بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 أيلول 2023 12:00ص صرخة نادي قضاة لبنان

حجم الخط
حدثان حصلا في نفس الأسبوع تقريبا: الأول في الولايات المتحدة حيث سلّم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نفسه للسجن لتؤخذ بصماته، بعد اتهامه بالتلاعب بنتيجة الانتخابات في ولاية جورجيا عام 2020، ما يمهّد الطريق أمام محاكمته جنائيا على عدد كبير من الجرائم المتهم بها وتتجاوز الثمانين تهمة، وهو في نفس الوقت يسعى للعودة إلى البيت الأبيض.
والثاني في لبنان حيث كان من المفترض، قضائياً، أن يحضر إلى قصر العدل حاكم مصرف لبنان السابق السيد رياض سلامة المتهم بقضايا جنائية كثيرة ليس أقلّها تهم تبييض الأموال والرشاوي والفساد وسرقة أموال المودعين، وكان السبب في الانهيار الاقتصادي والنقدي في لبنان، ولكن المفاجأة كانت في عدول الحاكم السابق عن الحضور الى قصر العدل للمثول أمام الهيئة الاتهامية برئاسة القاضي ماهر شعيتو، وبدلا من الحضور عمد الى التقدّم بثلاث دعاوى «مخاصمة الدولة» واحدة منها ضد الهيئة الاتهامية في بيروت أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، غير المكتملة أصلا، مما يعني حكماً تعطيل التحقيق. علما بأنه لم يقم مثل هذه الدعوى عندما كان يستدعى للتحقيق معه قبل نهاية مهمته، لأنه كان متأكدا من الحماية الرسمية له.
وقد سبق للسيد رياض سلامة أن اتهم بجرائم تبييض الأموال والفساد وجرائم أخرى في كل من فرنسا وألمانيا وسويسرا، وبالتالي فإنّ إمكانية اتهامه في لبنان كانت قائمة، وسبق أن استدعي للتحقيق معه أكثر من مرة قبل نهاية ولايته وترك بسند إقامة، إضافة إلى منعه من السفر، فمن الطبيعي أن يسعى السيد سلامة لتأمين حمايته إن لم تكن براءته مضمونة. وعندما سرت شائعات على إمكانية تأمين هربه من لبنان إلى البرازيل، كان رأيي أنّ الطغمة الحاكمة لن تفعل ذلك بل كانت يمكن أن تطلب من سلامة العودة إلى لبنان إذا كان في البرازيل، لأنها تعرف جيدا كيف تحميه في لبنان أفضل مما لو كان في البرازيل.
ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة في لبنان بحيث يظهر المتهم أنه فوق القانون. فرئيس الولايات المتحدة الأميركية السابق هو تحت القانون، ويحضر للمحاكمة وتؤخذ له الصور كسجين - متهم، أما في لبنان، حيث المتهم يكون حاكما سابقا للمصرف المركزي فهو فوق القانون، فلم تجرأ الجهات الرسمية على تبليغ المتهم رياض سلامة بالدعوى موضوع اتهامه، وأعيد التبليغ لعدم العثور عليه في ثلاثة أماكن، ولكن المضحك والمحزن في نفس الوقت أن المتهم «المختفي» تبلّغ لصقا.
عقدت مثل هذه المقارنة البسيطة، بين ما حصل مع رئيس سابق للولايات المتحدة والذي خضع للقانون وسلّم نفسه للعدالة، وبين رئيس سابق للمصرف المركزي في لبنان، الذي لم يتبلغ طوعا وتبلغ لصقا، ولكن، وبدلا من الحضور، أقام دعوى مخاصمة الدولة، وبقي في منزله.
وإذا أردنا التوسّع في المقارنة سنجد أن لبنان قد يكون الوحيد بين الدول التي لا يحاسب فيها أي مسؤول مهما كانت تهمته، أي ان المسؤولين في لبنان هم فوق القانون، أمّا في العالم فالجميع من رئيس الدولة وما دون هم تحت سقف القانون، وسأكتفي بذكر بعض الدول حيث عوقب فيها مسؤولون كبار. فالرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيرك تعرّض للمحاكمة ولعقوبة قاسية، فقد أصدرت محكمة فرنسية بتاريخ 15 كانون الأول 2011 حكما بالسجن سنتين مع وقف التنفيذ بسبب ما نسب إليه من فساد. ورئيسة كوريا الجنوبية المعزولة بارك غيون - هي حكمت بالسجن 24 عاما بسبب ما نسب إليها من فساد وما كشفته التحقيقات معها من مخالفات. وكذلك الرئيس البرازيلي الأسبق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا الذي نفّذ عقوبة السجن 12 عاما بتهمة الفساد، ولكنه وبعد السجن عاد ديموقراطيا رئيسا للدولة. وفي البرتغال قضى رئيس الوزراء الاشتراكي السابق بين عامي 2005 و2011 جوزيه سوكراتس أكثر من تسعة أشهر في السجن، وحتى في إسرائيل فقد أمضى رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت في السجن فترة لا تقل عن سنتين بتهمة الفساد، ويحارب رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو حتى لا يلاقي نفس المصير. وتكاد تكون الصين الشعبية الدولة الأشد صرامة في معاقبة الجرائم الاقتصادية (التهرّب الضريبي، التهريب الجمركي، الرشوة والفساد وتبييض الأموال وسواها من الجرائم المالية) حيث تكون العقوبة هي الإعدام. هذا على الصعيد العالمي.
أمّا في لبنان، يبادر المتهم - المسؤول فورا لإقامة دعوى مخاصمة الدولة، أو بطلب رد القضاة أو للارتياب المشروع، وقد بوشر بها منذ أن ادّعى القاضي طارق بيطار على أربعة وزراء هم: يوسف جرمانوس وعلي حسن خليل ونهاد المشنوق وغازي زعيتر في قضية انفجار المرفأ. ومن تاريخه «أمطرت المحاكم بدعاوى الرد والمسؤولية» طبقا لوصف بيان نادي القضاة الذي صدر بتاريخ 31 آب 2023.
ومثل هذه الدعاوى تبتّ بها الهيئة العامة لمحكمة التمييز طبقا للمادة 743 من قانون أصول المحاكمات المدنية، ولا يستغرق البت بها أكثر من جلسة واحدة، حيث يصدر قرار المحكمة إمّا بقبولها ويغير القاضي أو الهيئة الاتهامية، أو يرفضها ويستمرّ القاضي أو الهيئة المكلفة بالتحقيق في عملها.
ولكن، مع إحالة القاضي روكز رزق الى التقاعد في بداية عام 2022 فقدت «الهيئة العامة» لمحكمة التمييز النصاب القانوني، الأمر الذي أدّى إلى تأخير البت في الدعاوى المقدمة إليها بشأن ملفّ تفجير مرفأ بيروت، وساعد على ذلك الاستمرار في عدم إصدار تشكيلات جزئية لتعيين رؤساء محاكم تمييز أصيلين ، حيث تتألف منهم الهيئة، بسبب الخلافات السياسية. فهل من سبيل للمعالجة؟
فإذا كانت الهيئة العامة لمحكمة التمييز تنظر في الدعاوى التي يقيمها المتداعون حول مسؤولية الدولة، بسبب الخطأ الفادح ومسؤولية القضاة، وهي تتألّف قانونا، من رؤساء أصيلين من بين رؤساء محكمة التمييز، فلماذا لا يتم تعبئة الفراغ وسد الثغرات، وبالتالي تعيين رؤساء غرف لدى محكمة التمييز بحيث يكتمل نصاب الهيئة العامة، وتبتّ في جميع الدعاوى القائمة على مخاصمة الدولة وتأخذ العدالة مجراها، أم أن الفراغ سيبقى سيد الموقف حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا؟
بسبب هذا الوضع الناجم عن فقدان النصاب القانوني في الهيئة العامة لمحكمة التمييز أصبح بإمكان أي متهم، وليس رياض سلامة فقط، التقدم بدعوى مخاصمة الدولة، فترفع حكما صلاحية هيئة التحقيق المعنية، ويمكن بالتالي التهرّب من المحاكمة والمساءلة الجزائية، ويصبح القانون الجزائي معلّقا تطبيقه لحين الإفراج عن التشكيلات القضائية، والموقوفة عمدا، لشلّ عمل القاضي بيطار، علما بأنّ هناك ما يزيد عن الأربعين دعوى مقامة بوجهه.
فهل يتم الاستماع لصرخة نادي القضاة التي تعبّر عن المعاناة والقهر الذي يشعر به القضاة عندما قالوا: «أن تعطيل السير بالملفات القضائية بهدف عرقلة العدالة عبر تقديم دعاوى المسؤولية أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز - المعطَّلة بدورها - هو حلقة في مسلسل طويل يشهده اللبنانيون منذ زمن، وقد ترسّخ في قضية المرفأ وامتد إلى غالبية الملفات، وخصوصاً تلك المتعلّقة بالجرائم المالية ومكافحة الفساد، والغاية معلومة، وهي الحؤول دون النتيجة المرجوة عبر التعسّف في استعمال حق التقاضي، بحيث أمسى هذا الحق مطيّةً للتفلّت من العقاب».
وختم: «وبناءً على ما تقدّم، فإن الكارثة كانت وما زالت في الممارسة السياسية التي حالت وتحول دون أيّ تقدّم حقيقي في آليات المحاسبة، بل أسهمت في تعميق الحمايات بمختلف أنواعها».
لقد تضمن البيان إدانة واضحة للسلطة السياسية في تصرفاتها الرامية إلى» تعميق الحمابات بمختلف أنواعها» أي الإفلات من العقاب. فهل من يجيب؟ أم أن الجواب هو: على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟