كدولةٍ، مرضى متخلّفون عقليًّا، لأن سجلّنا كلبنانيين حافلٌ بالنّزاعات الغرائزيّة، والتي لا يمكن في ظلّها بناء دولةٍ مستقلّةٍ ذات سيادة. لبنان من حيث الشّكل بلدٌ متكامل الأوصاف، إلى حدٍّ أن قيل فيه: أنه هبة الخالق على الأرض، ويردّ ذلك لجمال طبيعته، ولمناخه المعتدل الرّباعي الفصول، ولتنوّع تضاريسه، وقرب جباله من شاطئه، ولانتشار مروجه الخضراء وغاباته الغضّة ما بين السّاحل والدّاخل، ولغناه بثرواته الطّبيعيّة، وغزارة مياهه المتنوّعة المصادر، وعلى امتداد مساحته ومن شماله إلى أقصى جنوبه، الأمر الذي جعله منتجاً لألذ الخضار وأشهى الفاكهة.
هذا الكيان جميلٌ بنعم الله، قبيح المراس بسيئات سلوكيّات حكّامه الغوغائيّة والبعد عن التّعقّل. الشّعب اللبناني يتمايز عن باقي الشّعوب بتنوّعه الثّقافي وغناه الدّيني ـ الروحي، ولكنّه يتميّز عنها  بعنصريّته الفئويّة، وبدلاً من أن تعمل المكونات الشّعبيّة سويّةً وفق روحيّةٍ تشاركيّةٍ تكامليّة متناسقة، والتّعاون في ما بينها  لبناء بلدٍ عصريٍّ مزدهر. لبنان أسير تناحر حكّامه وتخاصمهم ومماحكاتهم العبثيّة، الأمر الذي حرف لبنان عن رسالته الانسانيّة، وجعل منه مكوّناً سياسيًّا تائهاً وغير مستقرٍّ عرضةً لمخاطر الانزلاق في صراعاتٍ داخليّةٍ ومحاورٍ إقليميّة ودوليّة. ولو كان لدى الحكّام الحدّ الأدنى من التّعقّل والحكمة لما أصابه ما أصابه، ولتجنّبنا الكثير من المخاطر الدّاخليّةٍ والخارجيّة، ولنعمنا بالأمن والأمان لعرفنا الاستقرار الذي يعتبر المرتكز الأساس لتحقيق النّموّ والازدهار.
التّشخيص المتجرّد يوحي بأن كلّ المكونات العضويّة للكيان اللبناني من أعضاء وحواسّ سليمةٌ ومعافاةٌ، وحده العقل المدبّر غير معافًا، وهو على هذه الحالة منذ الولادة، هذا الخلل الدّماغيّ يتسبّب في خللٍ في الأداء على المستوى الوطني، لانعدام الضّابط ونمطيّة التّفكير الرّشيد؛ وعلّة هذا المرض اللّعين تكمن في العقليّة اللّبنانيّة التي تتحكّم فيها الغرائزيّة الفئويّة والشّهوات الاستئثاريّة، والنّزعات التّملّكيّة؛ وقد وصل الأمر بلبنان واللبنانيين إلى حدّ الإدمان عليها. 
هذا الكيان الذي يعاني من قصورٍ في الأداء يجعل منه بلداً فاقد الأهليّة، بحاجةٍ ماسّةٍ لوصيٍّ يتولى أمره ويرعاه ويدبّر شؤونه على الدّوام. إذ لم تجدي معه نفعاً التّدخّلات الظّرفيّة، لأنه يعود للسّقوط مجدّداً بمجرّد سهو من يرعاه عن متابعته، ويصبح بحاجةٍ لإعادة تأهيل بنيوي ونفسي للنّهوض مجدّداً، وخير دليلٍ على ذلك هو انتكاساته المتكرّرة رغم جرعات العلاج المتعدّدة التي أخضع لها منذ نشأته، والتي كان أشهرها مباحثات لوزان، والطّائف والدّوحة. وهي بمثابة جرعاتٍ مهدّئةٍ آنيّة المفعول، وها هو اليوم ينشد جرعةً مهدّئةً تنشله من كبوته الرّاهنة.
السؤال الذي يطرح ذاته اليوم وبقوّةٍ هو: هل ما يعاني منه لبنان من داءٍ عضال هو حالةٌ مستدامة ميؤوسٌ من منها؟ وعلينا التّعايش معها؟  وبالتالي علينا تناول جرعاتٍ مهدّئةٍ بين الفينة والأخرى بغرض التّخفيف من الأضرار كما لتفادي الانتحار الجماعي؛ أم أن هذا الدّاء الذّهنيّ قابلٌ للعلاج والتّعافي بصورةٍ نهائيّة؟ وفي الحالة الإيجابيّة ما هو العلاج الشّافي؟ الجواب بسيطٌ، ولكنه يتطلّب قبل كلّ شيءٍ اقتناع المريض بأن مرضه قابلٌ للعلاج، وأن التّعافي منه ممكنٌ بل أكيد، إن واظب على تلقي العلاج.
مرض لبنان ليس بداءٍ لا يرجّى الشّفاء منه، ولا هو بعصيٍّ على العلاج، إنما علاجه ذو طابع على شاكلة العلاج من الإدمان، يقتضي العمل على محورين متكاملين متزامنين، الأوّل بنيوي يستدعي تدخّلاً تشريعيًّا، يقرّ إصلاحاتٍ دستوريّةٍ بنيويّةٍ طفيفةٍ ولكن جوهريّة، لضمان تطبيق الدّستور وفق روحيّة اتّفاق الطّائف، والذي يشكّل آليّةً سياسيّةٍ أكثر تناسبًا وملاءمةً لتنوّع النّسيج اللبناني، والتي من شأنها أن تحول دون الخروج عن الأطر الدّيمقراطيّة وتعطيل الحياة السّياسيّة وتكفل إنجاز الاستحقاقات  الدّستوريّة في مواعيدها؛ وذلك من خلال تحديد مهلٍ معقولةٍ لإنجاز الاستحقاقات، وإعادة صياغة بعض النّصوص الملتبسة أو حمّالة أوجهٍ مختلفة، لتلافي تأويلها على خلاف مقاصد واضعيها، كما يتمحور حول إعادة هيكلة القطاع العام على نحوٍ يحدّ من ترهّله، وأساليبه البيروقراطيّة ويزيد من فاعليّته، ويرشّد استخدام طّاقاته البشريّة. وفي الوقت ذاته يضمن للقطاع الخاصّ هامشًا واسعاً من المناورة وعلى نحوٍ يتكامل مع القطاع العام.
أمّا المحور الثاني فهو علاجٌ نفسيٌّ يكفل انتقال الشّعب اللبناني بكلّ أطيافه من عقليّةٍ عشائريّةٍ متقوقعةٍ طائفيًّا ومذهبيًّا، إلى عقليّةٍ وطنيّةٍ منفتحةٍ تقوم على التّنوّع والقبول بالرّأي الآخر؛ وتكريس المساواة التّامّة بين المواطنين من حيث الحقوق والواجبات، من خلال إرساء مفهوم المواطنة الحقيقيّة، وهذا يستوجب اعتماد قانون انتخاباتٍ تشريعيّةٍ عصريٍّ وفق النّظام النّسبي، بالإضافة إلى قانون أحزابٍ علماني يمنع وجود أو قيام أحزابٍ على أساسٍ عرقيٍّ أو أثني أو طائفي أو مذهبي أو مناطقي أو امتداداً لأحزابٍ خارجيّة. هذا بالإضافة إلى تطبيق مبدأ الثّواب والعقاب، وإخضاع جميع المرتكبين ومن تحوم حولهم الشّبهات للملاحقة والعقاب، وهذا يستوجب إعادة النّظر بكلّ الحصانات السّياسيّة والقضائيّة والإداريّة والمهنيّة التي تعيق ملاحقة المرتكبين بغضّ النّظر عن طبيعة الضّمانات التي توفّرها لهم.
وعلاج أزماتنا السّياسيّة التي أدمنا عليها يكون إما بناءً على استجابةٍ ذاتيّة، وإمّا يفرض قسراً، وعلى المريض المدمن أن يتابع العلاج من تلقاء النّفس وبطيبة خاطرٍ، وإلاّ يرغم على متابعته ولو على مضض، والنّمط الأخير لا يكلّل عادةً بالنّجاح، لذا علينا أن نختار ما بين مقاربةٍ داخليّةٍ صرفةٍ بحيث نصيغ بأنفسنا، ومن تلقاء ذاتنا، حلاًّ جذريًّا لمشكلاتنا؛ حلاّ يليق بنا وينشلنا نهائيًا من المستنقع الذي نتخابط فيه، وإلاّ نبقى بانتظار تدخّلات خارجيّةٍ غالباً ما تفصّل لنا حلولاً  آنيّةً كونها لا تناسب مقاساتنا وطموحاتنا.