بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 كانون الثاني 2023 12:00ص ما بعد قدوم المُحقِّقين الأوروبيين إلى لبنان ليس كما قبله

حجم الخط
تنوَّعت التَّسمياتُ التي أُطلِقَت على القُضاةِ الأوروبيين الذين قَدِموا إلى لبنانَ في الآونةِ الأخيرة، ما بين «محققين أوروبيين، «وفدٌ من القُضاةِ الأوروبيين»، و«لجنةُ تحقيقٍ أوروبِيَّة»؛ التَّسميَةُ بحدِّ ذاتِها ليست بمُهمَّة، المهمُّ هو الغرضُ الذي جاء من أجله قُضاةٌ رَفيعو المُستوى أتوا من دولٍ أوروبيَّةٍ ثلاث، والمُتمثِّلُ في تلبيةِ طلباتِ مُساعَدَةِ قَضائيَّةِ سبقَ ووجَّهوها باسم دولِهم وسُلطاتِهم القَضائيَّةِ وفق الأصول إلى السُّلُطاتِ اللبنانيَّة، والتي يبدو أنها في طورِ الاستِجابةِ لها تنفيذاً لأحكامِ اتِّفاقيَّةِ الأُممِ المُتَّحِدةِ لمُكافحَةِ الفسادِ الصًّادِرَةِ بموجَبِ قرارِ الهيئة العامَّةِ رقم 4/58 تاريخ 31/10/2003، والتي صادقَ عليها لبنان بموجَبِ القانون رَقم 33 تاريخ 16/10/2008 والمُلزِمَةِ للدُّولِ المُوقِّعَةِ عليها ومنها لبنان في مَجالِ تَلبيَةِ طَلباتِ المُساعَدَةِ القضائيَّةِ في إطارِ مُكافحَةِ الفَساد بغَرَضِ الاستماعِ إلى إفاداتِ عددٍ من المسؤولين الماليين في لبنان.
وخيرُ توصيفٍ لظاهِرَةِ الفسادِ ومخاطِرها يستخلصُ من نصِّ الفقرةِ الأولى من تصدير أمين عام الأمم المتحدةِ للاتِّفاقيَّةِ نفسها «إن الفساد وباءٌ غادِرٌ يَترتَّبُ عليه نِطاقٌ اسِعٌ من الآثارِ الضَّارَّةِ في المُجتَمعات. فهو يُقوِّضُ الديمقراطِيَّةَ وسِيادَةَ القانون، ويؤدي إلى ارتِكابِ انتِهاكاتِ حُقوقِ الانسانِ وتَشويهِ الأَسواقِ وتَدهوُرِ نوعِيَّةِ الحياةِ ويُتيحُ ازدِهارَ الجَريمَةِ المُنظَّمَةِ والإرهابِ وغيرِ ذلك من التَّهديداتِ لازدِهارِ الأمن البَشري». ويبدو أن المَسؤولين في لبنان بمن فيهم المعنيون بملاحقةِ الضَّالعين في تلك السُّلوكِيَّاتِ الإجراميَّةِ المُشينةِ قد فاتهم الإطلاع على هذه الفقرةِ التي تصدَّرت الاتِّفاقيَّة، أو لم يفقهوا مَدلولاتِها وأهميَّتِها.
وأعتقدُ جازماً أن مُعظَمَ المسؤولين اللبنانيين الذين وقَّعوا على الاتِّفاقيَّةِ أو صادَقوا عليها بحكمِ مواقِعِهم قد فعلوا ذلك من دونِ الإطِّلاعِ على مضامين نًصوصِها وما تتضمَّنتهُ من التزاماتٍ على الدُّولِ المُصدِّقةِ عليها، وربَّما سيأتي يوماً يلعنوا فيه ساعةَ انضِمامِ لبنان إليها، أو يتبرَّؤوا من أصابِعِهِم التي تَوَّلَّت التَّوقيع. وخاصَّةً أنه من بينِ أغراضِ هذه الاتِّفاقِيَّةِ كما ينصُّ البند «ب» من مادَّتها الأولى «ترويجُ وتيسيرُ ودعمُ التَّعاونِ الدَّولي والمُساعَدَةُ التِّقنِيَّةِ في مَجالِ منعِ ومُكافَحَةِ الفساد، بما في ذلك في مَجالِ استِردادِ المَوجودات». وأن نطاقَ تطبيقِها يشملُ جملةَ أمورٍ أهمُّها منعُ الفساد والتَّحري عنه ومُلاحَقَةِ مُرتكِبيه، وعلى تَجميدِ وحَجز وإرجاعِ العائداتِ المُتأتِّيَةِ من الأفعالِ المُجرَّمَة» وفقَ ما هو واردٌ في البند الأول من مادَّتِها الثالثة.
جاءت أحكامُ هذه الاتِّفاقيَّةِ شبه مُتكاملًةٍ بحيث تَوَّلَّت أحكامُها العامَّةُ تَحديدَ الغرضِ من الاتِّفاقيَّةِ ونِطاقِ إعمالِها، والتَّأكيدِ على سِيادَةِ الدُّول؛ أما باقي فُصولِها فتناولت التَّدابيرَ الوِقائيَّةِ والتي تَمَحورَت حَولَ التِزامِ الدُّولِ المُوقِّعَةِ بتَوفيرِ الأرضيَّةِ المناسِبةِ لمُكافَحَةِ الفساد، والتَّجريم ونَفاذِ القانون وتَمحوَرَ حَولَ تحديدِ السُّلوكِيَّاتِ المُجرَّمَةِ التي تَندَرِجُ ضِمن إطارِ الفَسادِ كالرَّشوةِ في القِطاعين العام والخاص، اختلاسِ المُمتلكاتِ أو تَسريبها، المُتاجَرَةِ بالنُّفوذ، إساءَةِ استِغلالِ الوَظيفَة، الإثراءِ غيرِ المَشروع، غَسلِ العائداتِ الإجرامِيَّة، إخفاءِ المُمتلكات أو مواصَلةِ الاحتِفاظ بها، إعاقةِ سَيرِ العدالة، ولم تُفوِّت الأخذَ بمَسؤولِيَّةِ الهيئاتِ المَعنَوِيَّة، كما عاقَبت على الشُّروعِ والمُشارَكَة، وأوجَبت على الدُّولِ مُراعاةَ جَسامَةِ الجرائمِ عند تَحديدِ العُقوبات، كما لم تُغفِل النَّصَّ على تَجميدِ وحَجزِ ومُصادَرَةِ العائداتِ الإجرامِيَّة وكُل ما استُخدِمَ أو كان مُعدَّاً للاستِخدام في ارتكابِ الأفعالِ المُجرَّمَة، وحثَّت على التَّعاون بين أجهِزَةِ الدَّولَةِ الواحِدَةِ في مُكافَحَةِ الفسادِ ومُلاحَقَةِ الفاسدين؛ التَّعاونُ الدَّولي حيث حثَّت الاتِّفاقِيَّةُ الدُّوَلَ على مُساعَدَةِ بعضِها البعضِ في مَجالِ التَّحقيقاتِ كما في المَسائلِ المَدنيَّةِ والإداريَّةِ ذاتِ الصِّلةِ ويَتمحوَرُ حَول التَّعاونِ الدَّولي وبوجهٍ خاصٍّ حَولَ المُساعَدَةِ القانونِيَّةِ المُتبادَلَةِ ونقلِ الإجراءاتِ الجِنائيَّة، التَّعاونِ في مَجالِ إنفاذِ القانون، التَّحقيقاتِ المُشترَكَة، وتَسليمِ المُجرِمين ونَقلِ الأشخاصِ المَحكومِ عليهم، أساليبِ التَّحري الخاصَّة؛ استردادُ المَوجوداتِ ويَتمحوَرُ حولَ منعِ وكَشفِ العائداتِ المُتأتِّيَةِ عن الجَريمَة، تدابيرِ الاستردادِ المُباشِرِ للمُمتلكات وآليَّاتِ ذلك، التَّعاونِ في مَجال المُصادَرَة، إرجاعِ الموجوداتِ والتَّصرُّفِ فيها؛ المُساعَدَةُ التِّقنيَّةُ وتبادُلُ المَعلومات، وتَتمحوَرُ حولَ التَّدريبِ وتبادُلِ الخُبُرات، جَمعِ وتحليلِ المَعلوماتِ المُتعلِّقَةِ بالفسادِ وتبادُلِها؛ ولم تُغفِل آليَّاتِ التَّنفيذِ والتي تَمحوَرت حولَ استِحداثِ مُؤتمرٍ دولِيٍّ للدُّولِ الأطرافِ يُعنى بتَعزيزِ تنفيذِ أحكامِ الاتِّفاقِيَّةِ وأنشاءِ أمانَةِ سِرٍّ لهذه الغايَة، هذا بالإضافَةِ إلى أحكامٍ خِتامِيَّة أكَّدت على ضَرورَةِ اتِّخاذِ كُلِّ دولَةٍ وِفقاً لقوانينِها الدَّاخِلِيَّةِ ما يلزمُ من تَدابيرَ بما في ذلك التَّشريعِيَّةُ والإدارِيَّةُ لِضمانِ تنفيذِ التزاماتِها بمُقتضى الاتِّفاقِيَّة.
تُقدَّمُ طَلباتُ المُساعَدَةِ القَضائيَّةِ وِفقاً لأحكامِ الاتِّفاقيَّةِ المُنوَّهِ عنها كتابَةً أو، حيثما أمكن، بأيَّةِ وسيلَةٍ كفيلَةٍ بأن تُنتِجَ سِجلا مَكتوبا، بلُغَةٍ مَقبولَةٍ لدى الدَّولَةِ الطَّرَفِ مُتلقِّيَةِ الطَّلب، وفي ظُروفٍ تُتيحُ لها أن تَتَحقَّقَ من صِحَّتِه، أما في الحالاتِ العاجِلَة، وحيثُما تَتَّفقُ الدَّولتانِ الطَّرفانِ على ذلك، فيَجوزُ أن تُقدَّمَ الطَّلباتُ شَفوِيَّا، على أن تُؤكَّدَ كِتابةً على الفَور. ويَتوجَّبُ أن يَتضمَّنَ طَلبُ المُساعَدةِ القانونِيَّةِ وِفقاً لما حَدَّدهُ البَند 15 من المادة 46 من الاتفاقيَّة الأمورَ التالِيَة: هَوِيَّةَ السُّلطَةِ مُقدِّمَة الطَّلب، موضوعِ وطَبيعَةِ التَّحقيقِ أو المُلاحَقَةِ أو الإجراءِ القَضائي الذي يَتعلَّقُ به الطَّلب، واسمَ ووظائفَ السُّلطَةِ التي تتولى التَّحقيقَ أو المُلاحقَةَ أو الإجراءَ القَضائي، مُلخَّصاً للوقائعِ ذاتِ الصِّلَةِ بالموضوع، باستِثناءِ ما يتعلَّقُ بالطَّلباتِ المُقدَّمَةِ لغَرضِ تبليغِ مُستنداتٍ قَضائيَّة، وَصفاً للمُساعَدَةِ المُلتَمَسَةِ وتفاصيلِ أيِّةِ إجراءاتٍ مُعيَّنةٍ تَودُّ الدَّولةُ الطَّرفُ الطالِبَةُ اتباعَها، هويَّةَ أي شَخصٍ مَعنيٍّ ومكانَهُ وجِنسِيَّتَه، حيثما أمكن ذلك؛ وأخيراً الغرضَ الذي تُلتَمِسُ من أجلِهِ الأدلَّةَ أو المَعلوماتِ أو التَّدابيرِ ويبدو مما يَرشَحُ من مَعلوماتٍ أن هذه الأمورِ تَمَّت وَفقَ الأُصول. وعلى ضَوءِ ذلك تَعمَلُ كُلُّ دولةٍ طَرفٍ على تَسمِيَةِ سُلطَةٍ مَركزِيَّةٍ تُسنَدُ إليها مسؤولِيَّةُ وصلاحِيَّةُ تلقي طَّلباتِ المُساعدَةِ المُتبادَلَةِ وتنفيذِ تلك الطَّلباتِ أو إحالتِها إلى السُّلُطاتِ المَعنيَّةِ لتنفيذِها، ويبدو أن السُّلطةَ اللبنانيَّةَ قد حَصَرَت ذلك بالنِّيابَةِ العامَّةِ التَّمييزيَّة، وخيراً فعلت باعتبارِها أعلى سُلطَةِ اتِّهامٍ مُناطٌةٌ بها المُلاحَقةُ الجزائيَّة. 
أما الحالاتُ التي يجوزُ فيها طلبُ المُساعدَةِ القانونيَّةِ فمُحدَّدةٌ حَصراً في البند الثالث من المادَّة 46 المُشارُ إليها سابقاً، ورَغم ذلك نرى أنَّها واسِعَةٌ وتَتمثَّلُ في الأمور التالية: الحُصولُ على أدِلَّةٍ أو أقوالُ أشخاص؛ تبليغُ مُستنداتٍ قَضائيَّة؛ تنفيذُ عملياتِ تَفتيشٍ وحَجزٍ وتجميد، فَحصُ الأشياءِ والمواقِع، تقديمُ معلوماتٍ وموادَّ وأدلَّةٍ وتَقييماتٍ لخُبراء، تقديمُ أُصولِ مُستنداتٍ وسِجلَّاتٍ ذاتِ صِلةٍ بما فيها سِجِلاتٌ حُكومِيَّة أو مَصرِفِيَّة أو مالِيَّة أو سِجلات لِشَركاتٍ أو مُنشآت تِجارِيَّة، أو نِسَخ مُصدَّقَة عنها، تحديدُ العائداتِ الإجرامِيَّةِ أو مُمتلكاتٍ أو أدواتٍ أو أشياءَ أُخرى أو اقتِفاءُ أثَرِها لأغراضٍ اثباتِيَّة؛ تَيسيرُ مُثولِ الأشخاصِ طَواعِيَةً في الدَّولةِ الطالِبَة؛ أيُّ نوعٍ آخرَ من المُساعَدَةِ لا يَتعارَضُ مع القانون الدَّاخِلي للدَّولَةِ مُتلَقِيَةِ الطَّلب؛ استبانَةُ عائداتِ الجَريمَةِ وتَجميدِها واقتِفاءِ أثَرِها، استردادُ موجودات. إلَّا أن هذه الحَصرِيَّةِ لا تَحولُ دون قِيامِ السُّلُطاتِ في دَولةٍ طَرفٍ لم يوجَّهَ إليها طلبٌ مُسبقٌ أن تُزوِّدَ دولةً مَعنيَّةً بما يَتوفَّر لديها من معلوماتٍ ترى أنها قد تُساعِدُ الدَّولَةَ المَعنيَّةَ بالقِيامِ بالتَّحرِّياتِ والإجراءاتِ الجِنائيَّةِ أو إتمامِها بنَجاح.
المُستغربُ في الأمرِ يتمثَّلُ في ما نشهدُهُ من مُحاولاتٍ لإظهارَ قُدومَ القُضاةِ الأوروبيين إلى لبنان على أنَّهُ يَنطوي على تَعدٍّ على السِّيادَةِ اللبنانيَّةِ وتَجاوزٍ للقَضاءِ اللُّبناني وخَرقٍ للقَوانين الوَطنِيَّة، وأنه يَتعارَضُ مع روحِيَّةِ نصِّ المادَّةِ الرابعَةِ من الاتِّفاقيَّة ذاتها، والتي تؤكِّدُ على تساوي الدُّولِ المُوقِّعَةِ عليها في السِّيادَةِ وعَدَمِ التَّدخُّلِ في الشُّؤونِ الدَّاخِلِيَّةِ للدُّولِ، وأنها لا تُبيحُ لأيَّةِ دَولَةٍ طَرَفٍ أن تَقومَ في إقليمِ دولةٍ أُخرى بمُمارَسَةِ الوِلايةِ القَضائيَّة، أو أداءِ وظائفَ مُناطَةٍ حَصراً بسُلطاتِ الدُّولِ الأخرى بمُقتضى قوانينها، إلاَّ أن ذلك يَنطوي على إغفالٍ لما نَصَّت عليه الاتفاقيَّة على نحوٍ واضِحٍ لا يقبلُ اللبسَ أو التأويل، وبخاصَّة المادة 46 وما تَضمَّنته بُنودُها من إلتِزاماتٍ مُتقابِلَة، والتي توجِبُ على الدُّولِ الأطرافِ أن تُقدِّمَ لبَعضِها البعضِ أكبرَ قَدرٍ مُمكِنٍ من المُساعَدَةِ القانونيَّةِ المُتبادَلةِ في التَّحقيقاتِ والمُلاحَقاتِ والإجراءاتِ القَضائيَّةِ المُتَّصِلَةِ بالجرائمِ المَشمولةِ بهذهِ الاتِّفاقِيَّة، أما في ما خصَّ الهيئاتِ الاعتِبارِيَّةِ فيجبُ مراعاةُ قوانينِ الدَّولَةِ الطَّرفِ المُتلقِيَةِ لطلبِ المُساعَدَة، والمُعاهَداتِ والاتِّفاقِيَّاتِ ذاتِ الصِّلَة.
لقد أوجَبت المادَّة 46 من الاتِّفاقيَّة في بندها الـ 24 على الدَّولةِ الطَّرفِ المَطلوبِ منها تنفيذُ طلبِ المُساعدةِ القانونيَّةِ المُتبادلَةِ في أقربِ وقتٍ مُمكِن، ومُراعاةُ ما تَقترِحُهُ الدَّولَةُ الطرفُ الطالبَة من آجال، الى أقصى مدى مُمكن، وذلك وِفقاً لقانونِها الدَّاخِلي وبما يَتناسَبُ مع الإجراءاتِ المُحدَّدةِ في الطَّلبِ حيثُما أمكن، إلَّا أنَّها أجازَت لها بموجَبِ البند 16 أن تَطلُبَ معلوماتٍ إضافيَّةٍ إذا تَبيَّنَ لها أنَّها ضَرورِيَّةٌ لتنفيذِ الطَّلبِ وِفقاً لقوانينها الدَّاخليَّة، كما أجازَت لها بموجَبِ البند 25 من المادَّةِ ذاتِها أن تُرجِئ استِجابتَها للطلباتِ بسَببِ تَعارُضِها مع تَحقيقاتٍ أو مُلاحَقاتٍ أو إجراءاتٍ قَضائيَّةٍ جاريَة.
لقد حدَّدَ البند 21 من المادَّة 46 الآنفة الذِّكر الحالاتِ التي يَجوزُ فيها للدولةِ الطَّرفِ المَطلوبِ منها أن تَرَفُضَ المُساعَدةَ القانونيَّةَ على سَبيلِ الحَصرِ وهي: إذا لم يُقدَّمُ الطلبُ وِفقا للأصولِ التي سَبقَ وأشَرنا إليها، أو إذا رأت الدَّولةُ مُتلَقِّيَةُ الطَّلبِ أن تنفيذَ الطَّلبِ قد يَمسُّ بسِيادَتِها أو أمنِها أو نِظامِها العامِّ أو مَصالِحِها الأساسِيَّة الأُخرى، اذا كان القانون الدَّاخِليُّ للدَّولَةِ الطَّرَفِ مُتلقِّيَةِ الطَّلبِ يَحظُرُ على سُلطاتِها تَنفيذَ الإجراءِ المَطلوبِ بشأنِ أيِّ جُرمٍ مُماثل، فيما لو كان ذلك الجُرمُ خاضِعا لتَحقيقٍ أو مُلاحَقَةٍ أو إجراءاتٍ قَضائيَّةٍ في إطارِ ولايتِها القَضائيَّة، وأخيراً إذا كانَت تلبِيَةُ طَلبِ المُساعَدَةِ القانونيَّةِ بِحَدِّ ذاتِهِا تَتعارَضُ مع النِّظامِ القانوني للدَّولَةِ الطَّرَفِ المُتلقِّيَةِ له. إلاَّ أنه لا يَجوزُ للدَّولَةِ المَطلوبِ منها المُساعَدَةِ أن تَرفُضَ الاستِجابَةِ لمُجرَّدِ أن الجُرمَ يُعتبرُ أيضاً مُتَّصِلاً بأمورٍ مالِيَّة، أو بحِجَّةِ السِّريَّةِ المَصرِفيَّة، كما في حالَةِ انتِفاءِ التَّجريمِ، إن انطَوى الطَّلبُ على إجراءٍ قَسرِيٍّ أو على أُمورِ تافِهَة، وبجميعِ الأحوالِ ينبغي إبداءُ أسبابِ أيِّ رَفضٍ للمُساعَدَةِ القانونِيَّة.
ويُستخلصُ من روحِيَّةِ البند 18 من المادة 46 المذكورة سابقاً أنه في حالِ كان الطَّلبُ يَتمَحوَرُ بكُلِّيَّتِهِ أو بجُزئيَّةٍ منه حَولَ سَماعِ أقوالِ شَخصٍ كشاهِدٍ أو خَبيرٍ موجوداً في إقليمِ دَولَةٍ طَرَفٍ ينبغي سَماعُهُ أمامَ السُّلُطاتِ القَضائيَّةِ للدَّولَةِ المَطلوبَةِ المُساعدة منها إن لم يكن استردادُه مُمكِنا، كما يَجوز ، إن لم يكن الاستِجوابُ حُضورِيَّاً مُمكناً أو مُستَصوَباً، مُثولُ الشَّخصِ المَعني شَخصِيَّاً في إقليمِ الدَّولةِ الطَّرفِ الطَّالبَةِ، أن تُجرى جَلسَةُ الاستِماعِ بواسِطَةِ الفِيديو (بعدَ التَّشاورِ). كذلكَ يَجوزُ للدَّولَتين الطَّرفين أن تَتَّفقا على أن تتولى إدارةَ جلسَةِ الاستِماعِ سُلطَةٌ قَضائيَّةٌ تابِعَةٌ للدَّولَةِ الطَّرَفِ الطَّالِبَةِ وأن تَحضَرَها سُلطَةٌ قَضائيَّةٌ تابِعَةٌ للدَّولَةِ الطَّرفِ مُتلقِّيَةِ الطَّلب.
إنَّنا نحذِّرُ من مَغبَّةِ بقاءِ الدَّولةِ اللبنانيَّةِ عامَّةً وجِهازِها القضائي على وجهِ الخُصوصِ واقِفَةً موقِفِ المُتفرِّجِ من كُلِّ ما حصلَ ويَحصَلُ من ارتِكابات، وندعوهُم جَميعاً للتَّحلي بالحَدِّ الأدنى من المَسؤوليَّةِ والمٌبادرةِ إلى تَحريكِ دَعاوىً قضائيَّةٍ في كُل ما له علاقَةٍ بجرائمِ الفسادِ وغيرِها من الجرائمِ الشَّنيعةِ التي شهِدها لبنان في العقدين الأخيرين، وخاصَّةً جريمةَ تفجيرِ المرفأ ورٌبما غَيرِها من الاغتيالاتِ التي ارتُكِبت بدوافِعَ فسادٍ سِياسِيٍّ أو مالي، وإلاَّ الخَسارَةُ سَتطاوِلُ الجَميعَ بَدءاً بلُبنانَ الدَّولَةِ مُروراً بالجِهازِ القَضائي وبَعضِ القُضاةِ المَسؤولين عن إحقاقِ الحَقِّ وحِسنِ سَيرِ العَدالَة، كما الضَّالِعينَ في تلك الإرتِكاباتٍ، سَواءَ كانوا حالِيَّاً في دائرَةِ الاتِّهامِ أم لم يَتِم إدخالُهُم إليها بعد، لأنني مقتنعٌ بأنَّ ما بعدَ طَلبِ المُساعَدَةِ القانونيَّةِ من بعضِ الدُّولِ الأوروبيَّةِ لن يكون كما قَبله، مع التَّنبيهِ إلى أن مَعاييرَ وأطُرَ وآليَّاتِ تحقيقِ العَدالَةِ في الدُّولِ التي تَحترِمُ ذاتَها تَختلِفُ جَذريَّاً عَمَّا هو الحالُ عليه في لبنان، ولن يوقِفَ مَسارَ هذه التَّحقيقاتِ التي فُتِحت خارِجَ لُبنان أيَّةُ عَرقَلاتٍ أو تَعقيداتٍ مهما كان شأنُ من يَقِفُ خَلفَها، وأنَّها حُكماً سَتطالُ رُؤوساً كبيرَةً تَعتَبِرُ ذاتَها أنها بمنأى عن المُلاحَقَةِ والعِقابِ في لبنان.
كما أدعو إلى مًبادَرَةِ الدَّولةِ اللبنانيَّةِ إلى اقتِراحِ تَشكيلِ لَجنَةِ أو هَيئةِ تَحقيقٍ قَضائيَّةٍ مُشترَكَةٍ بين الدُّولِ المَعنيَّةِ (والتي أرى أنه سَتنضَمَّ إليها عاجِلاً أم آجلاً دُوَلٌ أُخرى) تُشَكَّلُ من قُضاةٍ وضُبَّاطٍ عَدليين وخبراءَ مُدقِّقين ماليين من مُختلِفِ الدُّولِ المَعنيَّة، وفقَ روحِيَّةِ ما تنص عليه المادَّةِ 49 من الاتِّفاقية ذاتها، يوكلُ إليها مَهامُ إجراءِ التَّحقيقاتِ وضَبطِ الأدلَّةِ في لُبنان كما خارِجِه، لكون مَسارِحِ الجَرائمِ المُثارَةِ تَمتدُّ لأكثرِ من دَولةٍ، وتُطاوِلُ أشخاصاً من دُولٍ مُختلِفَة أيضا، وهذا من شأنِهِ أن يُوَسِّعَ دائرَةَ الدُّولِ صاحِبَةِ الصَّلاحِيَّةِ في النَّظرِ بهذه الجَرائم، إن كان استِناداً للصَّلاحِيَّةِ المَكانِيَّةِ أو الشَّخصِيَّةِ أو غيرِهما، وإن اقتَضى هذا المَنحى إبرامُ اتِّفاقِيَّةٍ مُتعدِّدَةِ الأطرافِ خاصَّةٍ بهذه القَضايا المَطروحَة.
وأرى جازِما، أن الاستِمرار في اعتمادِ نهجِ النَّعامةِ سيكَلِّفُ لبنان غالياً إن كان في إطارِ توسيعِ قائمةِ المُتهمين، أم في هدرِ ما سيتِمُّ مُصادَرَتُه من أصولٍ وأموالٍ مودَعَةٍ أصلاً في الخارِجِ أم هُرِّبت بعد انكِشافِ الأزمَةِ الماليَّةِ - المَصرِفِيَّة، كما إنَّني أرى جازِماً أيضاً أن المُتَّهَمِين وكِبارَ المَسؤولين الذين لم تَتظَهَّرُ مسؤوليَّاتُهم بعد، لن يَبقوا خارِجَ قَفَصِ الاتِّهامِ الدَّولي، وسَيندمونَ حُكماً لإيداعِ وتَهريبِ أموالِهِم خارِجَ لبنان، لأنَّه لن يُكتَفى بمُصادَرَةِ الأَموالِ المَنهوبَةِ المُلَوثَةِ بالفَسادِ بل سَيُضافُ إليها غَراماتٌ موجِعَة. اللَّهُمَّ أشهَد أني قد بلَّغت.