بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 حزيران 2023 12:16ص كي لا تكون الجلسةُ الانتخابيَّةُ الثانيَة عشر للمجلس النيابي عقيمة كسابقاتها

حجم الخط
بعد أن أعلن بعضُ الكُتلِ النِّيابيَّةِ، وبالتَّحديد نوابُ القوَّاتِ اللبنانيَّةِ والكتائب وقبلهم التَّيَّار الوطني الحر، وعدَدٌ من النُّوابِ الذين يصفون أنفُسَهُم بالسِّياديين أو التَّغييريين، بادر رئيسُ المَجلِسِ النِّيابي إلى دَعوَةِ المَجلِسِ إلى جَلسَةٍ انتِخابِيَّةٍ بتاريخ الرابعِ عشر من شَهرِ حزيران الحالي، منعاً للإحراجِ ولعدمِ وجودِ مُبرِّراتٍ للتَّعطيل. تأتي هذه الجلسةُ من حيثُ التَّرتيبِ الزَّمني في المرتبةِ الثانية عَشَر، وغالبُ الظَّنِّ أنها ستكونُ كسابقاتِها أقربُ إلى الاستعراضِ الفلكلورِي منه إلى الجَدِّيَّة. والخشيةُ أن يكون الغرضُ منها كالغرضِ من سابقاتها «اتِّخاذُها ستاراً لتَبريرِ تعطيلِ هذا الاستِحقاق»، وهو الأهم من بين الاستِحقاقاتِ الدُّستورِيَّة، والأكثرُ إلحاحا في ظِلِّ حالَةِ التَّفكُّكِ والتَّشرذُم التي تَشهدُها الدَّولةُ في ظِلِّ الانهِيارِ الاقتِصادي والمالي والنَّقدي.
لغاية حلولِ التاريخ المُحدَّدِ لانعقادِ الجلسةِ المنوَّه عنها سيكونُ قد مضى على خلو سدَّةِ الرِّئاسة سبعة أشهر ونصف الشَّهر من التعطيل الإرادي غير المُبرَّرِ لإنجازِ استِحقاق بديهي، والذي، لو حسُنت النَّوايا، لأنجزَ في أوانهِ خِلالَ ساعاتٍ مَعدودات، أي قبلَ الحادي والثلاثين من شهر تشرين الأول من العام الفائت، إلاَّ أن الشَّعب َ اللبناني بكلِّيَّتِه كان يعلم كما أن أعضاء المجلس النيابي «المسؤولين عن إنجازه» كانوا يعون أنَّ لا الدَّعواتُ التي وجِّهت إليهم لحضورِ جلساتِ الانتِخاب كانت صادِقةً ولا حتى حضورهم ، ولو كانت عتباتُ المجلِسِ وأبوابُهٌ تَنطُقُ لأخبرتنا أنهم كانوا يحضرون تفادياً للعتب «رجل إلى الخلف والأخرى إلى الأمام»، وأنه ما إن تُطِلُّ وجوهُهُم على القاعةِ العامَّةِ حتى يَظهَرَ قَفاهُم مُغادِرين.
قد يرى البعضُ أن التَّصرُّفَ المشكو منه هو أمرٌ عادِيٌّ مشروعٌ ودستوري، خاصَّةً وأنه في العقدِ الأخير اعتَدنا على التَّعطيلِ والمناكفة السِّياسيَّة، إلاَّ أنه سُرعان ما تتبادرُ إلى ذِهنِ أي مُراقبٍ، لديه الحَدِّ الأدنى من الحِس الوَطني، تساؤلاتٌ جوهريَّةٌ حول الأسباب الحقيقيَّةِ التي تدفعُ، بمن يسمون أنفُسَهُم بنُوابِ الأمَّة، إلى التَّهرُّبِ من مَسؤوليَّاتِهم وتَعطيلِ أهَمِّ استِحقاقٍ وطني يَتَصدَّرُ واجِباتِهِم الدُّستورِيَّة!!! هذا السُّلوك يُذكِّرُني بمثلٍ شَعبي قُروي يقول» عندما تأتي الذئابُ إلى القطيعِ تَتذَّرعُ الكِلابُ بتلبيةِ حاجَتها» (عذراً لهذا التَّشبيه الذي يرادُ به تفسيرَ السُّلوكِيَّاتِ لا تشبيه الأشخاص).
من حقِّنا كمُواطنين أن نتَساءل، ما حاجتُنا للنُّوابِ إن كانوا يتخلَّفون عن القِيامِ بواجِباتِهم؟ وإن كانوا يُخالفونَ توجُّهاتِ ناخبيهم اللذين ينوبون عنهم أو الشَّعبِ الذي يدعون تمثيله؟. على المُستوى الشَّخصي أتساءل: هل أصحابُ السَّعادةِ سعيدين بسلوكِيَّاتِهم هذه؟ ألا يرون فيها خِيانةً للوَطن؟ ألا يعتبرونها تآمُراً على الشَّعبِ وإساءةً للأمانةِ التي ائتمِنوا عليها؟ ألا تُشكِّلُ بالنِّسبةِ لهم خيانةً للوطنِ، وخرقاً للدُّستورِ الذي يُحدِّدُ واجِباتِهِم؟ ألا يَتَنَبَّهوا إلى أنَّها تُشَكِّلُ تآمُراً على الشَّعبِ الذي منحهُم ثِقَته؟ أليسَ من الأشرفِ لهم تقديمَ استقالاتِهم بدلاً من كُلِّ هذا التَّخاذُلِ المُذل؟ باعتِقادي هم يَعلمون كُلَّ ذلك. ويدفعُني فضولي، كمراقبٍ ومُحلِّل، إلى مزيدٍ من التَّساؤل: عن سِرُّ الدَّوافِعِ التي تضعُهم في هذا الموقِفِ الحرج؟ أهو انعدامُ الثِّقةِ بين بعضِهم البعض أم أحقادٌ دفينةٌ لدى كُلِّ مُكونٍ تجاه المُكوِّناتٍ الأخرى (ولستُ أستثني أحدا)؟ أو أنعدامٌ للانتماءِ الوطني أم تبعيَّةٌ للخارج؟ أو خوفٌ على المَقاعِدِ والمناصب أم دِّفاعٌ عن مصالِحَ فئويَّة؟ وغيرُها من التَّساؤلاتِ التي لم أستطِع إيجاد تبريراتٍ مُقنِعَةٍ لها. وهذا يدعوني للتَّساؤلِ أكثر فأكثر: أين أدبيَّاتُهم الوطنيَّة؟ وأين مبادؤهم الأخلاقيَّةِ؟ وأين حِسُّهم الانساني؟ وأين وازِعُهم الدِّيني؟ وهل هم فاقدون للحواسِّ الخمسِ بحيث لا يدركونَ مَدلولاتِ كل ما يرون ويسمعون ويلمسون؟ صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يفقهون.
أدَّت سلوكِيَّاتُ سياسيِّنا غير الموزونةِ إلى الإخلالِ بالتَّوازُناتِ التي كانت قائمةً، والتي كانت ترتكزُ عليها المُساكنةُ بين الأقطابِ السِّياسيين المؤثِّرين والذي كانوا وما زالوا يتحكَّمُون باللعبةِ السِّياسيَّة، إلى خلطِ الأوراقِ وفكِّ تحالفاتٍ كانت قائمة، وشبكِ تفاهُماتٍ هجينة، نتيجةَ التَّصلُّبِ في المواقِفِ، واستِضعافِ مُكوِّناتِ لمُكوِّناتٍ أخرى، ودعوَتَها للإذعانِ لعرضٍ وحيدٍ غير قابلٍ للتَّفاوضِ وليس له من بديل، وإمعانِ فريقٍ في إهمالِ هواجِسِ فريقٍ حليف، والتَّعامُلِ معه وكأنَّه ملحقٌ مضمونُ الولاء غيرُ قادِرٍ على الانفِكاك. كُلُّ ذلك أدى إلى إعادةِ تَشكيلِ الخارطةِ السِّياسِيَّة. فبعد أن كُنا أمام كتلتين وازنتين سياسيَّاً ثابتتين ولو غير متكافئتين، يفصِلُ بينهما صدعٌ عميقٌ، أضحينا في ظِلِّ المُعطياتِ المُستجدَّةِ أمام أرخبيلٍ سياسي حديثِ التَّكوين غير مُستقر، يضمُّ بِضعةٌ من الكُتلِ المتوسِّطةِ والصَّغيرةِ الحجمِ والوزن السِّياسي، تفصِلُ في ما بين جُزُره مسافاتٌ تطولُ وتقصُر، وقد تشهدُ وحداتُه مُستقبلاً حالاتٍ اندماجيَّةٍ وأخرى انشِطاريَّةٍ وفقَ اجتِماعِ المَصالِحِ ونتائجِ التَّفاهُماتِ على القُطعة.
حالةُ عدمِ الاستقرارِ التي تأتَّت عن الإخلال بالتَّوازناتِ التي كانت قائمة لعقدينِ من الزَّمن، تدعونا للأخذِ بالمثلِ القائلِ «ربَّ ضارَّةٍ نافِعة»، بحيثُ تدفعُ المُستجداتُ على السَّاحتينِ الدَّوليَّةِ والمحليَّة بالمسؤولين المؤثِّرين في الاستِحقاقِ الرئاسي إلى البحثِ جدِّيَّاً عن حلٍّ بما تيَسَّر، ولو بروحِيَّةِ المثلِ القائل «لا يموت الذِّئبُ ولا يفنى الغَنم»، إذ لا بدَّ من إنهاءِ هذا التَّناطُحِ العبثي القاتل في ما بينهم، والذي حصيلتُه مَضيعةٍ للوقت والفُرص، ومزيدٍ من الآلامِ وتكسيرِ قرون وإنهاكٍ للمُتناطِحين، وتعميقٍ للعَداواتِ وتَخريبٍ للزَّرع.
إن فهمنا لهذه الحقيقةِ المُرَّةِ يدعونا للمُناداةِ بضرورةِ الابتعادِ عن التَّعنُّتِ وإصرارِ كُلِّ فريقٍ على التَّمسُّكِ بمُرشَّحٍ غير مَقبولٍ لدى الفريقِ الآخر، ومن غيرِ الحِكمة القولُ بأن لبنان خالياً من شخصيَّةٍ وطنيَّةٍ قادرةٍ على الإمساكِ بدفَّةِ القيادةِ لإخراجِه من هذا المُستنقعِ النَّتنِ، والذي أضحى لبنان على وشكِ الغرقِ في وحولِه المُتشكِّلةِ من النِّفابات المنزليَّة الصَّلبة المرميَّة على الطرقات العامَّة، ومياه الصرف الصحي التي تصُبُّ على امتداد الشَّاطئ، والمخلفاتِ الصِّناعيَّةِ التي تُلوِّنُ مياه الأنهار والمُخلفاتُ الصُّحيَّةُ التي يعبثُ بها الباحثون عن فُتاتِ الخُبزِ والكرتون داخلَ مُستوعبات القُمامة. مُستنقعٌ يطفو على سطحِهِ عفنُ الأموال الملوثةِ بالمخدرات والفسادِ والتَّعدي على الأملاكِ العامَّةِ والاتِّجارِ غير المشروع بالأسلِحةِ والنيتراتِ وأرواحِ البشر كما بالودائعِ المصرفيَّة وغير ذلك من المُلوثات.
لقد احترنا مع طبَّاخي الرئاسة اللبنانيين، القاصرين عن إعداد طبخةٍ بوصفةٍ لبنانيَّةٍ صرفة، يرجون المُساعدةَ من طَبَّاخينَ عرب وفرس وعجم، ولكنهم يريدون طَبخةَ لدِنَةٍ لا طعمٌ لها ولا رائحة؛ وكُلٌ منهم متشبثٌ بموقِفه، يرفضُ كلَّ ما يُعرض عليه، لعلَّةِ أن (س ف) يحمل نكهةً البرازئ، وأن (ج أ) مذاقه سنيوري وأن (ج ع) مُرقَّط وأن (ز ب) قصير القامةِ وأن (م ش) طويلها، وأن (ص ح) متكتِّم وأن (ر د) غير مضمون وأن (إ ك) غير مأمون الجانب... أمَّا الحقيقةُ افُرَّةٌ لأنَّهم يضعون لكُّلِ واحِدٍ إنَّةً، ولكِنَّهم يخفونَ حقيقةَ أنهم يريدون رئيساً مِطواعاً وإلاَّ لا رئيس، وسيَّانَ لديهم طالَت فترةُ التَّعطيلِ أم قصُرت.
عذراً إن دفعتني سلوكِيَّاتُ سياسيِّنا غير المعودةِ في السِّياسياتِ الوطنيَّة إلى اعتِمادِ أسلوبِ يقومُ على استيحاء الأمثالِ من سلوكِيَّاتِ الحيوانات، من دون ابتغاءِ تقليدِ ابن المُقفَّعِ بإخراجِ الحِكمِ من الحيوانات، إنما قصدي عرضَ الحقائقِ بشفافيةٍ، فهل تصدِّقونَ أنها سُلوكِيَّاتٌ آدميَّةٌ يرتكبها سياسِيون في القرنِ الواحِد والعشرين؟ أليست أبعدُ ما تكونَ عن سُلوكِيَّاتِ بني البشر؟؟؟
وإن كانَ ثمَّةَ نصيحةٌ تُوجَّه إليهم، فلتكن «أن يتَّقوا الله في مشيبهم، وإن لم يتَّقوه في شبابِهم».