بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 حزيران 2022 12:05ص في ذكرى "النكسة".. عن الهزيمة الحَضارية

حجم الخط

تحلُّ غداً الذكرى الـ 55 لهزيمة العرب الثانية في العصر الحديث أمام "إسرائيل" التي حلّت علينا العام 1967 التي اتخذت تسمية "هزيمة حزيران" أو تلطيفا "النكسة"، بعد 19 عاماً على هزيمتهم الأولى أمام هذا العدو العام 1948 والتي أُعطيت من حينها عنوان "النكبة".

لم تكن هاتين الهزيمتين الوحيدتين في تاريخ العرب الحديث منذ بداية القرن الماضي. التاريخ القائم على هزائم كبرى وأخرى صغرى وبعضها اتخذ ذلك العنوان بعدما تحوّل من انتصار مفترض إلى انتكاسة عسكرية سواء في وجه العدو نفسه كما في العام 1973، أو في وجه عدو خارجي كانت له سمة المستعمر أو الغازي الخارجي كما عند ثورة العرب على العثمانيين ومن ثم هزيمتهم أمام المستعمرَين الفرنسي والبريطاني وتقسيم أوطانهم إلى كيانات جغرافية لتسهيل المهمة على هؤلاء المستعمرين وعلى الكيان الإسرائيلي الوَليد.

ما زال أثر ومفعول تلك الهزائم قائما حتى الآن، لكن بنظرة صريحة مع النفس يجب الإقرار بأن الهزائم، لا سيما تلك التي نستذكرها بمرارة اليوم، كانت أولاً وليدة طبيعة العرب أنفسهم الذين ما كانت المؤامرات لتنفَذ إليهم لولا هشاشتهم الداخلية وافتقادهم الى مقومات الصمود، ناهيك عن الانتصار في وجه أعداء متقدمين عليهم حضارياً قبل أن يكون ذلك عسكرياً والأخير لم يكن سوى نتيجة للتخلف العربي في عملية البناء الداخلي والتحديث الديموقراطي بكل تجلياته.

فعندما تحمّل الزعيم العربي حينها جمال عبد الناصر لوحده وزر نكسة حزيران، وهي التسمية التي اختارها له الراحل محمد حسنين هيكل تخفيفاً للهزيمة من وقعها المعنوي على العرب وأملاً في استعادة الأنفاس للتحرير، كان بذلك يتحمل الهزيمة العسكرية المدوّية التي هزّت وجدان العرب بعد أن كانوا يمنّون النفس باستعادة فلسطين العام 1948، فإذ بهم يتكبدون خسارة كل فلسطين التاريخية وأجزاء من أوطانهم العربية في سوريا والأردن وطبعا مصر.

يتهم العرب دوماً الغرب في هزيمتهم في نظرية مؤامراتية كاملة يحمّلونها لذلك الغرب الطامع بثروتهم، لكنهم لم يقفوا يوما أمام ذاتهم ليسائلوها عن مسؤوليتها في تلك الهزائم.

وإذا كان العرب مجتمعين يتحمّلون مسؤولية الهزالة العسكرية في وجه أعدائهم، إلا أن من الضروري القول إن البنية الداخلية لكياناتهم الفاقدة للحكم الشعبي كان السبب الأول لهزائم ماضية والأمثلة الحديثة حاضرة كما في العراق مثلاً، وسيستمر لأية انتكاسات لاحقة.

وعلى رغم نقاط مضيئة لمقاومات شعبية وعسكرية حرّرت الأرض العربية في هذا التاريخ المظلم، إلا أن تحرير الإنسان لم يحصل يوماً، ولنا في لبنان، الذي من المفترض أن يشكل الحافز في الحريات للآخرين، المثال الأوضح على ذلك.

ففي هذا الكيان الذي لم يتحول إلى وطن بعد أكثر من 100 عام على إنشائه من قبل الغرب نفسه، يُخبرنا التاريخ عن فشل مجتمعي وسياسي في بلد يزهو بحداثته إلى حد التكبر على جيرانه العرب والمسلمين.

ففي هذه الديموقراطية الطوائفية الفاشلة، سرعان ما تحولت هشاشة الحريات إلى حروب طائفية صغرى وكبرى لم تتوقف حتى اللحظة، تتفجر حينا بالبارود وبالدماء، وتمتَثِل أحياناً بحروب باردة تهزّ السلم الأهلي وإن كانت لا تسقطه.

ثمة من يعتبر أن غياب الدولة ساعد أو حتى شكل العامل الأهم في انطلاق المقاومة ثم التحرير منذ العام 1982 بعد أن وصل جيش العدو إلى العاصمة بيروت، لكن السؤال بقي دوماً سواء بعد اتفاق اللبنانيين على تسوية الطائف التي وضعت حداً (مؤقتاً؟) لحروبهم الطويلة والذي تبع تحرير معظم الأراضي المحتلة العام 1985، وخاصة بعد تحرير العام 2000: إلى أين من هنا؟

لعلّ فشل الصيغة اللبنانية لا يكفي وحده للرد على سبب الكارثة الاقتصادية والاجتماعية التي يكابدها اللبنانيون وهي الأكبر منذ ما التأسيس العام 1920. ذلك أن تحرير الأرض لم يستتبعه التحرير الداخلي من منظومة حاكمة حلّت لعنة على اللبنانيين وشكلت، بالتوازي مع الطبيعة العقيمة للنظام، العامل المعوّق لأي تقدم داخلي.

وإذا كان لا بد من خلاص، فلا طريق سوى من الانتقال من دولة المحاصصة الطائفية الفاسدة إلى دولة المواطنة المدنية القادرة والقوية، وعندها لن يفيد ذلك في تقدم المجتمع اللبناني، سياسة ومجتمعاً، بل أنه أيضاً سيشكل حلاً للسجال الذي لا ينتهي بين دعاة "السيادة" حصراً في لبنان وأنصار "المقاومة" التي لا ثاني لها، وسيُفتح الباب حينها لحلّ المسألة اللبنانية بجذرية على طريق كتابة التاريخ من جديد لهذا الكيان المأزوم.

حتى ذلك الحين سيستمر لبنان وقبله العرب، في معاناة التخلّف عن اللحاق بركاب الآخرين حضارياً، وستستمر النكسات العسكرية تفصيلاً أمام الهزيمة الحَ ضارية الكبرى للمجتمعات داخلياً.