بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 تموز 2023 12:00ص من المارونية إلى الشيعية السياسية... حماية الطائف تُطيح بمخطط الفدرلة والتقسيم

حجم الخط

سُئل يوماً شارل مالك خلال أوج صعود مشروع التقسيم بداية الحرب اللبنانية، عن كيفية دمج الديموغرافية المسيحية المتواجدة خارج إطار المعقل المسيحي في جبل لبنان، مع الدولة المزمع اقامتها هناك، فكان رده بغاية البساطة واللاواقعية بأن أمرهم سيُبحث بعد إقامة تلك الدولة وترسيخ بنيانها!

مالك الذي كان يرد حينها على سؤال حول مسيحيي منطقة الدامور والذي انتقل من كونه داعية لحقوق الإنسان والانفتاح العالمي، لكي يصبح داعية لدولة طائفية مع استعار القتال الطائفي في البلاد ولو تحت عناوين سياسية، كان يلخص حال المسيحيين حينها وفي كل حين، إزاء التغيرات المتدحرجة لغير صالحهم ديموغرافياً وسياسياً وإجتماعياً وإقتصادياً ومع هجرة مضطردة دعت الموارنة في شكل أساسي الى المناداة بالتقسيم.

شكل مالك (غير الماروني) ركناً أساسياً في ما عرف خلال "حرب السنتين" في بداية "الأحداث اللبنانية" بـ"الجبهة اللبنانية" التي ضمت القوى المسيحية اليمينية المقاتلة في وجه "الحركة الوطنية" والمنظمات الفلسطينية وقوى أخرى، وكان واحداً من المفكرين الكبار والمنظرين للوطن المسيحي البديل.

صحيح ان مشروع التقسيم هُزم مع الوقت وتخلى الخارج عنه بعد هزيمته معه، إلا ان تلك الاحلام الكامنة لدى البعض عادت الى السطوع مع ازدياد الإحباط لدى المسيحيين وهو إحباط استُهل مع دولة اتفاق الطائف خلال الزمن السوري، وباستثناء مرحلة متقطعة ما بعد الخروج السوري العام 2005، عادت الى تلك الدعوات لتُلاقي الصدى لدى شرائح مسيحية واسعة.

ليس المعنى هنا أن المسيحيين هواة تقسيم، لكن الهاجس الاقلوي المحبَط وفشل التجربة في الحكم ناهيك عن الانقسامات الداخلية، والأهم الخوف من سلوك القوى المسلمة لا سيما "حزب الله"، زادت من ذاك الإحباط.

تصاعد دعوات الفدرالية يفسر الهاجس اليوم وهو الحل البديل عن تقسيم مستحيل أعجز عن وصل المناطق المسيحية بين بعضها البعض، لذا خرجت دعوات فدرلة حالمة تريد إسقاط تجارب خارجية من المستحيل تطبيقها في المجتمع اللبناني.

كان قادة "الجبهة اللبنانية" الذين تجاهلوا ظلم النظام اللبناني خلال زمن المارونية السياسية تجاه الشرائح الأخرى ما أدى الى اندلاع الحرب الى جانب عوامل أخرى، يعلمون تماماً أن وصل المناطق المسيحية جغرافياً غير واقعي، وهذا ما دفع شارل مالك الى الكلام عن إقامة دولة مسيحية حيث أمكن قبل التحاق مسيحيي المناطق بها.

هذه الحقيقة ليست غائبة عن دعاة التقسيم اليوم الذين يستعيضون بالفدرالية عن التقسيم وبوصل ديموغرافي حالم وأحيانا مضحك، في بلد بالغ الصغر بات شبه غائب عن اهتمامات الكبار الذي دعموا التقسيم سابقاً تسليحياً ومالياً قبل فشله.

في مقابل تلك الدعوات ثمة دعوات مستترة لتظهير التغيرات الكبرى في المشهد اللبناني سياسياً وديموغرافياً وإقتصادياً وإجتماعياً وتسليحياً، وسط اتهامات بالشروع في عملية قضم تدريجية للسلطات لصالح شيعية سياسية لم تكن مع التوصل الى اتفاق الطائف في العام 1989 ، قد بلغت هذه القوة اليوم.

في ظل السعار الطائفي الحالي ليس هناك حل سوى بتطبيق الطائف نفسه الذي، رغم كل الملاحظات عليه، ما زال صالحاً للتطبيق مع ضرورة التعديل عليه بالاتفاق بين المكونات اللبنانية.

الطائف قدم حلولاً إصلاحية

فالطائف قدم في القضايا الكبرى حلّاً معقولا للمعضلة اللبنانية. وينسى كثيرون أن هذا الاتفاق قد وضع حداً للحرب الاهلية، واذا كان الاتفاق ليس مثالياً فهو وفّر رؤية لتسوية لبنانية قد تضع حداً لحروبه الاهلية المتتالية علناً وسراً.

لقد دعا الاتفاق الى عدالة مفترضة بين اللبنانيين وضمن المناصفة بعيدا عن أية تغيرات ديموغرافية، ودعا مجلس النواب الى صياغة قانون انتخاب خارج القيد الطائفي لإنتاج مجلس على أساس وطني غير طائفي ثم استحداث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية.

وشكل موضوع الساعة خلال الحرب الأهلية وهو إلغاء الطائفية السياسية، هاجس المجتمعين في الطائف مع اعتباره هدفا وطنياً أساسياً لكن وفق خطة مرحلية. هنا دعا الطائف مجلس النواب الى اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. ومهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.

واتخذ موضوع اللامركزية الإدارية أخذاً ورداً. فالمسيحيون يطالبون بلامركزية مالية للتخلص من مركزية مالية شيعية (لم ترد وزارة المالية للشيعة في الطائف سوى بمباحثات غير رسمية)، بينما طالب الاتفاق حرفيا باعتماد "اللامركزية الإدارية الموسعة" من دون ذكر الموضوع المالي، وهي نقطة شائكة افترض المشرعون في الطائف حسن النية تجاهها أو هم اعتبروا وضوحها وعدم الحاجة إلى شرحها اكثر من ذلك.

في كل الأحوال تعود اللامركزية على مستوى الوحدات الإدارية مهما صغُرت، بفائدة على المواطن اللبناني وليس هناك مناص من الحوار لتحديد ماهيتها شرط حسن نية الأفرقاء اللبنانيين.

ومن الاصلاحات جديرة الذكر التوصل الى قانون انتخاب على أساس المحافظة، بعد إعادة النظر في التقسيم الإداري، لكنه طبعاً لم يقصد قانوناً طائفياً كالذي أجريت الانتخابات الاخيرة على أساسه وإن كان القانون الحالي أفضل من سابقه الأكثري.

الحاجة إلى حوار حول السلاح

الموضوع الشائك الأكبر الذي يتطلب حواراً سيكون حول إعلان الطائف عن "حل جميع المليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال ستة أشهر تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني، وإقرار الإصلاحات السياسية بصورة دستورية".

كان ذلك قبل نحو 34 عاما وبعد حرب ضروس تطلبت نزع سلاح تلك الميليشيات، لكن الاحتلال الاسرائيلي كان جاثماً على جغرافية لبنانية وازنة ما فرض بقاء "سلاح المقاومة"، وقد دعا الطائف الى "اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها ونشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً والعمل على تدعيم وجود قوات الطوارئ الدولية في الجنوب اللبناني لتأمين الانسحاب الإسرائيلي ولإتاحة الفرصة لعودة الأمن والاستقرار إلى منطقة الحدود".

لكن السلاح اليوم بات عنوان الدعوات الى التقسيم خشية منه وإيماناً بحؤوله دون قيام الدولة المرجوة.

هذا الأمر يتطلب طرحه جدياً على طاولة حوار واحدة تناقش الهواجس وتتوصل الى استراتيجية دفاعية لبسط سلطة الدولة ومؤسساتها العسكرية على كامل الأرض اللبنانية، في وجه أي مطامع إسرائيلي وأي عدوان بري أو بحري وحتى جوي.. كما في وجه أي عدوان من نوع آخر من خارج الحدود.

لكن البقاء في حوار الطرشان القائم اليوم حول القضايا الكبرى لن يؤدي سوى إلى تعميق الفجوة بين اللبنانيين. ومن الضروري اليوم مثلاً مُراعاة المخاوف المسيحية وأولها عدم فرض رئيس جمهورية من غير رضاهم ما سيشكل مثالاً حياً على تعزيز مفهوم الإحباط المسيحي المزمن وعدم الايمان بأن الشريك المسلم (الشيعي اليوم) يهدف أصلاً إلى التفاهم مع الآخر.

ذلك أن إشاعة جو من الطمأنينة لدى المسيحيين إنطلاقاً من مسألة الرئاسة ستُطيح بمخطط الفدرلة والتقسيم وستنزع الذريعة من دفع المسيحيين إلى تقسيمات ستودي بهم كضحية أولى لها.