بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 تشرين الثاني 2023 10:06م على هامش المجابهة بين العدو الصهيوني والمقاومة

التمييز بين الحروب العادلة وحروب القضايا العادلة ‏

حجم الخط
في معرض الحديث عن نوعية التزام الجندي، وربطه هذا الالتزام والتضحيات بما يمكن تسميته أخلاقية الحرب هناك سؤال يطرح مفاده: "هل يمكن أن تكون الحرب عادلة"؟ وفي خلفية هذا السؤال تساؤل آخر يتفرع عنه هو ما إذا لم يكن وراء إعلان الحرب وشنها دائماً أسباب ومرامي باطلة؟ ثم أليس اختيار العنف اختياراً غير شرعي في ذاته؟

غالباً ما نسمع، على لسان كتاب الأفتتاحيات والمقالات الأفاضل أو أنصار ومحبي العدالة، التصريحات الساخطة التالية نفسها: "لا تبرير للعنف، أياً كان شكله"، "كل عنف مدان على الدوام". تسمع هذه المعزوفة، بالطبع، وقبل كل شيء بمناسبة تظاهرات عاصفة، تخرج عن السيطرة هنا وهناك، بفعل مجموعات صغيرة منظمة، أو مناورات أجهزة أمنية مجنونة، أو حتى نتيجة تراكم غضب ناشئ عن إحباطات متراكمة.. إن النبذ المطلق "لأي شكل" من أشكال العنف وعدم التسامح معه أمر متوقع وملزم ومنهجي في وسائل الإعلام قاطبة. لدرجة يصبح معها من الصعب "تفسير"، أو "إيجاد أسباب" أعمال العنف، لأنه يُشتبه على الفور بأن ذلك يؤشر على رغبة من يسعى إلى ذلك في تبريرها. كما وأنه يصبح من المستحيل التفكير على الملأ في إمكانية حدوث عنف غير متعدي، يقوم على أساس فلسفي، وينفي شرعية طرح مسألة عدالته لأن هذا الأساس مجرّد تعبير عن غضب عاجز. ويضاعف من شدة النبذ هذه في عصرنا، ما ينتج في حقل الفنون من خيالات مشبعة بعنف لا تطاق تسحر أدمغتنا، ولكن أيضاً مع ما يزيد عن الحد في النقاش العام المتعلق بالمجال الذي يمكن أن يكون "مصدر العنف"، ويخلق الصدمة، ويجبر على التعاطف. من الواضح أن رفض العنف في العالم الحقيقي، المضاعف بالمبالغة في المساحة المفردة له في المخيال، مصحوباً بتعميم الصدمة بلا حدود، يفعل بلا ريب فعل نظام محكم الإقفال.

على هذا الأساس، قد تبدو فكرة أن تكون الحرب "عادلة"، فكرة غير مواتية، صادمة، وحشية لعلمنا أن كل الحروب تنطوي دائماً على معاناة وموت، وعنف نفسي، ودمار جسدي ومادي. ومع ذلك، لن يدور في خلد أحد التشكيك في شرعية الدفاع المسلح عن النفس

لذلك من الضروري إثبات وجود فرق بين الحروب الخيرة والحروب الباطلة، العادلة أو الظالمة، طبقاً للطرف الذي يخوضها ولماذا؟.

***

لقد طرحت مشكلة الحرب العادلة وأعيد صوغها مراراً ضمن تقليد فكري طويل للغرب يمتد من الآباء المسيحيين الأوائل إلى فقهاء القانون الدولي، ومن الإنسانيين في عصر النهضة الأوروبي إلى المفكرين السياسيين العظماء في القرن العشرين. لقد دار نقاش مكثف أفضى في النهاية، أقله إلى قيام مصدرين متميّزين للمعنى: من ناحية، حول فكرة "القضية العادلة" التي تجد تبريرها على أساس دوافعها، موضوعها، ومن ناحية أخرى فكرة الحرب العادلة وهي حرب محكومة ببروتوكول، حرب منظمة، تكتسب طابعاً شرعياً على أساس احترام عدد معين من القواعد التي يفرضها المتحاربون على أنفسهم أثناء القتال. وبعيداً من هذين الشكلين الثقافيين المحددين والموثقين تماماً (قانون مسوغات الحرب وقانون الحرب)، يمكننا أيضاً أن نتساءل عن تمثيل قديم يربط لما بين الحرب والقانون من رابط غامض: أم المعارك التي ينظر إليها على أنها مَحْكَمة تعلن عدالة الانتصار العظيمة والفاضحة وغير القابلة للاختزال.

 

وبمجرد الحديث عن حرب "عادلة"، يفكر المرء تلقائياً في حرب "ذي قضية عادلة". ومن ثم فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو عن الأسباب منها الخيّرة منها الباطلة لخوض الحرب، وتصبح المسألة في العقيدة مسألة ذكر عدد معين من المعايير لتوثيق الحروب "الخيّرة.  تم وُضع الهيكل النظري للحرب العادلة/الشرعية واتلقانونية  من قبل الآباء المسيحيين، الذين حملوه وأعطوه، عبر تأملات امتدت لعشرة قرون، بنية مستقرة. ويفسَّر اتساع نطاق التفكير، بشكل متناقض، ‏بقدر ما اتسم به مطلب السلام من القوة والإلحاح في هذا الدين. كانت بعض المطالب الإنجيلية مثيرة وصادمة من ناحية تعنتها:..: "أَحب أعدائك"، "إذا ضربك شخص ما على الخد الأيمن، فأدر له الخد الأيسر". يبدو أن القراءة السريعة لهاتين الوصيتين تعني نبذ أي حرب وإدانتها، حتى لو كانت دفاعية. ومع ذلك، فإن موقف الكنائس المسيحية لم تكن قط رفضاً غير مشروط لأي نزاع مسلح، مهما كان، وسرعان ما ظهر هذا التعنت على أنه خطير، بل وغير مسؤول.

كيف يجب أن نرد على تأكيد أحد القديسين (أمبروز) بأن من لا يهبّ لمساعدة المعتدى عليه هو مذنب مثل المعتدي؟ إن مساعدة الشخص الذي يتعرض للاعتداء تقتضي من المرء الذهاب إلى الحرب ضد خصمه. وماذا يقال للجندي الذي يريد أن يتعمّد؟ إن وظيفته تمنعه من دخول الديانة المسيحية؟ لم يتردد ترتليان وأوريجانوس في تأكيد ذلك.

فجاء القديس أوغسطينوس بحل للمعضلة فميّز، بصدد هذه التجاوزات، على سبيل المثال، بين العنف الخاص والحروب العامة، مؤكداً لنا أن المسيح لم يدِن قط أي شيء سوى العنف الخاص. في الواقع، وعلى الرغم من أن الكنيسة المسيحية تعرّف عن نفسها بالتأكيد على المحبة الشاملة التي تنطوي على رفض كل عنف،  ولو كان دفاعياً، فقد أصبحت تسمح بالحروب، ولكن بشروط مقيدة للغاية.

أولاً، يمكن أن تكون الحرب مسيحية طالما أنها ليست أبداً موضوعاً للمدح أوالتمجيد الشعري. تم استنكار بشدة المجد الوثني المرتبط بالمعارك، وعبادة أبطال الحرب. ثمة في ذلك، كما لو كان في الأمر شرط أول وسلبي للغاية: يجب شن الحرب فقط تحت الإكراه، من دون بهجة القلب، ومن دون أن تحركها أي مصلحة، وإنما فقط لأن الوضع يستلزم ذلك

الشرط الثاني مستنبط من التمييز بين الانتقام الخاص والحرب العامة. فالحرب هي من صلاحية سلطة سيادية، إنه شرط ضروري، علماً أنه رسمي: الحرب تكون عادلة عندما تقررها وتشنها دولة أو سلطة عامة أو أمير.

ثالثاً، إن الظلم الذي يتم التعرض له هو وحده الذي يمكن أن يبرر شن الحرب. الظلم الأول هو، بالطبع، أن يجد المرء نفسه مهاجَماً، ومهاجماً فيما يكون المرء بريئاً تماماً في حقه الكامل. وهذا إجهاض صارخ للعدالة. إن الدفاع عن النفس وسلامة المرء هو دافع للحرب لا جدال فيه على الإطلاق.

يتم صد القوة بالقوة. كل حرب مشروعة في حد ذاتها بمجرد أن تكون رد فعل على عدوان أولي

 

هذا الاختلال، هذا التباين بين بلد معتدي وبلد معتدى عليه قد أسس أيضاً إلتصاق الدول الأوروبية بقضايا مثل القضية الأوكرانية [أوإسرائيل التي دائماً ما اعتبرت في جهة المعتدى عليها] وجعل من الممكن وضع الحرب الجائرة قي الضد من الحرب المشروعة. الحرب الدفاعية هي دائماً عادلة بطبيعتها. ‎.‎‏ يتم صدّ القوة بالقوة. كل حرب مشروعة في حد ذاتها بمجرد أن تكون رد فعل ‏على عدوان أساسي‎.‎

‎وفي أحدث مثل على ذلك تجدر الإشارة هنا إلى أن الجهد الأول الذي بذله فلاديمير بوتين كان ‏الإعلان عن العدوان الروسي كرد على سلسلة من الاستفزازات السابقة: خرق حلف ‏شمال الأطلسي لاتفاق ضمني بعدم التوسع إلى الشرق؛ وخرق حلف شمال الأطلسي ‏الإبادة الجماعية الثقافية التي ارتكبت ضد الروس في الدونباس؛ ووجود الجماعات ‏النازية في الحكم، إلخ. الحرب ، حتى الأكثر سخرية، مزدانة دائماً بأسباب دفاعية‎.‎

[وتجدر الإشارة هنا أيضاً ‏إلى ما تذرعت به إسرائيل من أكاذيب لتبرير إعتداءاتها الوحشية على المدنيين من أطفال ونساء قصفاً مكثفاً بالطيران لأهداف مدنية صرف على مدى شهر تقريباً منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر.]

وحول عمليات الإغارة السريعة خارج الحدود: النهب والحرق، وبعد مستوى رد الفعل، هناك سجل ثان لـ حرب "القضية العادلة": جبر الظلم الذي تعرض تعرض له المرء، ولكن بخلاف العدوان المباشر. على سبيل المثال، يمكن لقوة خارجية تنفيذ هجمات مدمرة من حين لآخر أو تجيز لنفسها أن تقرر إعدام عدد معين من رعايا دولة مجاورة. هناك في التاريخ الطويل للبشرية وحروبها، ألف مثال آخر على "الظلم" اعتبر كفرص ورافعات وأحياناً ذرائع لشن الحرب.

في العقيدة، تستمد "الحرب التعويضية عن الظلم" هذه نقاطاً مرجعية من القانون المدني (التعويض عن الخطأ) والقانون الجنائي (معاقبة الخطأ). كلما كانت الحرب العادلة أكثر دموية ومعاناة (يفكر المرء في "الأضرار الجانبية" الأبدية)، كلما كانت تميل إلى استعارة المصطلحات الثقيلة للعقاب: ستعاقَب "الدول المارقة"، ويضرب "الطغاة القتلة" ، ويصاب "الطغاة الجلادين"، ويهزم "الأمراء المجرمين"، إلخ. يبدو الأمر كما لو أن المصاعب التي يتحملها الجميع تهون وتكون محتملة ومقبولة عندما يتعلق الأمر بمحاربة ممثلي الشر. من الناحية المثالية، فإن الحرب العادلة هي بين رجل خيّر ورجل شرير، بين منتصر للعدالة ومجرم. وهي تقوم على عدم تناسق أخلاقي بين المتحاربين.

ومع ذلك، فإن عقائد الحرب العادلة تضيف إلى هذا العرض عنصراً، على الرغم من دقته، إلّا أنه لا يقل أهمية: ما يسمى بمعيار "النيّة المستقيمة" إنها بالضبط مسألة تمييز بين "سبب الحرب" ومجرد الذريعة. ليست الحرب حرباً عادلة إذا كان الضرر الذي عاناه الأمير سوى مجرد فرصة خالصة، لإشعال صراع سيمكنه، من دون حتى الخوف من دفع الخصم إلى ارتكاب خطأ، من تحقيق مصالحه الخاصة، بما يتجاوز بكثير ما عاناه هو‏. ويجب أن يكون في الإعتبار الأول النظر في الظلم وحده.

   هذا هو جوهر العقيدة المسيحية للحرب العادلة [كما فهم في الغرب ووقف وراء التشريعات المتعلقة بالحروب والعلاقات الدولية.] على مر القرون، كان لها ‏ أقله امتدادان، يتبعان اتجاهين متعاكسين: التوسيع والتقييد.

في العدالة الجنائية، تغلب الاعتبارات الأعلى من اعتبارات الكفّارة الخالصة كمعنى للعقوبة. من المؤكد أن العقوبة تستخدم لجعل الجاني يدفع ثمن جريمته، ولكن أيضاً لضمان السلامة العامة ومنع الجرائم في المستقبل. وبالطريقة نفسها، تسعى الدولة، من خلال الحرب، إلى شيء آخر غير مجرد التعافي: اسرداد أمنها في المستقبل .فرانسيسكو دي فيتوريا، على سبيل المثال، أحد اللاهوتيين البارزين من أصحاب النظريات في الحرب العادلة، يقترح أنه يمكن السعي من خلال الحرب إلى أكثر من مجرد تعويض: "قد يذهب الأمير إلى أبعد، أي إلى الحد الذي يكون فيه من الضروري الحصول على السلام والأمن من الأعداء".

من الواضح هنا أن نظام التبرير مهتز بعض الشيء وأن الحساب غير مؤكد لأنه يجري تصور أخطاء مستقبلية، والتي هي بحكم تعريفها مشروطة. هذا التقدير للأمن في المستقبل، وضمان شروط السلام الطويل، سيقود المتحاربين إلى تجاوز منطق التعويض الصارم عن الضرر: سيتم الاستيلاء على الأرض من أجل تعزيز حدودها، وسوف يبقى البلد العدو نازفاً من أجل ضمان ضعفه، وما إلى ذلك. يتفهم المرء الخطر: هذا السعي من أجل الأمن يمكن أن يأخذ استقلاليته، ويصبح غايته الخاصة ولا يبالي بعد الآن بمبررات من قبيل الأضرار التي عاناها بالفعل. في هذا المنطق، يمكننا حتى استباق وقوع آلام: إما الأخذ بمفهوم الحرب "الوقائية" (الذي طرحه الأميركيون لتبرير غزو العراق في عام 2003 وكذلك الصهاينة في خلفيات حروبهم ضد البلدان العربية التي عانت من حروبهم)، والذي يفترض أن يستجيب للتهديدات التي يتم معاينتها على نحو صحيح - والتي قد تكون مبالغاً فيها أو حتى خيالية، مثل وجود أسلحة الدمار الشامل في حالة العراق.

الحرب، إذن، هي طريقة للرد، ولكن تحسباً، لعدوان يعتبر وشيكاً ومؤكداً تماماً. ومع ذلك ، فإن تصور هذا "الوشيك" ليس  سوى تقديرذاتي للغاية.

وبمعنى التقييد، هذه المرة، سيضيف بعض اللاهوتيين شروطاً تشبه في النهاية محاولة لتثبيط أي ميل للذهاب إلى الحرب. بادئ ذي بدء، حساب التناسب: يجب ألّا يكون الضرر الناجم عن "تعويض" الضرر أكبر من الضرر نفسه. وبغض النظر عن حجم الضرر الذي يمكن تكبده، لا ينبغي أن يكون التعويض مكلفاً بشكل غير متناسب - من حيث الوفيات والإصابات والدمار الذي يلحق بالنفس أو بالآخرين. لا بدّ إذن أن يتناسب الرد على الاعتداء مع حجم ما قد يكون المرء قد اختبره من حيث الخسائر، خشية أن يجعل المرء حربه غير عادلة، حتى لو كان الدافع الأولي خيّراً. هناك معايير أخرى، مثل معيار المسعى الأخير: استنفاد جميع الخيارات الأخرى قبل اتخاذ قرار الذهاب إلى الحرب. أخيراً، يضيف بعض اللاهوتيين يقين النصر. حتى لو عانت دولة ما ضرراً، فلا يمكنها الانتقام إلّا إذا كانت متأكدة تماماً من أنها يمكن أن تفوز بالنصر - حتى لا تخاطر بالتسبب في مصائب لا داعي لها [ولكن كيف يمكن التأكد من ذلك؟]. نقطة حاسمة أخيرة مطروحة في النقاش هي ما إذا كان بإمكان الدولة معاقبة ما يرتكب من مظالم في أماكن أخرى، والتي لا تعانيها بشكل مباشر: على سبيل المثال، لإنقاذ شعب رازح تحت نير الاستبداد، وسكان مضطهدين والاستيلاء، كما على "سلطة العالم" لإعلان الحرب على دولة مذنبة بارتكاب انتهاكات ضد الآخرين غير نفسها.

إن عقيدة "الحرب العادلة" برمتها، التي بناها اللاهوتيون المسيحيون على مدى قرون، سيتناولها القانون الدولي الحديث في العديد من أفكارها الأساسية (الحاجة إلى "قضية عادلة"، ومبدأ التناسب، وما إلى ذلك). ومع ذلك، فإنه يوفر القليل من المعلومات حول ما يجب القيام به أثناء القتال (ما يسمى بقانون الحرب وقواعد الإشتباك)، وهاجسه هو دوافع دخول الحرب لذلك يجب ذكر صرح نظري ثان، خُصص هذه المرة للقيود التي يفرضها المتحاربون على أنفسهم في استخدام قواتهم المسلحة ضد الأعداء بمجرد اندلاع الأعمال العدائية ونشر الجيوش في ساحة المعركة.

.

أن تتم الدعوة إلى القتل، لا بأس، ولكن ليس أي شخص، وليس في أي وقت، كما وليس بأي طريقة. هذا التقدير والتدوين لقواعد الحق في القتل في الحرب تم تطويره قبل كل شيء في القرنين الماضيين، حتى تم تكريسه في اتفاقيات جنيف، التي اعترفت بها العديد من البلدان. وقد وضعت الدول فيها عدداً معيناً من المحظورات الأساسية: احترام السكان المدنيين، والمقاتلين الأعداء بمجرد نزع سلاحهم، وأسرى الحرب، والموظفين الدبلوماسيين؛ واحترام حقوق الإنسان. واحترام أيضاً للهدنات المتفق عليها على الصعيد المتعدد الأطراف. وهناك أيضاً قاعدتان أخريان على جانبي الحرب قبلها وبعدها: الحاجة إلى إعلان الحرب مع إنذار نهائي [في البداية]؛ توقيع معاهدة سلام مع بند يتعلق بالعفو [في النهاية]..

يتوافق بناء هذه العقيدة الجديدة مع خريطة جديدة للعالم. والمشار إليه هنا هو "منعطف ويستفالياً" للعالم الغربي. كان الفضاء السياسي القديم، ما قبل الحديث، بينما كان لا يزال مسكوناً بالحنين إلى إمبراطورية خيالية، إنما في الواقع مجزأة إلى مجموعة متشابكة من الإمارات ذات العلاقات الأسرية المعقدة، والإمبراطوريات المجزأة، والاتحادات المعقدة. ويميل هذا الحيّز المشوش إلى التواري لمصلحة تجاور أكثر سلاسة بين الدول ذات السيادة التي تمارس ولايتها القضائية على إقليم محدد.

افترضت عقيدة حروب "القضية العادلة" و"القضية العادلة" ‏مسبقاً إضفاء الطابع الشخصي على السلطة: فقد طرح على الفرد (الأمير) مسألة أخلاقية دوافعة، وصفاء "نيته" ولكن بمجرد أن نتحدث عن "الدول"، فإننا نعني الكيانات المجردة التي يتم الاعتراف بسيادتها، وبالتالي أساس المساواة التامة. ومهما كان حجم الدولة أو دينها أو ثروتها الطبيعية أو عدد سكانها، فإن كانت صاحبة سيادة فهي رسمياً "مساوية" لأي دولة أخرى.

إن ما يترتب لهذه السيادة استناداً إلى الحق الأولي (الاعتراف بالمساواة من قبل الدول الأخرى) يجب أن يعني التخلي عن الخلفيات الأخلاقية أو النفسية التي وجهت النظريات الأولى للحرب العادلة (هل هي خير، هل هي شر؟ ما هي النيّة الحقيقية؟).

   أولاً، تصبح الحرب والعدوان ‏على طرف آخر، في الواقع، ‏من صلاحيات الدولة. ليس عليها أن تبرر نفسها: هذا حقها. بإعلانها الحرب، فإنها تمارسها فقط. فأمام أي محكمة يجب أن تكون مسؤولة، طالما أنها تتمتع بالسايّدة؟ ومع ذلك سيستمر وضع نظام يحكم الحروب العادلة (الشرعية)، ولكن بمعنى رسمي جديد تماماً يراعي القواعد الشكلية، كما في تعبير "الزواج العادل/الشرعي" الذي يعني: زواج متفق توافقاً تاماً مع القواعد والطقوس، والذي يترتب عليه آثار قانونية – وبنفس المعنى نتحدث عن "وصية عادلة/شرعية"

ليس هذا وحسب، ستكون الحرب عادلة/شرعية إذا تم الالتزام بعدد معين من البروتوكولات الدقيقة (إعلان مسبق، احترام الأشكال الدبلوماسية، إلخ)، من دون أي ذكر "لأسبابها" أو دوافع أخرى. ثم تصبح "رسمية وعلنية". وما سينشأ عن ذلك من الناحية القانونية هو الاعتراف الكامل بالإنجازات المستقبلية للحرب بمجرد أن يتم كل شيء وَفقاً للقواعد.

هذا الاحترام الخارجي أمكن تقاسمه بسهولة، وصنع مجتمعاً قوامه الدول الكبرى والمتحضرة. تسمح هذه التبادلية حتى بصوغ مفهوم في ‏العقيدة قد يبدو شاذاً للوهلة الأولى: الحرب "عادلة/شرعية على كلا الجانبين‎". يمكن أن تكون عادلة/شرعية على كلا الجانبين بحيث أن كل من الطرفين المتحاربين شديد الحساسية ودقيق في مراعاة مبادئ معينة، كما يمكن أن يقال عن شريكين مخلصين تماماً. هنا مرة أخرى، يمكننا أن نرى بوضوح أننا نتعامل مع معنى [خارج النطاق] الأخلاقي للعدالة/الشرعية: [ينحصر] باحترام عدد معين من القواعد [لا غير].

ثانياً، إذا كانت كل دولة صاحبة سيادة معلنة، تصبح الدول متساوية تماماً أمام القانون، بغض النظر عن اختلافاتها الحقيقية. ومع ذلك، فإن الفكرة المسيحية عن الحرب "صاحبة القضية العادلة" يشوبها عدم مساواة (أخلاقية) بين المتحاربين: الخير والشر، نصير العدالة والمجرم، إلخ. سرعان ما ظهرت هذا التباين الصارخ، كإهانة لفكرة سيادة الدولة ذاتها.

إن فكرة الحرب "العادلة على كلا الجانبين" (المعروفة أيضا باسم الحرب "الرسمية" أي المستوفية للشروط شكلاً) مغرية وصادمة في آن. يمكن للمرء أن يستنكر فكرة أن تشن الدولة حرباً تقول إنها "عادلة/شرعية" لمجرد أنها تحترم بروتوكولات معينة، ومن دون الحاجة إلى الإعلان عن دوافعها - على الرغم من أن هذا القرار سيؤدي إلى الكثير من المعاناة والضحايا. هذا المفهوم غير المحكوم بالاعتبار الأخلاقي، والذي كان من المفترض أن يحمي مبدأ سيادة الدولة، يمكن أن يبقى مقبولاً طالما أن تقنيات التدمير (الأسلحة بعيدة المدى، الصواريخ، النيران النووية، إلخ) لم تصل إلى تلك المرحلة التي تحول الحروب إلى مذابح فظيعة، تقتـل الجنود والمدنيين من دون تمييز، حتى لو كان لا بد من الاعتراف بأن المعارك القديمة يمكن أن تحدث، من حين لآخر، مصحوبة بالغارات والنهب وما إلى ذلك. لقد تغيرت الحساسية تجاه الحرب تحولاً عميقاً بفعل حربين عالميتين متتاليتين ملأتا الشعوب بالرعب والفظائع في تاريخها. لقد أصبحت مرادفاً للبربرية التي لا تطاق. لقد انطوت على الكثير من العنف العشوائي والرهيب حتى لا يصل بنا الأمر عدم التشكيك في شرعيتها. تم إنشاء المنظمات الدولية الكبرى بعد الحرب (عصبة الأمم ، ثم الأمم المتحدة) على وجه التحديد بهدف معلن هو "منع" حروب جديدة ، وبناء آليات يمكن أن تجبر الدول على تسوية خلافاتها بوطريقة بعيدة من الصراع، ولم تعد تجعل الحرب امتيازاً لا جدال فيه.[أين هي الآن هذه المنظمات والهيئات الدولية من مجموعة الحروب شنت قبل الآن وتلك التي تشن اليوم في أنحاء مختلفة من العالم - أوروبا الوسطى وآسيا الوسطى وأفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية - متفلتة من كل الضوابط المعلنة والمعتمدة في الأنظمة والمواثيق المقرة من الدول الأعضاء في تلك المنظمات والهيئات الدولية]

ولكن ألا يمكن الدفاع عن الحرب "العادلة /الشرعية على كلا الجانبين" على وجه التحديد مع مراعاة الأخذ في الاعتبار ما يمكن أن توفره من حصر لرقعة أضرارها؟ لأن احترام عدد معين من القواعد في وقت القتال (تجنيب السكان المدنيين، ومنع قتل عدو أعزل، وحسن معاملة السجناء، واحترام الهدن) يؤدي تلقائياً إلى تقليل المعاناة والوفيات‎. بل يمكن للمرء أن يذهب إلى أبعد من ذلك ويجد أن الحرب "الرسمية والعلنية"، المنفلتة من إعتبارات النطاق الأخلاقي في الصراع والمكتفية بفرض احترام قواعد القتال، هي أكثر إنسانية وأقل فتكاً من حرب "القضية العادلة" التي تشن من قبل هذا الطرف أوذاك أو من الطرفين. في الواقع، فإن الإفراط في إضفاء الطابع الأخلاقي على الصراعات، والتجريم الجذري للعدو، يمكن في الواقع أن يجعل الحروب أكثر عدوانية، وأكثر فتكاً، وأكثر "شمولية". منذ اللحظة التي ينشأ فيها تضاد أخلاقي بين معسكر الخير ومعسكر الشر، وبين قوى الأبرار وقوات الظالمين، تنتفي إمكانية أن يكون للسلام إلّا شروط الاستسلام الكامل للعدو وتدميره تدميراً كاملاً. تُدخل الأخلاق بعداً مطلقاً يمكن أن يؤدي، في ساحة المعركة، إلى زيادة الوحشية والسعي إلى الإبادة. [وهذا ما نشهده اليوم في ميدان المعركة الدائرة بين قوى المقاومة الفلسطينية والعدو الصهيوني الذي يمعن في تحويل المجابهة العسكرية ضد المقاومة إلى حرب إبادة يستهدف فيها المدنيين من أبناء غزة، أطفالاً ونساء ومسنين ومستشفيات ومراكز إيواء وضرب حصار على السكان وقطع إمدادهم بسبل الحياة والحماية من عملية القتل المتعمدة ارتكاتب جرائم ومجازر تعد جرائم حرب] في الماضي، كان القتال يدور ويستمر بين الناس حتى يرفع العدو علامات الاستسلام (الراية البيضاء، وما إلى ذلك)، مما كان له تأثير فوري لوقف الأعمال العدائية - كانت هذه هي قاعدة الاشتباك..

إذا كان المرء في مواجهة مع الطرف الممثل للشر المطلق، فسيكون متوجباً عليه متابعة القتال حتى سحقه التام وإبادته، وعدم إعطائه أي فرصة للنجاة. أما في حالة "الحرب العادلة/الشرعية بالنسبة لكلا الطرفين فعلى العكس من ذلك سيتم إعلان الخصم عدواً عادلاً [وهذا ما لم يحصل بين العدو الصهيوني والمقاومة وأي قوة مقاومة عربية أخرى]. لذلك لن تكون العلاقة بين الطرفين قائمة على أسس أخلاقية مطلقة، بل قانونية صرف. سيعتبر الطرفان بعضهما مساويان لبعض بمعنى أن إعلان الحرب سيجيز القتال [والقتل المتبادل وفقاً لكيفيات معيّنة منصوصاً عليها ضمن مواثيق تحظى بقبول المتنازعين].هذا هو السبب في أن الحرب "الرسمية" يمكن أن تحفز على احترام معين بين الأعداء - ولا تعني، أقلّه، أي كراهية. أن تكون في حالة حرب يعني الدخول مؤقتاً في نظام قانون آخر حيث سيتم تعريف العدو على أنه العدو الذي يمكنني قتله، وفقاً للقواعد، في ساحة المعركة.

من ناحية أخرى، من الواضح أن حرب "القضية العادلة"، من خلال تصدي الأبرار للظالمين، تنتفي وتَبطل معها هذه المساواة. ومن هنا جاء تحذير الفيلسوف الألماني كانط: "لا يمكن لأي حرب بين الدول المستقلة أن تكون حرباً عقابية بل ليس هناك عقاب إلّا في العلاقة بين الرئيس والمرؤوس، وهي علاقة لا وجود لها بين الدول". ولم يعد من الممكن بالتالي السعي إلى السلام كتتويج للجدلية بين المناورات العسكرية والمحادثات الدبلوماسية، لأن كل انتصار على أرض الواقع لا يعدو كونه يمثل أكثر من إمكانية الاستفادة منه في لحظة المفاوضات النهائية. هل نتفاوض مع الشيطان؟ هل نساوم مع الشر؟ حتى في المعارك نفسها، فإن شيطنة العدو تقوض قانون الحرب (الحق في القتال). أليست مسؤوليتي العميقة أن أكون مستعداً لاستخدام جميع الوسائل، من أفظع الأسلحة إلى أكثر الحيل غدراً للانتصار على الشر؟

[ففي ضوء ذلك وانطلاقاً من العقيدة السياسية والعسكرية الصهيونية نفهم أن منهجهم في القتال ضد أي قوة  أو دولة مقاومة لسلطتهم واحتلالهم لا يمكن أن يكون إلّا حرب إبادة وليس للوصول إلى تفاوض ومساومة].

تقتضي حرب "القضية العادلة" أن يستبعد دخول دولة ذات سيادة في الحرب من جانبها أي بحث خبيث عن المصلحة الذاتية أو أي بحث لا طائل منه عن المجد.

إن الحرب من خلال جعلها تبدو كصراع الخير ضد الشر، بإدخال عدم تناسق أخلاقي إليها، يمكن، مع ذلك، أن تأذن ضمناً بإطلاق العنان لعنف غير محدود ضد ممثلي الهمجية، مطالبين بإبادتهم المطلقة [هذا ما تفعله إسرائيل في مواجهتها الراهنة مع غرة التي افتت إسرائيل الصهاينة الإسرائيليين على أنها ممثلة للهمجية] أما "الحرب العادلة بالنسبة إلى كلا الدولتين" من جهتها فإنها تعطي كل طرف امتيازاً مطلقاً، ولا تكون الدولة فيه مسؤولة أمام أحد عن قرارها العدواني وتجد نفسها في حلّ فاضح من حيث المبدأ بشأن هذه النقطة، على الرغم من أنها تقرر الاستيلاء بالعنف على أراضي هذا الجار أو ذاك. [هذا ما أثبت في إطار الحروب بين دولة إسرائيل والدول العربية المعتدى عليها في حروب (مصر سوريا الأردن لبنان)] ومن ناحية أخرى، وبمجرد إعلان الحرب، يقع كل طرف في وضع قانوني يلزمه ويمكن أن يجعله قابلاً لأن يحدّ من المعاناة بفرض تطبيق "قانون حرب". وأخيراً، تتيح معاهدة السلام العودة إلى "الحياة الطبيعية" التي سادت قبل الحرب من خلال تصفية العداوات.و[ولنا في معاهدات السلام التي عقدت بين إسرائيل والأردن ومصر مثال على ذلك على مستوى دول بعضعها مع بعض]

في ما سبق رسمنا منحيين للنعنى، غير القابلتين للاختزال، كل منهما يكتنف معنى محدداً للعدالة: إما قيمة أخلاقية مطلقة، أو شرعية خارجية يجب احترامها. كل من النموذجين له أهميته ووحشيته. ويعلق النموذج القانوني نفاقاً كل حكم أخلاقي ويمتنع عن التمييز بين معتدين ومعتدى عليهم، ولكنه يضع حدوداً مسبقة في استخدام العنف يعترف بها الطرفان المتحاربان بداهةً؛ من المؤكد أن النموذج الأخلاقي أكثر راحة للضمير، لكن يبدو أنه يبرر مسبقاً التطرف في القتال من قبل الطرفين.

ومن الواضح أن المثل الأعلى، الذي يسعى إليه القانون الدولي للحرب، هو اقتران النموذجين (قانون مسوغات الحرب وقانون الحرب): حروب تشن "لأسباب عادلة" ولكنها تفرض قيوداً على نفسها وقت القتال. [وهذا ما لم يثبت على أرض الواقع حتى الآن في مختلف الحروب وبقي الأمر من مرتبة المثال المنشود بغياب الأداة الناجعة في فرضه – وذلك مثبت في مثال عجز الأمم المتحدة ومجلس الأمن في ممارسة هذا الدور اتتلمنتشود]

أخيراً ، يمكننا أن نذكر شكلاً ثالثاً من أشكال الحرب "العادلة"، أكثر غموضاً، شكلاً، عفا عليه الزمن: الحرب التأسيسية للقانون، [أي تلك التي تقرر العدالة من خلال إعلان أنتصارالذي يبادر إلى شنها]. قد يبدو هذا النموذج مثيراً للاسغراب، لأن الحرب بالنسبة للمرء محكومة بإطلاق العنان للعنف، وفوضى القوى، وأن القانون، هذا القيد الخارجي، وحده هو الملقى على عاتقه أن يحظرها أو أن يحد من شنها أقله. إن الفكرة القائلة يأن الحرب تملي الحق لهي فكرة قديمة، وقد تكون واحدة من أقدم الأفكار التي حدست بها البشرية. إنها مبنية على كل من الأسطورة القائلة بـ (الاستيلاء الأصلي على الأرض) والاستعارة القائلة بـ (الكلام الفصل للمعركة).

تفيدنا ‏ الأسطورة عن أصل الدولة. نحن نعرف الصيغة الفلسفية والمجردة عنها: العقد الاجتماعي. وضع هوبز ولوك وروسو نظرية وصاغوا وحللوا فكرة هذا الميثاق الأساسي الذي يؤسس الإنسان بموجبه، بقرار إجماعي، سلطة سيادية. لكن تحت هذه البنى الفكرية توجد رواية قديمة، تحيل إلى أي تأسيس لدولة بالاستناد إلى أول ضرب قوة، أي الانتصار بالدمالذي  يضع الحدود ويسمح بالهيمنة على شعب بأكمله:

"الحرب كانت في أساس قيام الدول: الحق (القانون) والسلام.

ولدت القوانين  في الدماء وطين المعارك [...]. القانون يولد من معارك حقيقية، من انتصارات، من مذابح، من فتوحات لها تاريخها وأبطالها من المرعبين. القانون يولد من دمار المدن، من الأراضي المحروقة. يولد مع الأبرياء الذين يموتون عند الشروق".

القانون العام، إذن، هو دائماً ما تحقق ضد شعب آخر، وهو حق مكتسب بالدم ومفروض. بينما يذهب الفلاسفة إلى ضع تصور للأساس العقلاني للدول على خلفية من الإجماع التوافقي، فإن الروايات الأسطورية العظيمة تعيد اكتشاف الفصول المدفونة والغامضة، تلك التي تروي العنف العظيم الذي عليه قامت الدول. يروون كيف أن النصر الدموي، دائماً، هو الذي حقق العدالة، "العدالة" التي لم يكن لها وظيفة أخرى سوى ضمان هيمنة شعب على آخر.

وإذا كانت هذه التمثيلات مرعبة جداً للفلسفة، فذلك لأنها تفترض مسبقاً تكاملاً وثيقاً  بين القانون والعنف، بين العدالة والقوة، وهو تكامل كان للقلاسة دائماً شرف تفكيكه. روسو، على سبيل المثال، في فصل من عقده الاجتماعي، سجل سخافة عبارة: "حق الأقوى". يستشعر المرء على الفور كم قد يبدو من الفاضح اعتبار أن الطرف الأكثر وحشية أو الأغنى يتذرع بـ "الحق" في تحديد وفرض إملاءاته بالعنف. ولكن تظل الحقيقة، مهما كانت هذه التحفظات النظرية، أن الحرب أخذت على عاتقها، لفترة طويلة جداً، إحقاق الحق من خلال صدام السلاح.

بقد أظهر أحد مؤرخي العصر الوسيط الأوروبي، الفرسي جورج دوبي، أن ما أطلقت عليه "المعركة الكبرى" (أم المعارك) لا يمكن اختزاله في تلك المناوشات الدقيقة التي تتخلل العلاقات المضطربة بين المقاطعات المتنافسة. "المعركة" هي شيء آخر غير المنازعات غير الحاسمة والمتكررة والموضعية. تقوم هذه المعركة على مبدأ التركيز مبدأ التحشيد، وتجميد مجموعة كاملة من الصراعات الصغيرة المتناثرة وتصفية الحسابات، والحملات العقابية غير الحاسمة. إنها عكس ذلك كله. إنها مسألة قتال حاسم ونهائي من خلال حشد كل القوى، من أجل الحصول بقوة السلاح على قرار حاسم يؤدي إلى حالات لاعودة عنها.

 

إن هذا القرار بقوة السلاح الذي يشكل الأساس الذي يقوم عليه الحق المفروض على المسيطر عليه، يُعلن في النهاية أنه قرار يعتمد على الإرادة الإلهية، ويبقى تنفيذه معلقاً ومتوقفاً على التفضيل الإلهي. والفوز في الحرب يأتي نتيجة تفضيل إلهي يكرس العدالة التي تفصل بين منتصر ومهزوم فصلاً واضحاً مثل الفصل بين الليل والنهار، وبين الشر والخير، الأسود والأبيض. إن الموافقة على حشد القوات لهذه اللحظة المهيبة والفريدة (المعركة الكبرى) تشكل بالتحديد واقع القسمة الزمنية التي ترسم الخط الفاصل بين ما قبل وما بعد.

‎الحرب هي تماماً كمحكمة. هل هي المحاكمة التي تحاكي المعركة أم المعركة التي تبدو وكأنها محاكمة؟ كل حلقة في السلسلة يغذي الأخرى بصورها الخاصة: التركيز (التحشيد والتجميع)، القرار، المشاركة الثنائية، اللارجعة ... ففي هذا يمكن أن تكون الحرب عادلة/شرعية، بالمعنى القديم والوحشي، هذا الحشو الوحشي: النصر عادل لأنه ببساطة هو منتصر.

إن الله بصفته القاضي الأعلى هو الذي يمني الانتصار على المنتصر ويشير إلى الجانب الذي يكمن فيه العدل والصلاح. والويل للمهزومين.