بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 كانون الثاني 2024 12:01ص من خريف غزة التشريني إلى شتاء لبنان الطويل

حجم الخط
كنت قد اخترت بيني وبين نفسي أخذ قسطٍ من الراحة في نهاية هذا العام، فأتوقّف عن الكتابة وأُريح قلمي الإلكتروني والقُرّاء المُثقّفين من بعض التوثيق وتحليل المُجريات الدامية في قطاع غزّة وعموم الأراضي الفلسطينيّة وجنوب لبنان، وقد أصابني هول الجرائم والفظائع والعدوان الإسرائيلي الذي تجاوز كل الحدود وفاق كل التصورات في حرب انتقامية ومجنونة غير مسبوقة، كما أصاب قلوب وعقول المتابعين بكل القذائف والصواريخ المدمّرة للمستشفيات والمدارس والمباني فوق رؤوس ساكنيها وعشرات الآلاف من الضحايا المدنيين والنساء والأطفال، وضوضاء الطائرات الذي يُمهل سكنات الروح العليلة لحظاتٍ أخيرة كاسرة وقاسية وفارقة قبل الوداع أو الرحيل.
لم يكن العالم عاجزاً فقط عن تأمين الحماية للشعب الفلسطيني الأعزل، ولم تكن مساعداته الخجولة تصل بما يكفي لتقي أطفال غزة جوع البطون وبرد الشتاء القارس، ولم يكن الدواء المرسل قادراً على علاج أجساد الغزّيين العارية تصارع الموت بالموت، وأرواحهم السقيمة إلا من إيمانٍ بالله واليوم الآخر وتسليمٍ بقضاء الله وقدره حتى النصر بالصبر أو الشهادة. وأصبحنا في لبنان على مرمى حجرٍ ونيران من حرب الإبادة والقتل الجماعي والتدمير العشوائي الذي لم يوفر مراكز النزوح وأماكن العبادة وكافة مرافق الحياة والبنى التحتية، ومواصلة الإعتداءات دون توقف على غزة والضفة الغربية والقدس الشريف وصولاً إلى المناطق الحدودية في جنوب لبنان. وكذلك نكاد ننسى المخاطر والتهديدات التي تتعلّق بنا كلبنانيين وأننا في قلب هذه المعركة منذ السابع من تشرين الأول أمام عظيم المصاب والألم الفلسطيني الرهيب. وقد نسينا فعلاً مصابنا في وطننا وانهياراته المستمرّة واللامتناهية وارتطاماته الكبرى التي وضعت لبنان واللبنانيين على حافة الهاوية والزوال.
قبل عامين تقريباً، وفي صحيفة «اللواء» عدد ٢٠ تشرين الأول ٢٠٢١، كتب المحامي حسن مطر، وهو من الشخصيات البيروتية الأصيلة، ومن القيادات الشعبية والحزبية الوطنية والعروبية، المشهود لها بالتضحيات والنضال في كل حي من أحياء بيروت، وعلى امتداد ساحة الوطن، وأحد المؤسسين الأوائل للتنظيم الناصري – إتحاد قوى الشعب العامل في سنة ١٩٦٥: «لبنان في مهب العواصف والرياح». وما يلفت في عنوان هذا المقال أننا وبقليلٍ من التأمّل ما زلنا نعيش في مهب العواصف والرياح، وأن شتاءنا طويل وممتد لسنوات ولا يشبه الفصول الأربعة في لبنان بشيء. يقول الكاتب: «نسينا جميعاً أن الوطن الملاذ الأخير للأمن والأمان والعيش الواحد وكافل الحياة لكل الناس، وجعلناه رقعة شطرنج لهواجسنا ومصالحنا... وكلنا قفزنا فوق الدولة الحلقة الأضعف بين الطوائف والمذاهب والقوى والأحزاب اللبنانية والتيارات المستحدثة أخيراً».
من خريف غزة التشريني إلى شتاء لبنان الطويل، طوفان الأقصى وفائض التاريخ الفلسطيني في مواجهة فائض القوة والدمار والجرائم الصهيونية وحرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، نكبة فلسطين الثانية ونكبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في سنة ٢٠٢٣، وهدية الميلاد والعام الجديد لأطفال غزة والجنوب اللبناني لن تكون إلا بوقف الحرب وعودة النازحين إلى أراضيهم وبيوتهم والبدء بإعادة إعمار ما تهدّم، وهذا يحتاج إلى سنوات طويلة، وإلى دعم الدول العربية بشكل أساسي، ولن يكون ذلك إلا بعد توحيد الصف الفلسطيني وإنهاء الخلاف المحوري القاتل بين أبناء الشعب الواحد، والعمل على بناء وتأسيس الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.
هو خريف سينتهي في فلسطين، وبعده شتاء وصبر ونضال جديد لشعب أسطوري صامد وبطل ومجاهد في سبيل الله حتى يأذن الله له بالطمأنينة والسلام. قال تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: ٢٨]. وهو شتاء طويل في لبنان ما طالت الطائفية السياسية البغيضة في لبنان، وما دامت الأنانية ولغة المصالح الخاصة تطغى على أسس وبنيان الدولة وتعلو على تحقيق المصلحة العامة وتطبيق أحكام الدستور والقانون.
وفي هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان والحروب في المنطقة، سيكون إنتخاب رئيس جمهورية جديد في لبنان من أولى الإنجازات التي تنتظرها مؤسسات الدولة من أجل عودة الانتظام إلى أعمالها، وإعادة تشكيل السلطة التنفيذية في العام الجديد على قاعدة القدرة على ممارسة الحكومة لصلاحياتها الدستورية وتأمين الخدمات العامة وإعادة أموال المودعين كضمانة أساسية للاستقرار النقدي والاجتماعي بعيداً عن سياسات الكيد والتعطيل التي تمت ممارستها في العهد السابق، وفي الفراغ الرئاسي الذي تلاه وهدّد بفراغ أمني خطير لولا أن تم إنجاز التمديد لقائد الجيش ورفع سن التقاعد لقادة الأجهزة الأمنية من رتبة لواء وعماد لسنة واحدة في نهاية العام ٢٠٢٣. وكذلك تبقى أولوية للتشريع وإقرار القوانين العادلة واللازمة لتسيير شؤون الناس وفي طليعتها قانون الإيجارات الذي عجزت جميع قوانينه ومشاريعه الأخيرة عن تلبية موجبات العدالة والإنصاف للمالكين والمستأجرين على حد سواء.
عامٌ مضى بمآسيه وصدماته وانهياراته ونكباته، وعامٌ أقبل بتفاؤل وأمل بالله أن ينشر الطمأنينة والسلام في الأراضي المقدسة وفي بلادنا، وبإرادة إنسانية لمواصلة الحياة من حيث قوة الصبر والإيمان والمواجهة، ورسم معالم المستقبل دون يأسٍ أو استسلام. حمى الله فلسطين، وحمى أبناء شعبها المؤمنين مسلمين ومسيحيين، وحمى الله لبنان وأبنائه الطيّبين.