بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 شباط 2024 12:05ص من وحي الذكرى التاسعة عشر لفقيد إعادة الإعمار والإنماء والازدهار

حجم الخط
ليس من شك في أن اغتيال الشَّيخ رفيق الحريري قد أصاب لبنان في مقتل، وإذا كان الأشرار باغتياله قد تخلَّصوا منه جسديًّا، إنما رؤيته وما فعله من أجل لبنان ما تزال ماثلة في ضمائر كل اللبنانيين الأشراف، وإن تسبَّب الاغتيال في إحباطهم والقضاء على آمالهم وتطلعاتهم المستقبليَّة لبناء دولة عصريَّة وتأمين مُستقبلٍ زاهر لهم ولأولادهم.
وليس من شك أيضاً في أن الذين اتَّخذوا القرار باغتيال الحريري أو حرَّضوا على الجريمة أو شاركوا في تنفيذها، أو سعوا إلى طمس معالمها قد ندموا على فعلتهم، لأنهم أصيبوا بخيباتٍ أملٍ متتابعة كونهم لم يجنوا من فعلتهم سوى العار والخيبة لهم ولمن حولهم لما ألحقوه بلبنان والمنطقة من خراب ودمار؛ لأن اغتيال الحريري جاء في سياق مخطط شيطاني فتنوي تخريبي هادف إلى تغيير مُرتكزات الاستقرارِ في منطقة الشَّرق الأوسطِ برمَّتها. والشُّعور بالنَّدم ليس بعيداً عن الخُصوم السياسيين لرفيق الحريري الذين تعاملوا مع مَشروعه النهضوي من باب النِّكايات والمناكفات السِّياسيَّة، وهو ملازمٌ أيضاً لحُلفائه، أو من ادّعوا ذلك، والذين خذلوه بتعامُلِهِم معه من باب الابتزازِ المالي والمنافِع الشَّخصِيَّة.
وما من شك أيضاً في أن اغتيال الحريري جاء نتاج أحقادٍ دفينة ومكائد مُبيَّتة ودوافعَ شائنة ولأغراض خبيثة تُضمِرُ الشَّر، ليس فقد للحريري أو لطائفته، إنما للبنان ككيان. لقد تمخَّضَت النَّوايا الآثمة بمؤامرةِ حاكها ماكرون، شيمتهم الغدر، وميزاتهم أنهم بنصف كم ونصف لسان ونصف عقل، لا يفقهون السياسة بأبعادها الاستراتيجيَّة ولا بمقارباتها التَّكتيكيَّة، وهم بعيدين كل البُعد عن أدبيَّاتها الديمقراطيَّة. ولا أقصد بذلك المُنفذين الميدانيين، ولا أولئك الذين أدينوا بحكم المَحكمة الدَّوليَّة الجزائيَّة الخاصَّة، لأن هذه الجريمة أكبرُ من أن يُخطط لها وينفِّذها زمرٌ أو أفراد على مستوى لبنان، بل يقف خلفها مجرمون من الطراز الأول، مجرمون لديهم أدواتهم الميدانيَّة تنفذ توجيهاتهم وتعليماتهم، ويتخذون من العنف منهجاً لكم الأفواه والتَّخلُّص من الخصوم السياسيين ولتَحقيق مآربهم الإيديولوجيَّة وتوجهاتهم السياسيَّة.
لسنا بوارد نكئ الجراح إن قلنا أن جريمة اغتيال الحريري جرحاً لن يندمل بمرور الوقت، لا بالدَّعوة لتخطيها ووصفها بضرب زعرنة، ولا بتشكيل محكمة مقيَّدة الصَّلاحيات، ولا بالتَّنكر لمِصداقية إجراءاتها ولا بتجاهل قراراتها وأحكامها، وإن كان ثمَّة عيب فيها ينبغي الإشارةُ إليه، فيكمن باكتفائها بإدانةِ صغار المنفذين، وتجهيلها للمُجرمين الحقيقيين. إلَّا أن ما عجزت عنه المحكمة لم ولن يعب عن العدالة الإلهيَّةَ التي أخذت على عاتقها إحقاق الحقِّ، إذ ثمَّةَ ضالعون لقوا جزاءهم بمثل ما ارتكبوا، ومنهم من ينتظر، وربما وقع الانتظار عليهم أشدُّ إيلاماً من العِقاب بحدِّ ذاته.
رفيق الحريري كإنسان كان عرضة للموت، وهو سنَّة إلهيَّة، يتجرَّعه بوفاة طبيعيَّة كإصابته بأزمة قلبيَّة أو سكتة دماغيَّة أو بحادثٍ عرضي يحصل في أي مكان كسائر بني البشر، كأن تنزلق به قدم أو يتعرض لحادث سير وفي أي وقت يحين أجله؛ ولكن ليس من قبيل الصُّدفَةِ أن يجتبيه بارؤه شَهيداً في «سوليدير» تلك الدُّرة التي بناها على أنقاض رُكام الحرب في وسط مدينة بيروت التي أحبها وأحبَّته، عاصمة لبنان الذي أعاده لموقِعِه السياسي في صميم أمّته العربيَّة، وأعاد له دوره الوسطي على السَّاحتين الإقليميَّة والدَّوليَّة، وليس من قبيل الصُّدفة أن تتزامن ذكرى استشهاده سنويًّا مع مناسبة عيد الحب، كي يستذكِّره اللبنانيون في عيد المحبَّة ردًّا لجمائله عما قدَّمه للوطن ولكل اللبنانيين بعيداً عن أية اعتباراتٍ فئويَّة.
رفيق الحريري لو لم يمت شهيد الواجب لمات قهراً من أداء السياسيين الذين تبوؤا السُّلطة في آخر أيامه ومن بعده، ولإضاعتهم البوصلة السياسيَّة التي أفقدته هويته العربيَّة، وعزلته عن المجتمع الدَّولي، ولمات لحالة التَّفكك التي يشهدها لبنان واللبنانيين اليوم، بعد أن وحَّدَه وألغى خطوط التَّماس التي كانت تفرس اللبنانيين وأعاد لحمتهم ووحّد صفوفهم وألَّف بينهم، ولمات قهراً على حالة الانهيار الاقتصادي والمالي والنَّقدي التي وصل إليها لبنان بعد أن كان وضعه على مسار النمو والإزدهار في عهده، ولمات تحسُّراً على حالةِ الصُّروحِ الرياضيَّة التي أشادها والتي أمست خاوية من الروَّاد باستثناء الجرذان والصراصير بعد أن كانت تغصُّ بالنَّشاطات الرياضية والثقافية، ولمات بحادث سير جرَّاء حفرةٍ من الحفر التي تضيق بها الأوتوسترادات والطُّرقات التي شَقَّها ولكنها أبقيت من دون صيانة من بعده، ولمات جرفاً بالسيول التي تفيض على الطرقات عند كل زّخة مطر، ولمات غرقاً في سيارته أمام مبنى المطار الذي شيَّده ولم يزل يحمل اسمه أو تحت أي نفق من الأنفاق التي نفَّذها لعدم تعزيل مَصارف المياه بعد غيابه، ولمات اختناقاً من الروائح الكريهة المنبعثة من النِّفايات المتراكمة في المكبَّات العشوائيَّة وعلى الطُّرقات التي كانت تزهو بنظافتها في عهده، ولمات مسموماً من تلوث مياه الأنهار والينابيع بالمياه الآسنة، ولمات خوفاً وهو يتجول في وسط العاصمة الموحش لخلوه من السَّائحين واللبنانيين بعد أن خُربت جدران المباني وحطِّمت واجهات المحلات والمطاعم والمقاهي على أيادي أشرار حاقدين مخدَّرين، ولمات حزناً على اللبنانيين لما أصابهم من عوز وفقر بعد الرَّفاهية والبحبوحة اللتين عرفوهما طوال وجوده في السُّلطة رغم كل المحاولات التَّعطيليَّة التي واجهها، وأخيراً لمات محبطاً لرؤيته اللبنانيين متخاذلين في الدفاع عن حقوقهم، وخائري القوى مستسلمين لفقدهم الأمل بنُهوض بلدهم مجدَّداً نتيجة المُغامرات والخيارات غير المحسوبة النتائج.
رفيق الحريري لو لم يمت شهيداً أو حزناً على وطنه لمات تحسُّراً على ما آل إليه إرثه السياسي من بعده، إذ حال من انتقل إليهم الإرث ليس بأفضل حال مما عليه لبنان والأمَّة العربيَّة، حيث الفرقة سائدة، والافتقار إلى شخصيَّةٍ رياديَّة، والانكفاء عن مسرح الأحداث وعدم متابعة المُستجدات، وانعدام الرؤية المستقبليَّة. ولو قُيِّدَ للأمواتِ التَّواصُلِ مع الأحياء لَسمِعنا الشَّهيد يُصارحنا أنه ليس براضٍ عما يتخلل إحياء ذكرى استشهاده سنويًّا من بهرجات وهمروجات، وعُروضات فولكلوريَّة، وكان ليغفر لمن دعوا أنصاره للتجمع حول ضريحه في يوم ماطر، لو دعوهم للإستماع إلى خطاب سياسي مفصلي يتضمن مبادرةً سياسيَّة إنقاذيَّة في ظل التَّحديات المصيريَّة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والقضيَّة الفلسطينيَّة تجنّبهم مخاطرَ انعكاساتها السلبيَّة على لبنان؛ أما أن يقتصر الأمرُ على قراءة الفاتحة فهذا هراء واستخفاف بعقول الناس، والأخطر من ذلك أن يكون الغرض منه الإيحاء للقيادة السعودية أن الشيخ سعد لم يزل يمثل الطائفة السنيَّة لأنه ينطوي على سذاجة في التَّعاطي مع المملكة التي لم تبخل في احتضانها للبنان ولعائلة الشَّهيد رفيق الحريري.
يلقي بعض قُصَّار النَّظر باللوم على المملكة العربيَّة السُّعوديَّة ويحمِّلونها مسؤوليَّة حالة التَّردي التي وصل إليها لبنان عامَّة وحال الانهزاميَّة والإحباط التي ألمَّت بالطَّائفة السُّنيَّة فيه، عازين ذلك لانكفاء دورها أولاً وثانيًّا لإبعادها الشَّيخ سَعد الحريري عن ساحة المُعترك السِّياسي في لبنان، إن هذا القول مردود ويفتقر إلى العمق في التَّحليل، لأن القرار السُّعودي الذي قضى بإبعاد لبنان عن سياسة المحاور الإقليميَة أريد منه حماية لبنان كدولة ذات سيادة أولًا وتجنيبه الانزلاق في فتن فئوية قد تعود به لآتون الحرب الأهليَّة، كما حماية الطَّائفة السنيَّة من المزيد من الانكفاء والتَّعثر في ظل غياب قيادة سياسيَّة وازنة حكيمة وموزونة هذا من جهة، ومن جهة ثانية لحماية الشيخ سعد من تبعات مواقفه السياسيَّة المتقلبة، وحالة التَّخبُّط وانعدام التَّوازن التي ظهرت في خياراته غير المدروسة في السَّنوات الأخيرة، والتي جاءت كاستجابات لإملاءات المقرّبين منه ولرغبات المُحيطين به الذين كان همهم جمع الثروات وتحقيق مصالحهم الفئويَّة والشَخصيَّة والتي ألحقت أضراراً بليغةً بالطَّائفة السُّنيَّة فقوَّضت مكانتها وأفقدتها دورها الوطني، الأمر الذي انعكس سلباً على الاستقرارِ السياسي في لبنان نتيجة الإختلال في التَّوازنات الوطنيَّة القائمة.
لا خوف على تخليد ذكرى الشهيد رفيق الحريري لأنه خالدٌ في ضمير كل اللبنانيين، ولا خوف على الطَّائفة السنيَّة في لبنان لأنها متجذِّرة فيه كما في مُحيطها العربي ومليئة بأصحاب الكفاءة، إنما الخوف الحقيقي على الإرث السياسي الذي خلَّفه الشهيد جرَّاء القصور في أداء من حملوا الراية من بعده؛ ولأن الزَّعيم لا يرثه إلَّا زعيم، يتمتع بخصال يزيّنها بُعد البصيرة والنَّظرة الثاقبة والحكمة والرجولة والشجاعة والصَّبر وسعة الإطلاع وحسن التَّصرُّف وسرعة البديهة، ويقوضُها التَّسرع في الحكم على الأمور والتهور والخيارات الخاطئة والمقاربات المُتسرعة كما التَّردد في اتخاذ القرار وعدم الثبات في المواقف والخفَّة في التَّحليل والولدنات والخزعبلات وتفويت الفرص وكثرة الأخطاء...
والحفاظ على إرث الشهيد الحريري متروك لعائلته الكريمة التي أضحى لزاماً عليها تخصيص اجتماع عائلي ضيق ومغلق، يخصص للتَّدارس بأفضل السُّبل الكفيلة بمتابعة مسيرةِ الشَّهيد، واختيار شخصية وازنة من بينهم، جديرة ومستعدَّة لتَحمُّل هذا الوزر، وإن كان الشَّيخ سعد لم تزل تحدوه الرغبة للقيام بهذا الدَّور، رغم كل الانتكاسات التي مُني بها، فلا بد له من تغيير طاقمه السياسي ومساعديه ومستشاريه الذين أوصلوه إلى ما هو عليه اليوم من إحباط دفعه إلى الاعتكاف عن العمل السياسي، ذلك أن التَّغيير في الشَّكل لا ينفع إنما التغيير الحقيقي يكون في الجوهر والمضمون، وعندها سيكون اللبنانيون المخلصون للبنان جميعهم من حوله.

* عميد متقاعد