بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 حزيران 2023 12:00ص ماذا خسر لبنان وماذا خسرت فلسطين برحيل كمال شاتيلا

حجم الخط
عدنان برجي *

يوم تشييعه في جبانة الشهداء في بيروت سألتني إعلامية من قناة فلسطين ، وقد رأت الجموع الغفيرة من كل لبنان تبكيه بحرقة وأسى، وتعاهده على استكمال المسيرة،سألتني ماذا خسر لبنان؟ وماذا خسرت فلسطين؟ برحيل كمال شاتيلا. 
كي ندرك حجم الخسارة، لا بد ان نذكر بعض ما قام به الرجل، وكان مظلومًا من قبل أغلب وسائل الإعلام التي وٌزّعت حصصًا لأصحاب الحظوة الطائفيّة والمذهبيّة. ولأن المقام لا يحتمل الإطالة فسوف أكتفي ببعض عناوين حركته النضالية التي امتدت على مدى عقود ستة، بدون إجازات ولا فترات استراحة، ولا مهادنة او يأس او إحباط. فقد كان معروفًا عنه انه مبادر، لا يهاب التحدي، شجاع في إعلان رأيه، حرٌّ في تحديد موقفه، معياره الثابت مصلحة الوطن والأمّة وفق مقياس العروبة الحضاريّة، والوطنيّة الجامعة، والإيمان بالله وبالرسالات السماويّة الخالدة.
بداية حركته النضاليّة، جاءت في ظل هجمة شرسة على مُلهمه وقائده جمال عبد الناصر، بدأها أدعياء الولاء لناصر، بانحرافهم عن مبادئه مُبكرًا، وتصويرهم أن دعوته للاشتراكية العربيّة التي استمدّها من النهج الإسلامي الداعي الى العدل الاجتماعي، هي اشتراكيّة ماركسيّة ماديّة، تتناقض وجوهر الدين الإسلامي. وكان لا بد من تصدّ فكريّ لفضح هذه الإنحرافات الخطيرة، وقد ساعد على ذلك شرح المفكر الكبير عصمت سيف الدولة لمفهوم جدل الانسان الذي يناقض الجدليّة الماديّة.
 من هنا بدأ كمال شاتيلا في تعزيز البنية الفكريّة عنده وعند إخوانه من الطلبة الذين قصدوا مصر طلبًا لاستكمال تعليمهم إذ كانت المناهج اللبنانية تشترط اجتياز امتحان اللغة الأجنبية بتفوق للنجاح في البكالوريا، فيما هي لا تؤمّن معلّمين كفؤ لهذه اللغة سوى في مدارس الإرساليّات التي يقتصر الدخول اليها على فئات محدّدة من الّلبنانيّين.
بعد العودة من مصر برزت أمامه، وأمام إخوانه، امتناع الجامعات في لبنان الاعتراف بالشهادة الثانوية (التوجيهية) التي تمنحها مصر لطلابها، فكان عليهم إطلاق معركة المعادلات التي أسهمت في دخول اكثر من 7000 طالب الى الكليات الجامعيّة بما لذلك من دور تصحيحي في المراكز العليا الإداريّة في الدولة وفي هرميّة نقابات المهن الحرّة. من هنا بدأ معركته المطلبيّة والتي لم تقتصر على الجانب الطلابي، وانما امتدت الى كل المطالب الشعبية فكانت معارك كسر الإحتكار، ودعم مزارعي التبغ، وبناء الكليات التطبيقية في الجامعة اللبنانية، وزيادة عدد الثانويات الرسمية، والمناداة بديمقراطية التعليم الرسمي والزاميته.
ومُبكرًا قرأ كمال شاتيلا محاولات الطبقة السياسيّة في تأبيد النظام الطائفي الذي يمنع التطور والتقدم، ويجعل من هذه الطبقة حزبًا واحدًا برؤوس متعدّدة، فسارع الى إقامة التحالف بين حركة الوعي التي تضم الطلاب الجامعيّين المسيحيّين في الجامعة اللبنانيّة مع الطلاب الناصريّين الذين كانوا بغالبيّتهم مسلمين من بيروت والمحافظات كافّة. ونجح هذا التحالف في انتزاع مطالب جامعيّة وشعبيّة وفي تحريك قواعد طالبيّة في أعتى الجامعات المحافظة، مما هدّد عرش الأحزاب الطائفيّة. وقد توّج حركته الوطنيّة الجامعة بترشيح طالب مسيحي مغمور، لمركز نيابي في بيروت الثالثة، ذات الغالبية الاسلامية، وكان الفوز حليف هذا الترشيح.
في مواجهة الحرب الأهليّة التي اندلعت في العام 1975، رفض كل دعوات التقسيم، وأيّد الحل العربي للأزمة اللبنانيّة، ودعا بكل السبل الممكنة لإنجاح هذا الحل الذي تُوّج باتفاق الطائف عام 1989، لكن للأسف لم يُطبق هذا الاتفاق تطبيقًا كاملًا، فكانت النتيجة ما يعانيه لبنان اليوم من إزمات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة. وقد تعرّض كمال للنفي طيلة 16 عامًا، نتيجة رفضه لتفلّت العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة والتي واجهها بالدعوة الى الاضراب الشامل في 21 حزيران 1985، الذي دق المسمار الأول والأقوى في نعوش الميليشيات الطائفيّة والمذهبيّة، وقدّم للعرب والعالم حجة وبرهانًا على رفض الشعب اللبناني للاقتتال البغيض بينهم.
وكان كمال شاتيلا اول من فضح مخطط التقسيم الإسرائيلي للبنان، وأظهر للعالم وثيقة أوديد بينون الصحافي الصهيوني الذي نشر مخطط التقسيم كاملًا في العام 1982.
هذا غيض من فيض نضاله الوطني. لذلك فهل كثير ان نقول ان لبنان خسر برحيله رجل المُواطنة بامتياز، ورجل الوحدة الوطنية بامتياز، ورجل الاصلاح السياسي والاجتماعي بامتياز، ورجل النقاء الثوري بامتياز، ورجل التمسك بالأخلاق بامتياز؟. هل كثيرٌ ان نحزن عليه وان نبكيه بحرقة وألم؟.
أمّا فلسطينيّاً، فان الخسارة جسيمة. اذ كان كمال شاتيلا وإخوانه من اوائل الّلبنانيّين الذين وقفوا الى جانب أبناء المخيّمات الفلسطينيّة في الستينيّات، وكانت اجهزة الأمن اللبناني تكتم على انفاس اللاجئين الفلسطينيّين بل تنّكل بهم وتحرمهم ، ابسط حقوقهم المدنية. فكم كان شجاعًا حين ذهب مع إخوانه مُعزيًا بشهيد الثورة الفلسطينيّة الأول فوق الأرض اللبنانيّة جلال كعوش في مخيّمات الجنوب عام 1966. ويوم ناصر المقاومة الفلسطينيّة في تصدّيها للاعتداءات الصهيونيّة وفي سعيها لتحرير فلسطين من نير الاحتلال، وبقي حتى آخر رمق في  حياته داعيًا لإنهاء الانقسام الفلسطيني الذي لا يستفيد منه سوى العدو، رافضًا لاتفاق اوسلو الذي وصفه يوم توقيعه بأنه اتفاق بين شرطة بلدية وبين جيش نووي، وداعيًا الى عدم الوثوق بأي اتفاقيات أو مفاوضات، فطريق التحرير عنده واضح، وقد اعلنه جمال عبد الناصر، أن ما أخذ بالقوّة لايسترد بغير القوّة.
فهل كثير ان نقول ان فلسطين خسرت برحيله رجلًا مقاومًا، حر الضمير، صلب الإرادة، لا يهادن ولا يخاف ولا يحيد عن ان القضية الفلسطينية هي قضيّة العرب المركزية وقضية كل انسان حر في العالم؟.
رحم الله كمال شاتيلا، وحسبنا أنّه بنى مؤسّسات على أسس علميّة وإداريّة وقانونيّة، وبامكانيات ذاتيّة قادرة باذن الله على استكمال المسيرة، كما أرسى تجربة رائدة في العمل المنظّم يستطيع الشباب اللبناني، والشباب العربي الاستفادة منها كي يسعى لتحقيق امنياته في التحرر والتقدم، والسير قُدمًا باتجاه الوحدة العربيّة التي حدّدها كمال شاتيلا بأنها تكامل للوطنيّات وليست وحدة انصهاريّة أو اندماجيّة أو قهريّة.

* رئيس المركز الوطني للدراسات