28 تموز 2023 12:00ص مأساة لبنان في دكتاتورية الأقلّية والشعب العنيد

حجم الخط
عاد الموفد الفرنسي جان إيف لودريان بزيارة وداعية إلى لبنان قبل أن يتسلّم منصبه الجديد في مدينة العلى السعودية، وذلك بعد أن أنهت اللجنة الخماسية والمكوّنة من المملكة العربية السعودية وقطر ومصر وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية اجتماعها في بالدوحة بصدور بيان لا يتضمن أي جديد، والذي شكّل صدمة للسياسيين اللبنانيين الذين يمارسون العناد في مواقفهم ويتصوّرون أن الاجتماع هو لتلبية مطالبهم بدعم هذا المرشح أو ذاك، غير مبالين في الآثار التدميرية للبنان كدولة وشعب ومؤسسات. بسبب بقاء موقع رئاسة الجمهورية شاغرا.
فالزيارة لا يتوقع لها أن تحمل أيّ جديد، ولكنها على الأرجح تتضمن محاولة لاستكشاف ما إذا كان الزعماء السياسيون اللبنانيون قد عدلوا في مواقفهم المتصلبة بعد بيان اللجنة الخماسية.
فالبيان تضمن حضّاً مُلحّاً وقوياً «للقيادات اللبنانية على انتخاب رئيس للجمهورية وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الضرورية» بالإضافة الى التلويح بعقوبات على الذين يعرقلون احراز تقدّم في هذا المجال. فهل سيتجاوب الزعماء مع هذه الدعوة أم ان العناد سيبقى سيد الموقف؟
وهل سيخاف هؤلاء الزعماء من التلويح بالعقوبات؟ علما بأنهم يسخرون من التلويح بالعقوبات لأنهم يعلمون أن لا عقوبات ولا من يحزنون.
والبيان لم يتضمن دعوة للحوار بين الأفرقاء اللبنانيين كما كانت ترغب فرنسا، بما أوحى ان المجموعة لا تشجع هذا التوجه لأنهم يعلمون أن أبواب التفاهم موصدة بين هؤلاء المسؤولين لأكثر من سبب، فالحوار الذي ينادي به الثنائي الشيعي واضح: نحاوركم لنقنعكم بمرشحنا سليمان فرنجية، ولا خيار آخر.
فهل أتى الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان لإقناع هذا الثنائي بالخيار الآخر حتى يمكن بعدها إعادة طرح الحوار؟
ولم يكتفِ البيان بالدعوة لانتخاب رئيس للجمهورية بل أشار الى أنّ «إنقاذ الاقتصاد وتأمين مستقبل أكثر ازدهاراً للشعب اللبناني يعتمد على ما ستقوم به القيادة اللبنانية». فهل سيسألهم السيد لودريان عما فعلته الحكومة اللبنانية لإنقاذ الشعب اللبناني؟ وبماذا سيجيبون؟
أمّا عن مواصفات الرئيس الذي يجب أن ينتخب يقول البيان «فلا بد أن ينتخب لبنان رئيساً للبلاد يجسّد النزاهة ويوحّد الأمة ويضع مصالح البلاد في المقام الأول، ويعطي الأولوية لرفاه مواطنيه ويشكّل ائتلافاً واسعاً وشاملاً لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الأساسية، لا سيما تلك التي يوصي بها صندوق النقد الدولي» ولكن هذا لا يلبّي الشرط الوحيد الذي يضعه حزب الله ألا وهو: «رئيس يحمي ظهر المقاومة» وآخر همّهم مصالح البلاد، علما بأنّ حزب الله ليس بحاجة لمن يحمي ظهره، ولكنه يريد حماية مصالحه وهي كثيرة. فهل سيقنع الموفد الفرنسي الثنائي الشيعي بالمواصفات التي حدّدها بيان اللجنة الخماسية للرئيس القادم؟
شدّد البيان على «الحاجة الماسّة إلى الإصلاح القضائي وتطبيق سيادة القانون، لا سيما فيما يتعلق بالتحقيق في انفجار مرفأ بيروت قي 4 آب عام 2020». هل سيقنع لودريان السياسيين اللبنانيين على اتخاذ إجراءات فورية للتغلب على المأزق الذي وصلت إليه تحقيقات المرفأ؟. فالقضية معلقة منذ أكثر من سنة، ووعود الخمسة أيام التي وعد بها الرئيس السابق ميشال عون لكشف الجناة ومعاقبتهم قد تبخّرت.
أمّا ما تضمنه البيان حول «أهمية تنفيذ الحكومة اللبنانية لقرارات مجلس الأمن الدولي والاتفاقات والقرارات الدولية الأخرى ذات الصلة، بما في ذلك تلك الصادرة عن جامعة الدول العربية، بالإضافة إلى الالتزام بوثيقة الوفاق الوطني التي تضمن الحفاظ على الوحدة الوطنية والعدالة المدنية في لبنان» فهو يظهر مدى حرص المجتمعين على إنقاذ لبنان.
ولكن على من تقرأ مزاميرك يا (لودريان) داوود؟ وماذا يمكن أن يفعل في هذه المهمة القصيرة مع شعب يتغنّى بانه عنيد؟!
لقد اكتشف الشعب اللبناني الخطأ الجسيم الذي وقع فيه الأخوان رحباني عندما تغنّوا «بالشعب (اللبناني) العنيد»، فكل الزعماء السياسيين يتباهون بعنادهم وعدم مرونتهم في مواقفهم: فالسيد حسن نصر الله صاحب الوعد الصادق هو عنيد من أجل أن يصدق بوعده لسليمان فرنجية بأنه الرئيس القادم للبنان، كما صدق بوعده للعماد ميشال عون، ولهذا نرى كل أتباعه من معمّمين (رجال دين) وغير معمّمين يرفضون الحديث عن أيّ أسم آخر كمرشح للرئاسة، بل أنّ أحد أعوانه أشار صراحة بأنهم انتظروا أكثر من سنتين لوصول ميشال عون للرئاسة فهم على استعداد لأن ينتظروا أكثر حتى يأتي فرنجية تنفيذا للوعد الصادق. والرئيس نبيه بري لا يختلف كثيرا عن السيد نصرالله فمرشح الرئيس بري هو الوحيد سليمان فرنجية أولا وثانيا ورابعا وآخرا، فلا مرشح سواه. وعندما سُئل عن الـ (plan B) كان جوابه أنه ليس لديه مرشح آخر. فعِلامَ يكون الحوار؟
المهمة المكلّف بها السيد لودريان كموفد خاص للرئيس الفرنسي لحل أزمة انتخاب رئيس للجمهورية هل ستنجح؟، فهل سيلبّي الرئيس بري مثلا هذه الرغبة ويدعو مجلس النواب للانعقاد وبجلسات متتابعة حتى انتخاب الرئيس؟ والجواب معروف أن الرئيس بري يمكن أن يدعو لجلسة جديدة لمجلس النواب ولدورة واحدة حيث تفقد النصاب بعد الدورة الأولى ما لم يضمن الرئيس بري انتخاب السيد سليمان فرنجية في الدورة الثانية.
ولكن هل هكذا أعمال تدل على نيّة حل للأزمة الرئاسية؟..
الرئيس نبيه بري احتكر لنفسه صلاحية تفسير الدستور، فقد نصت المادة 49 منه في فقرتها الثانية: «ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي»، وبلغة الأرقام وحتى يفوز المرشح بالرئاسة يجب أن يحصل في الدورة الأولى على 86 صوتا من أصل 128 يؤلفون المجلس قانونا و65 صوتا في الدورة التي تلي.
لم تتكلم هذه المادة عن النصاب القانوني لعقد جلسات المجلس لانتخاب الرئيس، وحيث أن العدد المطلوب للفوز هو الثلثين من الذين يؤلفون المجلس قانونا فقد قر الرأي على أن النصاب هو الثلثين، في حين يميّز بعض الفقهاء بين النصاب الضروري لعقد الجلسات والعدد المطلوب لاتخاذ القرار، فحيث لا نص على نصاب خاص فتطبق المادة 34 من الدستور أي الأكثرية المطلقة ومنها المادة 49 من الدستور (دراسة قانونية للدكتور المحامي حلمي الحجار) إلّا أن الرئيس بري يرفض الأخذ بهذا الرأي كما يرفض أن يأخذ بانه في الدورة الثانية يكون النصاب الأكثرية المطلقة لانه بعد الدورة الأولى يصبح العدد المطلوب للفوز هو الأكثرية المطلقة، والأمر يحتاج لتفسير دستوري لتوضيح هذه المسألة بالذات وخلال تسعة أشهر وبعد اثنتي عشر جلسة انتخابية حيث كانت المنافسة في الجلسة الأخيرة بين مرشحين إثنين هما الوزير السابق جهاد أزعور والوزير السابق سليمان فرنجية حيث نال الوزير السابق جهاد أزعور 59 صوتا. ونال الوزير السابق سليمان فرنجية 51 صوتا ولم ينل أي منهما الأكثرية المطلوبة للفوز، وطار نصاب الثلثين بعدما خرج نواب الثنائي الشيعي من الجلسة ولم تجرِ الدورة الثانية.
والمضحك المبكي أن الطرفين أعربا عن سعادتهما لخسارة الفريق الآخر، فالمهم أن يخسر خصمك وليس أن تربح.
ولهذا يصرّ الثنائي الشيعي على التمسّك بفرنجية كمرشح وحيد للرئاسة بل لم يخفوا استعدادهم للتغيّب عن الجلسة فيما لو تأكدوا من حصول المرشح الخصم على الأكثرية المطلقة في الدورة الثانية أى 65 صوتا.
وردّ الفريق المعارض كان بنفس الأسلوب: فأعلنوا أنهم لن يؤمّنوا نصابا يكون فيه الفوز مضمونا يالدورة الثانية لسليمان فرنجية. وكل منهما يفسر الدستور حسب مصالحه، فإن كان الغياب، أي تطيير النصاب لصالحه فالغياب هو حق دستوري، أمّا إذا كان لصالح الفريق الخصم فهو يعادل الخيانة لأنه يسعى لبقاء مركز الرئيس شاغرا.
إذا هناك ما يشبه الاتفاق الضمني بأن لا رئيس في المدى المنظور حتى نهاية دورة البرلمان الحالي أي لأيار من العام 2026 فكل من الفريقين يضمن الثلث المعطّل، وغير مستعد لأن يقدم أي تنازل لمصلحة البلاد أو العباد، لا أريد أن أكون متشائما فقد يأتي الفرج من سعاة الخير من الخارج فإذا أتى الفرج فخلال أقل من 24 ساعة سيسرع الرئيس بري بدعوة مجلس النواب وسيحضر الجميع للاحتفال بانتخاب الرئيس، والجميع ينتظر المفاوضات بين أميركا وإيران، وإذا قلنا أن الفريقين يعتمدان سياسة عضّ الأصابع، فالثنائي الشيعي لن يصرخ أبدا، فلا شيء يخسره فالرئيس بري أصبح كانه الرئيس الشرعي الوحيد الذي يمثل الدولة بكاملها، فرئاسة الجمهورية شاغرة ورئاسة الحكومة هي فقط لتصريف الأعمال والرئيس ميقاتي كل همّه إرضاء الرئيس بري وتلبية طلباته بل القيام بكل ما يطلبه منه حتى الأمور التي يريدها الرئيس بري ولا يريد أن يظهر دوره فيها، ولعلّ عدم تمديد مهمة العميد عباس إبراهيم أوضح مثال على ذلك.
والفريق السيادي أعلنها أيضا بأنه لن يسمح بوصول فرنجية ويفضّل الفراغ على رئاسته. وهكذا يتأكد انهيار الدولة والخاسر هو الشعب المسكين واقتصاده وسمعته التي أصبحت بفضلهم في الحضيض.
عندما وقّعت السعودية وإيران على اتفاقهما في الصين أعلن السيد نصر الله بنبرة لا تخلو من الخوف بأنه لا يظن «أن إيران ستضغط على حلفائها» وهذه العبارة لها معنيين واضحين : (1) أن حزب الله يخضع لما تطلبه منه إيران، (2) والثاني أنه يخشى أن تضغط عليه للقبول بحل وسط. ولكن زيارة الوزير الإيراني إلى بيروت بعد توقيع الاتفاق مع السعودية تأكد السيد نصر الله أن لا ضغوط إيرانية على حزب الله.
قد يأتي الموفد الفرنسي، قد يكون لودريان أو غيره، مرتين وثلاث وربما أكثر، ولكن عبثا يحاولون مع حزب الله الذي لا يستجيب إلّا لما تطلبه منه إيران.
إنها دكتاتورية الأقلية بأفضل تجلّياتها حيث تفرض أقلية نيابية مرشحها ولا تسمح بعقد جلسة انتخابية إلّا إذا خضع باقي النواب لرغبتها، ولقد صدق أرسطو عندما وصف حكم الأقلية بقوله إن دكتاتورية الأقلية تنتهي بحكم الطغيان وتصبح مشكلتها الرئيسية هي الاستئثار بالسلطة. وهذا ما نشهده حاليا في لبنان.