بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 آب 2023 12:01ص عودة إلى مفهوم السيادة في النظام الدولي المتعدّد الأقطاب

حجم الخط
كانت إتفاقيات «وستفاليا» في العام 1648 قد أنهت حرب الثلاثين سنة الدامية بين الدول الكاثوليكية والدول البروتستانتية، ووصفت بأنها الميثاق الدستوري لأوروبا، وكان من نتائجها إنهاء سلطات البابا والإمبراطور، وإضفاء الشرعية على ولادة الدول ذات السيادة، والإعتراف بالمساواة فيما بينها. وفي سنة 1815 انعقد مؤتمر «فيينا» لتنظيم شؤون القارة الأوروبية وإعادة التوازن الدولي بعد هزيمة نابوليون، ونتج عن هذا المؤتمر إقرار بعض القواعد الدولية الجديدة والمتعلقة بحرية الملاحة في الأنهار الدولية، والمبعوثين الدبلوماسيين، وتحريم الإتجار بالرقيق. وانعقد مؤتمر السلام في «لاهاي» في العامين 1899 و1907، وكان للمؤتمر الأول الطابع الأوروبي، فيما غلب الطابع العالمي على المؤتمر الثاني لوجود غالبية الدول من القارة الأميركية. وتضمن هذين المؤتمرين قواعد فض المنازعات بالطرق السلمية، وإقرار قواعد خاصة بقانون الحرب البرية والبحرية، وقواعد الحياد. وامتدت الجهود إلى إنشاء أول هيئة قضائية دولية هي «محكمة التحكيم الدولي الدائمة في لاهاي».
وفي العصر الحديث تمّ إنشاء المنظمات العالمية: عصبة الأمم التي أنشئت سنة 1920. وهيئة الأمم المتحدة التي نشأت في سنة 1945، وترتبط بها المنظمات أو الوكالات المتخصصة، مثل: منظمة العمل الدولية، ومنظمة الصحة العالمية. كما تم إنشاء المنظمات الدولية الإقليمية التي تضم دولاً من منطقة جغرافية معينة، ومثالها: جامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي. ولم يدم الاستقرار طويلاً في النظام الدولي المتعدد الأقطاب في عهد عصبة الأمم التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتسبب فشل العصبة في الحفاظ على التوازن بالدخول في الحرب العالمية الثانية التي أفرزت النظام الدولي العالمي الثنائي القطبية بإشراف هيئة الأمم المتحدة. وبتفكك «الإتحاد السوفياتي» ونهاية الحرب الباردة في أواخر الثمانينات، شهد النظام الدولي العالمي تحوّلاً باتجاه الآحادية القطبية الأميركية، وظهر على المسرح الجغرافي، مفهوم جديد للجيوبوليتيك وهو «الحدود الشفافة» التي يقصد بها الهيمنة الأميركية الإقتصادية والعسكرية دون خرائطية للدولة. أو ما يسميه تايلور - أحد أشهر باحثي الجغرافيا - بـ «جغرافية السيطرة من دون إمبراطورية».
وفي زمن الحرب الأوكرانية التي اندلعت إبّان الغزو الروسي لأراضي أوكرانيا في 24 شباط 2022، كانت هناك مؤشرات قوية تدلّ على متغيّرات كبيرة في النظام الدولي العالمي الذي بدأت تتراجع فيه السيطرة والهيمنة الآحادية للولايات المتحدة الأميركية في مقابل صعود القوتين الشرقيتين روسيا والصين عل كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وإعلان «شراكة فوق استراتيحية بلا حدود» بين موسكو وبكين، واتفاق الدولتين على مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وبناء نظام دولي جديد متعدد الأقطاب على أساس رؤيتهما الخاصة لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد فشلت سياسة العقوبات الأميركية والغربية في عزل روسيا، حيث نجحت موسكو في فتح مسارات بديلة وتعزيز قدراتها الاقتصادية في مواجهة العقوبات المفروضة عليها، واستخدام سلاح «الروبل» والغاز الروسي لتضييق الخناق على دول أوروبا المأزومة بتبعيتها لسياسة واشنطن. كما أصبحت «منظمة شنغهاي للتعاون» التي تقودها «موسكو» و«بكين» منافساً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لمجموعة الدول الصناعية الكبرى، ولحلف شمالي الأطلسي.
وفيما تدخل الحرب الأوكرانية في منتصف عامها الثاني الشهر القادم، لا يظهر من مجريات الأحداث والمعارك الدائرة بين موسكو وكييف ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو اقتراب أفق الحل والتسوية أو الحسم في الميدان العسكري. بل أن الصراع العالمي والبنيوي في النظام الدولي مرشّح إلى مزيد من التأزّم والعداوة بين القوى المتصارعة حيث تستعد الصين وروسيا لإجراء مناورات مشتركة بعد أن قام الجيش الصيني بتنفيذ عمليات مشتركة لقواته حول تايوان هذا الأسبوع، وقبل تدريبات عسكرية سنوية تجريها تايوان في نهاية هذا الشهر، وتنفذ خلالها محاكاة لكسر حصار صيني. كما نقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن الجيشين الأميركي والياباني يعملان منذ أكثر من سنة على خطة للدفاع عن تايوان في حصول هجوم صيني عليها.
بين مفهوم السيادة القانوني بكونها السلطة العليا التي لا تحدّها أي سلطة داخلية أو خارجية، وبين تفاوت قدرات الدول الواقعية في ممارسة صلاحياتها واختصاصاتها الناشئة عنها، لا تختلف تدخّلات الدول الكبرى في الشؤون الداخلية للدول الصغرى والضغط عليها بكافة الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بما يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى إفراغ مفهوم السيادة من مضمونه. وما هو مختلف في ظل جلجلة تغيير النظام العالمي من الآحادية القطبية إلى تعددية الأقطاب هو كمُّ العبث بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكمُّ الضحايا من القتلى والجرحى والمشرّدين للنزاعات والحروب. في العام 2006 وصف الرئيس الروسي بوتين الولايات المتحدة الأميركية بالذئب قائلاً: «إن الرفيق الذئب يأكل ولا يستمع إلى أحد ولا نيّة لديه في الاستماع إلى أحد. كيف يختفي كل الكلام عن الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية حين يتعلق الأمر بالدفاع عن مصالحه الخاصة؟ حينها كل شيءٍ يصبح ممكناً ولا تعود هناك أي حدود».