بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 تشرين الأول 2023 12:00ص كي لا يؤول طوفان الأقصى إلى ما آلت إليه حروب عربيَّة سابقة

حجم الخط
تعوّدنا كعرب في حروبنا الكبرى مع العدو الإسرائيلي أن ندّعي الانتصارات ولو اقترنت بأعداد كبيرة من النازحين والتخلّي عن أراضٍ عربيَّة، هذا عدا آلاف الشهداء والأسرى، وتدمير البنى التَّحتية، هكذا كانت نتائج حرب 1948 وكذلك نكسة 1968 وحرب 1973، كما تعوّدنا أن نسهِّل على العدو انتصاره علينا وتنكيله بشعوبنا، بإفساح المجال له بالإستفراد بنا دولة تلو الأخرى ومكونًا تلو آخر.
يعزو البعض وقوف الأنظمة العربيَّة موقف المتفرج على إبادة إسرائيل للشَّعب الفلسطيني، لشماتتهم بمنظَّمة حماس أو انتقاماً منها لكونها انضوت تحت مظلَّة إيرانيَّة، وربما نكايةً بإيران التي انتزعت منهم الورقة الفلسطينيَّة، ولكونهم يحمّلونها مسؤوليَّة ما تشهده السَّاحة العربيَّة من انقساماتٍ وتشرذم، ولزرعها بذور فتنةٍ مذهبيَّة وتقليب بعض المكونات على نُظمها بعد استمالتها لهم، واتخاذهم كأدواتٍ يعملون بإيعاز منها وخمة لمصالحها. وبغض النَّظر عن الأسباب التي دفعت العرب للوقوف موقف المُتفرج مما يحصل على ساحة غزَّة، هم يتحملون مسؤوليَّة تخليهم عن القضيَّة الفلسطينيَّة، وتنكّرهم للمبادرة العربيَّة، والتفافهم عليها بمقاربات تطبيعيَّة، ولاعتقادهم أنهم بمهادنة إسرائيل يتخلصون من التطاولات الإيرانيَّة، وسيلامون من شعوبهم على سكوتهم عن إحراق وتدمير غزَّة وإبادة أهلها وتهجيرهم.
إن تخلي العرب عن القضيَّة الفلسطينيَّة وسحبهم للمظلة العربيَّة عن المنظَّمات الفلسطينيَّة، دفع بحماس وغيرها للجوء إلى مراجع إقليمية غير عربيَّة (إيران وتركيا) طلباً لدعمٍ ماديٍّ ومعنوي، لتوقّي مخاطر الاعتداءات الإسرائيليَّة المتواصلة، وأنَّا تكن الأسباب التي دفعت بالعرب للإنكفاء عن تبنّي القضيَّة الفلسطينيَّة والزَّود عنها، يبقى القول أنه ليس من الحكمة الاقتصاص من الشَّعب الفلسطيني انتقاماً من حماس، ولا التَّخلي عن القضيَّة الفلسطينيَّة نكاية بإيران، ولا ترك الشَّعب الفلسطيني يباد مراعاة لأميركا أو إسرائيل.
الدَّولةُ العِبريَّة بشخص رئيس حكومتها نجحت في استقطاب دعم غير محدود، رغم إدراك الغرب لأحقيَّة الشَّعب الفلسطيني في العيش على أرضه بحريَّة وكرامة وأمان، وهم على اطلاع بما يلحق به من ظَّلامية على أيادي الصهاينة، وما يمارس عليه من تنكيل وتعدياتٍ تطال محرماته ومقدساته وممتلكاته ومجمل حقوقه.
في الجهة المقابلة تقف الدول العربيَّةٌ بمعظمها مشدوهة مما يحصل، ويبدو أنها فقدت زمام المبادرة. وحدها حماس كسرت حاجز الخوف، بتجرُّؤها على العدو ومبادأته بعمليَّة عسكريَّة نوعيَّة، لذا تمَّ التَّخلي عنها وتُركت تلقى مصيرها منفردةً في ساحة المعركة محاصرة سياسيًّاً وجغرافيًّا. أقل ما يقال في الموقف العربي أنه تخاذلي، خاصَّة فيما لو قارنَّا هذا بما تلقاه إسرائيل من دعم غير محدود، وتعاطف يبرِّر لها ما تقترفه من جرائم حرب وتدمير للبنى التَّحتيَّة والمباني السَّكنيَّة، وصب جام غضبها على المدنيين العُزَّل، ولوضعها الغزاويين أمام خيارين إما الغرق في البحر وإما الاحتراق بنيران أسلحتها الفتاكة، وذخائرها المحرَّمة دوليًّا.
كل المعطيات المتوفرة: من استعدادات عسكرية وحشد أرتال مدرعات على الجبهتين الجنوبية والشماليَّة واستدعاء عدد غير مسبوق من الإحتياط، وتشكيل حكومة طوارئ، وإقامة جسر جوي للإمدادات العسكرية، واستقدام أساطيل وحاملات طائرات أميركية وأوروبيَّة، وتشكيل غرف عمليات مشتركة ما بين الجيش الإسرائيلي والجيش الأميركي، وقبل ذلك تعزيز القواعِد العسكرية الأميركية والمعسكرات في المنطقة، حضور وزير الخارجيَّة الأميركي إلى المنطقة لتهيئة الأرضية لما يخطط له، ومؤخراً قصف مطاري دمشق وحلب ووضعهما خارج الخدمة... الخ، توحي بأن ما يحصل ما هو إلاَّ توطئة لحرب شاملة.
إن التشخيص المعمّق يوحي بأن إسرائيل لا تستطيع تحمّل النتائج العسكريَّة تبعات النتائجِ الأوليَّة لما أسفر عنه طوفان الأقصى في أيامه الأولى، لذا هي مصرَّة على قلب النتائج بارتكاب مجازر بشرية وتدمير ممنهج للأماكن السَّكنية في قطاع غزة تمهيداً لاجتياحه بريًّا، وهي ترى أن الفرصة سانحة لتحقيق مآربها المتعددة، ولن تجد أفضل منها، بعد أن نجحت في جرِّ الغرب خلفها والاستحواذ على إقرار أميركي بدعم مطلق وبدخول الحرب إلى جانبها، وتتمثَّل المرامي التي تسعى إسرائيل لتحقيقها على مراحل، في التَّخلص من حماس وتقويض قواها العسكريًّة، كما تهجير سكَّان غزَة وإضعاف حزب الله، وصولاً إلى تدمير المفاعل النووي الإيراني والمنشآت العسكرية الإيرانيَّة الأساسيَّة والعديد من المرافق الحيوية في إيران، لتقييد نفوذها الاقليمي.
تسعى إسرائيل لتهيئة الأجواء لتحقيق مراميها بسيناريوهات أربعة، بعضها توطئة للبعض الآخر: الأول يتمثل في «إحكام السيطرة على غزة وإنهاء الوجود العسكري لحماس، ولو تطلب تعريض أسراها لمخاطر، وتطويع سكان غزة بتلقينهم درسا قاسيا لاحتضانهم حماس، الثاني: ويتمثل في التخلص من حماس وتهجير سكان غزة إلى سيناء، الثالث: ويتمثَّل في إضعاف كتائب القسَّام ومن ثمّ الانقضاض على حزب الله وضرب بنيته العسكريَّة وتقليب حاضنته الشعبية عليه، أما الرابع: فيتمحور حول التخلص من كابوس المفاعل النووي الإيراني، والذي لا تتجرأ إسرائيل على ضربه منفردة من دون مشاركة أميركيَّة، وهذا كان محل مساعيها لسنوات عدَّة، ولكن الإدارة الأميركيَّة لم تكن متحمسة إليه، لما قد يتأتى من تبعات واحتمال تَسببه بحرب واسعة النطاق، قد تكون على امتداد منطقة الشرق الأوسط نظراً لاتساع بقعة انتشار القوى الحزبيَّة المؤيدة لإيران إيديولوجيًّا، والتي تعمل بتوجيهاتها عسكريًّا بعد أن أحسنت تدريبها وتسليحها، وجعلتها مهيَّأة للإنخراط في منازلة كبرى ومشاغلة أعداء متعددين؛ وهذه الهواجس تسقط بمجرد انطلاق شرارة المنازلة الشاملة.
لقد هيَّأت إسرائيل لهذه السيناريوهات بأن عملت على ربط النِّزاع مع حزب الله من خلال بعض المناوشات الحدوديَّة وسقوط بعض القتلى، ومع إيران بتوجيه التهم إليها بأنها تقف خلف عمليَّة طوفان الأقصى ودعمها لتنظيمات إرهابيَّة. وبموازاة ذلك تتولى الولايات المتحدة الأميركية مهمة تحييد الدُّول العربيَّة عن النزاع، بذريعة أنها الصراع مع إيران وأذرعها، هذا بالإضافةِ إلى عملها في الخفاء على تشكيل حلف عسكري غربي «على غرار الحلف الذي أنشأته لضرب عراق صدَّام حسين»، وقد يضم هذه المرَّة دولاً أوروبية وكل من أستراليا وكندا بالإضافة لها ولإسرائيل.
وإذ نؤكد على أخذنا بعين الاعتبار لحالة التفكك والتَّرهل التي يعاني منها الوضع العربي، وعدم جهوزيَّة ما تبقّى من جيوش عربيَّة لحروب إقليميَّة أو دوليَّة، نرى من الواجب المناداة بضرورة تحرك الدُّول العربيَّة والإسلامية، بمن فيهم دول محور الممانعة، وعلى وجه السريعة، والتعالي فوق المماحكات العربفارسيَّة وتسخير كل الجهد لتفويت تنفيذ أي من هذه السيناريوهات، وتجنب المزيد من الاستفراد بحماس ومن سيليها بالاستهداف، علمًا أن حراجة الوضع تستوجب انخراط الممانعين وغيرهم من العرب بالأعمال القتالية فوراً للجم التهور الإسرائيلي وإفساد مُخططاته.
وأنهي بتجديد الدَّعوة إلى الدُّول العربيَّة قاطبة، ولكل من يدعي تبنّي القضيَّة الفلسطينيَّة أو مناصرتها إلى أن يعوا خطورة ما يجري ولما نحن مقبلون عليه، ولتلافي المزيد من النكبات، وكي لا تدفع فلسطين والشّعب الفلسطيني المزيد من الأثمان على غرار الحروب السابقة: من تهجير وتخل عن أراض، وتدارك المزيد من المخاطر بتبنّي مواقف جريئة بالإعلان عن وقف جميع أوجه التعامل مع الكيان الإسرائيلي، واعتبار الاتفاقات الثنائية بحكم السَّاقطة، بما في ذلك اتفاقية كامب ديفد ولوزان وغيرهما ووقف مختلف أشكال التَّطبيع. والجيش المصري بالتحديد مطالب كما الجيش الجزائري بالإنخراط في الأعمال الحربيَّة إن استمرت إسرائيل في تعنُّتها لجهة اجتياح قطاع غزة، وإلاَّ ستكون الشعوب العربية مدعوة للمطالبة بحل الجيوش الوطنيَّة لانتفاء دواعي وجودها ولارتفاع كلفة تسليحها وعَلفِها، ولكون طوفان غزَّة سيكون آخر المنازلات ما بين العرب وإسرائيل، وعلى ضوء نتائجه تكون الأرجحية لأحد الخيارين التاليين: السَّلام أو الاستسلام.