بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 آذار 2024 12:01ص متى ينتفض العرب لكرامتهم ويهبّوا لنصرة فلسطين؟

حجم الخط
رميُ المساعدات الغذائية والطُّبيَّة لأهالي غزَّة بالمِظلات هو آخر الخزعبلات التي كُنَّا نتوقعها في تعاطي المجتمع الدَّولي والعربي تجاه ما يتعرَّض له الشَّعبُ الفلسطيني في غزَّة من إبادة جماعيَّة، لأنها من قبيل العَراضات البهلوانيَّة المنسَّقة مع الكيان الصهيوني الذي يرتكب أبشع صور الإبادة الجماعيَّة على الإطلاق، ولا تعدو عن كونها مساعٍ مكشوفةٍ لإبراء ذمَّة بعض المسؤولين العرب عن تخاذُلهم في الوقوف إلى جانب اشقائهم الفلسطينيين والدِّفاع عنهم، ومحاولة بائسة لتلميع صفحاتهم المتَّشحة بالسَّواد نتيجةَ مواقفهم المُخزية تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة عامَّة، وراقَ الأمرُ مؤخَّراً للإدارَةِ الأميركيَّة كمناورة للتَّخفيف من حدَّةِ الانتقادات التي تتعرَّضُ لها داخليًّا بسبب انحيازها التام إلى الكيان الإسرائيلي الذي ما كان ليتمادى في اعتداءاته لولا توفيرها مختلف أنواع الدَّعم له والحِمايةِ السِّياسِيَّة إلى حَدٍّ جَعل منها شَريكاً فِعليًّا بامتياز، ويوفِّرُ الغطاء والتَّبريرات للعدو الإسرائيلي للتَّمادي باعتداءاته الشَّنيعة.
أقول خُزعبلات، لأن التَّعاطف الحقيقي مع أهالي غزَّة يكون بالأفعال لا بالأقوال، وبالمواقف الرجوليَّة لا باستجداء الأذونات من الكيان الغاصب لفلسطين لتمرير بعض الشَّاحنات المُحمَّلةِ بشيء من المُساعدات الضَّروريَّة. أما البدايةُ فتكون بمُمارسة أقصى الضُّغوط الدَّوليَّة لوقف فوري لعمليَّةِ الإبادة الجماعيَّة، وما يتخلَّلها من مجازر يوميَّة، وللتَّدمير الممنهج لكل مُقوِّماتِ الحياة واستهدافٍ للنساء والأطفال؛ والعمل بموازاة ذلك لفتحِ المَعابِرِ البريَّةِ الحُدودِيَّةِ ما بين مِصرَ وغزَّة عنوةً شاء مجرمو العدو ذلك أم أبوا. أمَّا الموقف العربي الواجب اتِّخاذُهُ فيتمثَّل في وقفٍ فوريٍّ لكل أشكال التَّعامل مع الكيان الإسرائيلي، بما في ذلك المساعي التَّطبيعيَّة، وتجميد العمل بالاتِّفاقيَّات الثنائيَّة المُبرمة ما بينه وبين بعض الدُّول العربيّة واعتبارها كأنها لم تكن، وإنذاره فوراً بوقف أعمال القتال وإلَّا الإنخراط فعليًّا بالحرب الدَّائرة دفاعاً عن أهلنا في فلسطين ومنعاً من تماديه في التَّعدي على مُقدَّساتنا الدِّينيَّة.
لِما التَّخاذُلُ والحرج العربي في الوقوف جهارةً إلى جانب غزَّة وأهلها المُعتدى عليهم، والسكوت عن تعرَّضهم لأبشع الجرائم والمُمارسات اللاإنسانيَّة المُذلَّة، طالما أن الدُّول الغربيَّة لم تخجل بمواقِفها المُنحازة لصالح المُحتل الغاصِب، وقد جاءت بقضِّها وقضيضها، واضعًة بتصرُّفه أحدث ما لديها من وسائل قتاليَّة وأكثر أسلحتها تطوراً وذخائرها الفتَّاكة، إلى حد يصحُّ القول أن منطقة الشرق الأوسط قد غَصَّت بحاملات الطائرات والبوارج المدجَّجة ببطاريات الصَّواريخ البالستيَّة الذكيَّة والغواصات النَّووية والقاذفات الإستراتيجيَّة... الخ.. وكأن العالم في معرضِ حربِ دوليَّة، في حين أن المُستهدف بكل الجيوش الجرَّارة شعبُ أعزلٌ خائر القوى مُحاصرٌ في مساحة جغرافيَّةِ لا تزيد عن 365 كلم2.
يبدو أن بعض القادة العرب قد ضاق ذرعاً، قبل العدو الصهيوني، بملاحم البطولة التي يسطِّرُها المقاتلون الفلسطينيون في الدِّفاع عن أرضهم وصوناً لكرامتهم، وبصمود أهالي غزَّة وصبرهم على ما يلحق بهم من ضيمٍ على مرأى ومسمع من العالم أجمع، ذلك أن صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته في غزَّة لما يُناهِزَ الخمسَة أشهُرٍ قد زاد من إحراج العَرب وعَرَّاهُم من العَباءاتِ التي كانت تستر عيوبهم، وكشفَ اللِّثامَ عن تعاملهم خفيةً وجهارةً مع العدو وداعميه، فبدى تخاذُلُهُم أقربُ إلى التآمُرِ على القضيَّة الفلسطينيَّة، ولم يعُد بمستطاعهم التَّلطي خلف حجج واهية لتبرير سُكوتهم والوقوف موقف المُتفرِّجِ على ما جرى ويجري من إبادة وتجويع وتهجير وإذلال وقهر، وليس من الأدبيَّاتِ العربيَّةِ والدِّينيَّةِ في شيء توجيه الملامة للفلسطينيين لدِفاعهم عن أرضهم وعرضهم ومُقدَّساتهم، ولا لاختيارهم توقيت عمليَّةِ طوفان الأقصى من دون التَّشاور مع الدُّول العربيَّة، ولا حتى على تلقيهم الدَّعم من أيَّة جهةِ بما في ذلك إيران التي يرى فيها بعض العرب خَصماً وربما ذهب بعضهم بعيداً في تفضيل التَّطبيع مع العدو كرهاً بها وبسياساتها التَّدخليَّة.
قد يكون محور المُمانعَة على علم مسبقٍ بعمليَّة طوفان الأقصى، وشارك في الإعداد لها، وساهم في تحديد ساعةِ الصِّفر لانطلاقها، وبأقل تقدير أخذ علماً قبل البدء بتنفيذها، وقد تكون منظَّمةُ حماس ومقاتلو كتائب القسام قد فوجئت بحجم النتائج التي حقَّقوها في العمليَّة، كما فوجئ الممانعون بحجم ردَّة الفعل الغربيَّة الدَّاعمةِ للكيان الإسرائيلي، فاستهابوا الموقف قياساً على مِقدارِ الدَّعم المعنوي والسُّرعة في الإمداد العسكري واللوجستي للكيان الإسرائيلي، وبالغطاءِ السِّياسيٍّ الشامل لكل انتهاكاته اللاإنسانيَّة واللاأخلاقيَّة، إلى حدِّ إنكار المجازر وتعطيل المستشفيات والتَّعرض لمراكز الإيواء واستهداف النساء والأطفال وهم يستلمون وجبات الغذاء أو يحصلون على الماء، وبتعطيل قرارات مجلس الأمن الدَّولي الراميَة إلى وقف أعمال الإبادة الجماعيَّة وجرائم الحرب وإدانة العدوان... الخ.. وإمعان الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة في استعمال حق النَّقض من دون خجل أو وجل. أما العرب ففوجئوا بالعمليَّةِ كما بردَّاتِ الفعل المبالغِ فيها، وبحجم الخراب الذي لحق بقطاع غزَّةَ وبأعداد ضحايا العدوان، كما فوجئوا بصمود أهالي القطاع وصبرهم على المآسي والويلات الحالَّة بهم، وبرباطةِ جأشِ المقاتلين الفلسطينيين، ورفضهم الاستسلام، وإصرارهم على الإلتزام بأحد خيارين «إمَّا النَّصرُ وإمَّا الشَّهادة».
وقوفُ العرب موقف المُتفرِّج مما يحصل في غزَّة أفقدهم مكانتهم على السَّاحتين الدَّوليَّة والإقليميَّة، وجَعلُهُم إدخال المُساعدات الطبيَّة والغذائيَّة للمشردين فيها سقفاً لمطالبهم أفقدهم هيبتهم، وتخليهُم عن مبادرتهم العربيَّة للسلام أفقدهم مصداقيَّتهم، واستجداؤهم وقف الأعمال القتاليَّة من العدو أفقدهم شيمهم، وسكوتُهم عما يرتكبه الكيان الإسرائيلي من جرائم حرب ومجازر وإبادة جماعيَّة أفقدهم إنسانيَّتهم، وتخليهم عن مقدَّساتهم الإسلاميَّة والمسحيَّة أفقدهم دينهم، وخنوعُهم للإملاءات الغربيَّة أفقدهم كبريائهم واستقلاليَّة قرارهم، وبسكوتِهم عن تهجير أهالي غزَّة وتجويعهم وإذلالهم سيفقدون آخر معاني الرجولة والانسانيَّة والأخلاقيَّة والقيم الدينيَّة. وسيُشرِّعون بذلك أبواب بُلدانهم أمام الطَّامعين ببلدانهم وثرواتهم من كل حدب وصوب، سواء كانوا من العجم أم الفرس أو الأتراك، وسيساهمون في تحقيق أطاع الصهاينة بإسرائيل الكبرى والتي ستستبيحُ في حال تحقُّقها بلدانهم وتطيحُ بعروشهم وتنهب خيرات بلدانهم، وستجعل مصير البلاد العربيَّة برُمَّتها رَهن مَصالِح المَشروع الصهيو-غربي.
وأنَّا يكن مآلُ حرب غزَّةَ سيُسجِّلُ التاريخُ للفلسطينيين أنهم من أكثر الشُّعوب تمسُّكاً بأرضهم، وأكرمهم في التَّضحية في سبيل بلدِهم، ولفدائييهم أنَّهم أكثرُ المقاتلين مروءة وأشجعُ وأصلبُ وأمهرُ من حمل السِّلاحَ دفاعاً عن وطنه وشعبه وعرضه وكرامته، وسيسجّلُ أيضاً أن الصَّهاينة ومن يقف خلفهم وداعميهم أسوأ بني البشر وأحقرُهم على الإطلاق وأبعدُهم عن القيم الإنسانيَّة والأخلاقيَّة، وأن الكيان الإسرائيلي ما هو إلَّا مُستعمرَةٌ أقامَها الغربُ لتفتيت مِنطقَةِ الشَّرق الأوسَط كيانات عرقية وطائفيَّة متناحرة، وتقويض استِقرارِها تسهيلاً للسَّيطرةِ عليها ونهب ثرواتِها، وأن وجوده رهن بالمشيئة الغربيَّة والدَّعم العسكري الأميركي غير المَحدود، وأن جيشه أعجز من تحقيق أية انتصارات مهما وضِعَت بتصرُّفِهِ من أسلحة متطورة وتقنيات حديثة لأنه يفتقد إلى الشَّجاعة ورابط الإنتماء للأرض، وما كان ليحقِّقَ انتصاراته لولا الروح الانهزامية لدى الأنظِمَةِ العربيَّة وتناحُرِها في ما بينها، وارتِهان مُعظمِها للغَرب؛ وأن الأنظمة الغربيَّة في الإجمال أنظمَةٌ مارِقَة متآمرةٌ على العرب، تُنادي بما لا تفعل، وأنها بعيدة كل البعد عن المبادئ والقيم التي تتلطّى خلفها أو تحمل لوائها، ولا تتورَّعُ عن خرقها في سبيل تَحقيقِ مآربها، أو خدمة للكيان الصهيوني.
أيها الحكَّام العرب، من المعيب تخليكم عن القضيَّة الفلسطينيَّة تحت أية ذريعة أو ظرف؛ الوقتُ ينفُذُ وفلسطين تناديكم، ومقدَّساتكم تناشدُكم للزَّود عنها؛ كونوا على قدر المسؤوليَّات التاريخيَّة الملقاة على عاتقكم، وترفعوا عن أنانياتكم واحتكموا إلى ضمائركم، وتصرَّفوا بما تملي عليكم التَّحديات من مواقف، واعملوا وفق شِيَمكُم العربيَّة ومن وحي روحيَّة الدياناتِ السَماويَّة التي تعتنقوها، واعلموا أنه فيما لو هُجِّرَ أهل غزَّة وأحكم الأعداء قبضتهم عليها سيُقضى على فلسطين كدولة، وستسقطون من أعين شعوبكم، وإن التاريخ لن يرحَمكم وسيدرجُكم في صدارة المُتآمرين على شعوبهم وقضيَّتهم المركزيَّة، ولن يغفِرَ الرحمن لكم خطاياكم بل سيلعنُكم إلى يوم الدين. 
استفيقوا أيها العرب قبل فوات الأوان، وانفضوا الغبار عمَّا تبقّى من كرامة عربيَّة، فأولى بكم مناصرةَ غزَّة وأهلها بالموقف الصَّلبِ بدلاً من مناورات رمي المُساعدات المذلَّة لهم ولكم، والتي يتستَّرُ خلفها العدو لإطالةِ أمدِ الحرب وحصار الأبرياء وتجويعهم والإمعانِ في تقتيلهم. وإلى متى الهوان والإذلال؟ ومتى ينتفض العرب لكرامتهم ويهبّوا لنصرة فلسطين؟؟؟

* عميد متقاعد