بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 أيار 2023 12:10ص هل يخضع سلامة لمحاكمة عادلة؟

حجم الخط
كانت قاضية التحقيق الفرنسية أود بوروزي، التي ستحال الى التقاعد نهاية أيار الجاري، استدعت سلامة للمثول أمامها في 16 أيار في باريس، في جلسة تغيّب عنها سلامة نتيجة عدم تبلّغه وفقاً للأصول. وبالتالي، لم يكن من حق القاضية الأجنبية أن تصدر قراراً بالتوقيف، دون توفّر أسباب واقعية ومادية تحملها على إصدار مثل هكذا قرار، ولم يكن كافياً قولها بأنّ هذه الأسباب متوفّرة، بل كان يجب أن يكون هنالك مظاهر مادية ملموسة للتوقيف، كما كان يشترط بألّا توجد وسيلة أخرى أمامها لتحقيق مصلحة التحقيق إلّا التوقيف. وبالتالي، فإنّ القاضي الملتزم المعايير القانونية الدولية المعتمدة للتوقيف، لا يوقّف أي مدعى عليه إلا ليحافظ على أدلّة الإثبات أو المعالم المادية للجريمة، بحيث يكون المقصود هو تجنّب إزالتها أو تخريبها أو تشويهها؛ ولا يوقّف أيضاً إلا للحيلولة بين المدعى عليه وبين ممارسة الإكراه على الشهود أو على المجني عليهم وتهديدهم حتى لا يدلوا الشهادة ضدّه؛ أو لمنع المدعى عليه من إجراء أي اتصال بشركائه في الجريمة أو المتدخلين فيها أو المحرضين عليها؛ أو لوضع حدّ لمفعول الجريمة أو الرغبة في اتقاء تجدّدها؛ أو منع المدعى عليه من الهرب؛ كما يشترط أن تكون المبررات لها وجود حقيقي ومادي في الواقع، وأن يكون التوقيف هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق مصلحة التحقيق في ضوء المبرّرات المذكورة آنفاً، ولا يكون أمام التحقيق أية وسيلة أخرى لهذا الغرض، الأمر الذي خالفته القاضية بوروزي في قرار توقيف الحاكم. كما يجب على قاضي التحقيق أن يستطلع رأي النيابة العامة قبل أن يصدر قرار التوقيف، وأن يستمع لرأيها بالنسبة لتوفّر مبرّراته.
وطالما أن الحاكم سلامة لم يبلّغ أصولاً، وممثلاً بمحاميه الفرنسي الذي أكّد ذلك، فكيف تمّ اعتباره متوارياً عن الأنظار وصدر قرار توقيف غيابي بحقّه؟ ولماذا لم يكن معلّلاً بشكل كافٍ أي لم تبيّن فيه مبرّرات حقيقية للتوقيف؟ وكيف زُعم بأنّ الحاكم تبلّغ ورقة الدعوة لحضور الجلسة، رغم عدم وجود محاضر رسمية منظمة تُثبت ذلك، كمحاضر منظمة من الضابطة العدلية التي سعت لإبلاغه؟
كما أن التوقيف يشكل بامتياز خرقا لأبسط القوانين، كون القاضية بوروزي لم تراع المهل القانونية المنصوص عليها في القانون الفرنسي، رغم تبلغها وتيقنها من ذلك؛ كما تجاهلت القاضية تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لعام 2003 والإجراءات المعترف بها دولياً. والحمد للّه أنّ لدينا قضاء لبناني مستقل، ولديه سيادة قضائية، وبالتالي ليس بحاجة لوصي قضائي أجنبي عليه، ولتوجيهات أوروبية تنزع منه ملفات التحقيق التي يراها الغرب مفيدة لسياساته، ومحققة لمصالحه، التي تتعارض في أغلب الأحوال مع المصلحة الوطنية. كما أنه من البديهي أنه لا يجوز مطالبة الدولة اللبنانية بتسليم الحاكم في حين أن هنالك تحقيقاً مفتوحاً في لبنان حول نفس الملف، والقضاء اللبناني هو دائماً الأولى بالمحاكمة في نطاق صلاحية الشريعة اللبنانية الإقليمية والذاتية والشخصية، بالاستناد إلى أحكام المادة 32 من قانون العقوبات. وتكريساً لوجوب الحفاظ على السيادة الوطنية، ها هي تجربة دولة القاضية بوروزي الفرنسية مع اتفاقية ماسترخت 2 عام 1993، شاهدة على ذلك، حيث قرّر المجلس الدستوري الفرنسي عدم جوازية تصديق الاتفاقية كونها تتضمّن نصاً مخالفاً لدستور الجمهورية الرابعة. مشدّدين على مسألة أنّ السيادة هي من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها بنيان القانون الدولي العام، كذلك هي الركن الأساسي للقانون الدستوري، وعلى هذا الركن تعتمد الدول التي خرجت من الاستعمار، خصوصاً في مجال تعاملها مع الغير. وإزاء هذا الوضع، أكّد الفقيه الدستوري الدكتور إدمون رباط أنّ «السيادة هي واحدة ومطلقة بالنسبة إلى سلطة الدولة». وإن كان للأسف الدول الغير مصنّفة بالكبرى، أو الفاعلة على المسرح الدولي، غالباً ما يشتدّ عليها الخناق للتنازل عن سيادتها الوطنية، وتتعسّف الدول العظمى في اعتماد نظام دولي يُسائلها عند أي تمرّد يحصل عليها.
كما أنّ إصدار مذكرة توقيف غيابية بحق سلامة، دونما وجود محاضر رسمية للتبليغ، يؤكّد بأنّ التحقيق الأجنبي برمّته مسيّس، وقد يكون رغبةً بالانتقام منه من قبل خصومه السياسيين، لا سيما أولئك المتواجدين في الدولة الفرنسية. وما يؤكّد هذه النظريّة، أنّ التحقيق الفرنسي الذي يجب ككل تحقيق أن يكون سرياً، سُرّبت جميع محاضره للإعلام الفرنسي والأجنبي، لا سيما لوكالة الأنباء «رويترز» التي بدا بأنها كانت تعلم مُسبقاً بنوايا المحققين والقضاة الفرنسيين، وبأنهم كانوا يعاكسون قرينة البراءة قبل المحاكمة، لا بل حتى قبل حصول أي استجواب، ويعطون آراءهم المسبقة دونما إعطاء أي قيمة للمستندات التي كان يقدّمها محامي الحاكم. كما أنّ ما يدعم هذا التوجه، أن الغرب كان يشيد سابقاً بسلامة، حيث قَلّده جائزة أفضل حاكم مصرفي عام 1996، ووسام جوقة الشرف من رتبة فارس من رئيس القاضية بوروزي الراحل، الرئيس جاك شيراك عام 1998، وجائزة أفضل حاكم مركزي عام 2003، كما كرّمه الأميركيون بجعله يقرع جرس مداولات بورصة نُيويورك عام 2009، ومنحته الجمهورية الفرنسية أيضاً وسام ضابط أكبر عام 2010. فكيف تحوّل أفضل حاكم مركزي باعتراف دولة فرنسا لرجل لا يتمهّل القضاء الفرنسي عليه ليحضر المحاكمات، ويتحجّج بذرائع واهية أنه سيهرب من التحقيقات، فيُسارع لإصدار مذكرات توقيف غيابية عليه؟ لا بل يُصار إلى تدخل القضاء الفرنسي بمسألة تعيين محامين فرنسيين عن دولة أخرى، هي الدولة اللبنانية، وكل ذلك للمسارعة إلى توقيف سلامة، وعدم إخضاعه للمحاكمة العادلة.
أنا لا أقول بالطبع أنّ الحاكم بريء أو مدان، ولكنني أقول أنّ العدل أساس الملك، وأنّ المرء يجب أن يخضع لمحاكمة عادلة، وهذا حق مكرّس له في الدستور اللبناني والمواثيق والاتفاقيات الدولية والإعلانات العالمية، وبأن دولة المرء يجب أن تحميه من كيد الآخرين. كما أن القضاء يجب أن ينشر العدالة ويشترك في تحويل مسارات الأنظمة القمعية ويعمّق مفاهيم الحقوق ويحافظ على الحريات. وبالتالي، على القاضي أن يحترم مبدأ قرينة البراءة حتى تثبت الإدانة، وألا يسوق الأحكام المسبقة على الآخرين، لا سيما جُزافياً، لكي يبعث الطمأنينة للمجتمع والمواطن الذي يخشى دوماً من تعسّف السلطة. ولذلك، نحمد الله أن سلطتنا القضائية اللبنانية تراعي هذه المعايير، وتحترم القانون وتحافظ على الحريات وحقوق الإنسان، وهي الضابط الرادع لكل تعدّ على حقوق المستضعفين، لا سيما مواطنيها، وهي الأجدر بأن تحاكم سلامة. ولذلك كان رولان دوماس يقول لا يستقيم العدل إلا إذا وقف إنسان حرّ إلى جانب كل متقاضٍ، فكيف إذا كان القاضي اللبناني الشريف الشجاع القادر على تحقيق العدالة وإنصاف كل بريء وإدانة كل مجرم.