بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 كانون الثاني 2024 12:00ص موسم الهجرة العكسية من كندا!

حجم الخط
بدأ طموح المهاجرين إلى كندا بتحقيق حلم كبير يتحوّل إلى صدمة وخيبة أمل مريرة، وصراع من أجل البقاء، بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، وصعوبة تأمين السكن، ونقص الخدمات وعلى رأسها الرعاية الصحية.
كان رئيس الوزراء جاستن ترودو قد جعل من تسهيل الهجرة إلى كندا سلاحه الرئيسي لتخفيف التحدي الكبير الذي تواجهه والمتمثل في تباطؤ نمو عدد السكان، وارتفاع نسبة الشيخوخة، ونقص اليد العاملة، وضعف النمو الاقتصادي.
لكن السحر انقلب على الساحر، فالبيانات الرسمية تُظهر أنه في الأشهر الستة الأولى من عام 2023 غادر حوالي 42 ألف شخص كندا، إضافة إلى 93818 شخصاً غادروا في عام 2022، و85927 شخصاً غادروا في عام 2021، وبذلك بلغ معدل المهاجرين الذين يُغادرون كندا أعلى مستوى له منذ عقدين في عام 2019، وفقاً لتقرير حديث صادر عن معهد المواطنة الكندية Institute for Canadian Citizenship ICC.
وتُظهر بيانات هيئة الإحصاء الكندية (Stat Can) أن الهجرة العكسية في الربع الثالث من عام 2023، ارتفعت إلى مستوى مرتفع بشكل غير عادي بنسبة 3% لتصل إلى 32026 شخصاً، وهو رقم فلكي.
وقد قارب عدد المغادرين سنوياً رُبع عدد الوافدين تقريباً، أي أن الحكومة تخسر ما يُقارب من مليار دولار كندي أنفقتها كي تأتي بأولئك الذين غادروا، وتخسر أيضاً فرصة إقناعهم للبقاء وللإنتاج.
وكانت نسبة المهاجرين من إجمالي سكان كندا بلغت 0.2% في منتصف التسعينيات، وتبلغ حالياً حوالي 0.09%، وفقاً للبيانات الحكومية الرسمية.
بالنسبة لدولة مبنية على المهاجرين، فإن الاتجاه المتزايد لمغادرة كندا يهدد بتقويض إحدى السياسات الرئيسية لحكومة ترودو، والتي منحت الإقامة الدائمة لعدد قياسي يبلغ 2.5 مليون شخص في ثماني سنوات فقط.
ما هي أسباب الهجرة المعاكسة؟
باختصار وإيجاز على قدر الإمكان:
لا يُمكنك العمل في كندا في مجال تخصصك بسبب الحاجة إلى معادلة شهادتك وقبولها، وبسبب المطالبة بأن يكون لديك خبرة مُسبقة في سوق العمل الكندي حصراً، وهو ما يُعرف بعقبة الـ Canadian experience، وليس سهلاً إتاحة الفرصة للمُستجدين، مما يترك لك المجال فقط للعمل في المطاعم والمقاهي والمتاجر والسوبرماركت والمستودعات ومحطات البنزين، والأعمال التي تحتاج إلى مجهود عضلي.
يختلف الحد الأدنى للأجور بين المقاطعات الكندية، وهو يتراوح بين 15.25 دولاراً كندياً و16.65 دولاراً في الساعة، يُقتطع منه نسبة كبيرة من الضرائب. وفي كندا فإن الضرائب تصاعدية، وقد تصل إلى نسبة 50% للعائلة التي يزيد دخلها عن ١٥٠ آلف دولاراً كندياً سنوياً.
لكن حتى في حالة راتب الحد الأدنى فيذهب أكثر من 30% منه (إلى 50%)، لدفع الإيجارات السكنية المرتفعة للغاية، ويُعتبر التشرّد هاجس مستشرٍ يؤرّق أصحاب الدخل المنخفض في المدن الكبرى. وفي المتوسط، هناك حاجة إلى حوالي 60% من دخل الأسرة في كندا لتغطية تكاليف ملكية المنازل، وهو رقم يرتفع إلى حوالي 98% في فانكوفر و80% في تورونتو، حسبما ذكر تقرير رويال بنك أوف كندا Royal Bank of Canada RBC في تقرير في أيلول 2023.
طبعاً، هناك أيضاً تكلفة الكهرباء والماء والتدفئة والهاتف والمواصلات (شراء السيارة ومستلزماتها وبوليصة التأمين مُكلف للغاية)، ناهيك عن الاحتياجات الشخصية من ملبس ومأكل وخلافه، وقد سببت الزيادة العالية في تكاليف المعيشة صعوبة في توفير الضروريات الأساسية.
وبالنسبة للمتقاعدين فهناك من لا يستطيع أن يرى نفسه يُحافظ على مستوى معيشته في كندا من دخل تقاعده. كما أن عدداً من المهاجرين الذين عجزوا عن العمل في السوق الكندي بسبب عائق الخبرة الكندية، يجدون أنفسهم يعيشون دون راتب تقاعدي، أو يعيشون على الحد الأدنى تماماً، وهو بالكاد يكفي لإيجار غرفة، ناهيك عن تأمين لقمة طيبة أو حياة كريمة.
أما المساعدات الاجتماعية فدون ذلك إجراءات وصعوبات، أو سلسلة لا تنتهي من التلاعب والقصص المكذوبة للحصول على المساعدة الشهرية... وفي النهاية هي لا تُسمن ولا تُغني عن جوع!
وهناك أيضاً مشكلة النظام الصحي السيئ، حيث فترات الانتظار تمتد إلى أسابيع وأشهر أحياناً للحصول على الخدمة الطبية، وحيث يستلزم التحويل إلى اخصائي أن يكون لديك طبيب عائلة Family Doctor يحتفظ بسجلاتك ويقوم بتحويلك إلى الأطباء المختصين وطلب الفحوصات المخبرية وفحوصات الأشعة اللازمة وغيرها. ويتطلب الأمر سنوات أحياناً لكي يُصار إلى تعيين طبيب عائلة لك. لذلك ترى العديد من الأشخاص يُغادرون كندا للعلاج خارجها لخطورة وضعهم وعدم قدرتهم على الانتظار.
وهناك مشاكل أخرى تتعلق بالمناهج التربوية وإدخال مفاهيم تتعلق بالجنس وبالمثلية وغيرها مما ترفضه ولا تتقبله المجتمعات الإسلامية والعربية، حيث يرتبط غالبا سؤال الهوية مع تحدّي تربية الأبناء بشكل رئيسي، خاصة إن كانت هناك تقاليد وأعراف وفوارق دينية وثقافية وقيمية كبيرة بين البلدان الأصلية للمهاجرين وبلدان المهجر، وكذلك مشكلة تعلّم الأولاد للغة الأم.
وهناك مشاكل تتعلق بصعوبة التأكّد من الأصناف الاستهلاكية المعروضة في السوق فيما إذا كانت حلالاً أم لا. كذلك هناك مشكلة الحظر والتضييق على لبس الحجاب، وغيرها من الأمور التي تهم المسلمين.
وهناك مشكلة تتعلق بالتأقلم مع المناخ القاسي والكآبة التي يسببها، ومشكلة القلق وضغوط الحياة، وعدم وجود عائلة أو سند أو دعم من حولك.
أيضاً فإن ارتفاع تكاليف السفر يجعل صعباً (وللبعض مستحيلاً) السفر لزيارة عائلاتهم في بلد المنشأ للاطمئنان عليهم أو المشاركة في أفراحهم وأتراحهم، والاكتفاء بالتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
كما أن الأمور الإجرائية تتم ببطء شديد. إن معاناة الحصول على رخصة قيادة سيارة لا توصف، سواء تعلّمت القيادة في كندا أو رغبت في استبدال رخصة القيادة التي تحملها من بلدك. مثال آخر، بعد استكمالك لشروط الحصول على الجنسية عليك أن تنتظر فترة طويلة لتعيين موعد في المحكمة لإصدار حكم بمنحك الجنسية الكندية، وبعدها الانتظار فترة طويلة أخرى للحصول على جواز السفر الكندي.
وهناك مشاكل خاصة وفقاً للمقاطعات الكندية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، في مقاطعة كيبيك هناك مشكلة التضييق على استعمال اللغة الإنجليزية (خلافاً للدستور الكندي)، ومشكلة التمييز العنصري تجاه «الأغراب». أضف إليها مشكلة فرض نظم قيم مختلفة بين الحين والآخر لإجبار الوافد على اعتناق نظام قيم جديد حتى قبل وصوله، أو عند التقدم للاستفادة من خدمات معينة.
ويزيد الطين بلّة، أنه ليس مطروحاً في المنظور القريب أي خطط جدّية حكومية (لا على صعيد المقاطعة ولا على الصعيد الفيدرالي) لمعالجة هذه المشاكل والصعوبات!
لقد أصبح من المعتاد أن الأشخاص الذين لديهم خيارات أخرى، إما أن يذهبوا إلى بلد آخر أو يعودون إلى ديارهم بعد أن فشلوا في التأقلم مع الوضع في كندا، ومن هنا نرى ازدياد موجة الهجرة المعاكسة من كندا.