بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 تشرين الأول 2022 08:08ص وهل من ظلم أفظع من أن ينصَّب قضاة كشهود زور على طمس الجرائم وإبقاء العدالة محظورة!

حجم الخط
أن يُعلن رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود أنه لن يحضر جلسة المجلسِ المقرَّرةِ والتي دعا معالي وزير العدل القاضي هنري الخوري بتاريخ 5/10/2022 لعقدها بتاريخ 11/10/2022، لأمرٌ مُستغربٌ، ولكن فيما لو عُرف السَّببُ بطُلَ العجب؛ وبغيةَ الوقوفِ على السَّببِ لا بدَّ من العودةِ إلى المواضيعِ المُفترضِ التَّداولِ بها في الجَلسة؛ ويسُتخلص ذلكَ من جدول الأعمالِ الذي حَصَره مَعاليهِ ببندين وحيدين: الأول البت بمسألةِ تعيين رؤساء الغرفِ لدى محكمة التمييز، والثاني يتعلَّق باتِّخاذ موقفٍ بالتَّصويت سلباً أو إيجاباً في ما خصَّ اسم القاضي المُقترَحِ انتدابُهُ في قَضِيَّةِ انفجارِ مرفأ بيروت. وسبق لوزيرِ العدل أن بيَّن سببَ دعوتِهِ هذه، والتي جاءت استِجابةً لرغبةِ أهالي ضحايا وموقوفي تفجيرِ المرفأ، واستِكمالاً لاستردادِهِ مرسومَ التَّشكيلاتِ القَضائيَّةِ التي سَبقَ وأرسَلَهُ لوزارَةِ المالِيَّةِ بتاريخِ 25/7/2022. بدورِهِ رئيسُ مجلِسِ القضاء الأعلى أصدرَ بياناً أوضحَ فيه سبب عدم مُشاركتِه في الجلسةِ المُشارِ إليها، وقد استَهلَّهُ بعِبارة «إزاء ما يَتعرَّضُ له القَضاءُ والقُضاةُ ومَجلِسُ القَضاءِ الأعلى ورئيسِهِ من مُحاولاتِ تَدَخُّلٍ سِياسِي سافِرٍ في العَملِ والأداءِ القَضائيين...».
ليس بخافٍ على أحد أن كلي البندين اللذين حصر معاليه جدول أعمال المجلِسِ بهما ينطويانِ على إشكاليَّةٍ سياسِيَّة، تُحاولُ جهاتٌ سياسيَّةٌ حلَّها على حِسابِ هيبةِ وسِمعةِ القضاء والثِّقةِ به، ولكُلِّ من تلك الجهاتِ غَرَضَهُ ومراميهِ غَيرِ البَريئةِ، وتُشكِّلُ تدخُّلاً سافِرٍ بعملِ الجهازِ القضائي ولو بصورةٍ غيرٍ مُباشِرَة. بحيثُ أن الغِرضَ غيرُ المُعلَنِ من إقراِرِ القرارِ الأولِ هو شَلُّ المُحقِّقِ العَدلي في قَضِيَّةِ انفِجارِ المرفأ وخاصَّةً أنه سبق للمجلِسِ أن اتَّخذ قراره في تعيين رؤساءِ الغُرَفِ لدى مَحكمَةِ التَّمييز، أما الغرضُ من الثاني، فهو تمريرُ قراراتٍ وإخلاءاتِ سبيلٍ سبق وقُدِّمت طلباتٌ بهذا الخصوصِ للمُحقِّق العدلي ولم يُلَبيها.
ثمَّةَ تبايُنٌ في المواقِفِ داخِلَ المجتمع اللبناني وخاصَّةً الطَّبقةِ السِّياسيَّةِ من أداءِ المُحقِّق العدلي الحالي طارق البيطار والسَّابق أي فادي صوَّان وبخاصَّةٍ لجِهةِ صلاحيَتِه في استجوابِ الرؤساء والوزراء بصفةِ مدَّعى عليهم، ويُعزى هذا التَّبايُنُ لأسبابٍ إنسانيَّةٍ وعاطِفيَّة، إذ ذوي الضَّحايا وعامَّةُ النَّاسِ المُتعاطفين منهم (وأنا من بينهم بصفتي الإنسانيَّة) مع ملاحقةِ جميعِ الضَّالعينَ في هذه الكارثةِ الإجراميَّةِ التي تحمِلُ في طيَّاتِها الكثيرَ من الأفعالِ الجُرمِيَّة القصديَّةِ وغيرِ القصديَّة وفقَ معاييرَ واحِدةٍ، وأن يوكلَ البتُّ بها لمرجعٍ قضائيٍّ واحِدٍ وهو المجلس العدلي، وآخرونَ أقل ما يقالُ فيهم أنهم غير راضينَ عن هذا التَّوجُّهِ وممانعون له، وثمَّةَ تبايُنٌ آخرُ في المواقِفِ مبني على خلفيَّةٍ دستوريَّةٍ، يؤيِّدُ الفريقُ الأولُ منهم ما انتهجهُ المحققين العدليين، أمَّا الفريقُ الآخرُ فيقولُ بأن هذا التَّوجُّهُ أو السُّلوك ينطوي على مخالفةٍ صريحةٍ لمنطوق المادتين 60 و70 من الدستور، وأنا استناداً لخلفيَّتي القانونيَّة، ممن يأخُذُ بهذا الرأي حيثُ لا يجوزُ التَّفسيرُ والتأويلُ عند وضوحِ النَّصِ، ووفقاً لهذا الرأي يكون المجلِسُ الأعلى لمُحاكمةِ الرؤساء والوزراءِ هو المرجع الصالِحُ حصراً لمحاكمةِ الرؤساء والوزراء.
لقد سبق لي وأبديتُ موقِفاً واضحاً وصريحاً بهذا الخصوص، وقد حذَّرتُ أكثرَ من مرَّةٍ، من مغبَّةَ إصرارِ البعضِ على أن صلاحيات المُحقِّقِ العدلي تُتيحُ له استجواب الرؤساءِ والوزراء بصفةِ مدعى عليهم وذلك للأسباب التي بيَّنتُها، وطرحتُ حلاً دستوريَّاً يقضي بإصدار تعديل دستوري يحصرُ صلاحيةَ الفصل بقضيَّةِ انفجار مرفأ بيروت بالمجلسِ العدلي، وكان ذلك ممكناً في بدايةِ الأمر، أما اليومَ فأضحى صعباً أو شبه مُستحيل في ظِلِّ انعدامِ الثِّقة المُتبادلِ ما بين المحقق العدلي والسِّياسيين المتهمين ومرجعيَّاتهم، وتشوُّهِ حياديَّةِ القضاءِ وبعضِ القُضاةِ نتيجةَ الأداءِ المتخبِّطِ الذي شَهِدناهُ ونشهَدُهُ في السَّنواتِ الأخيرَةِ، والتي لم يعرِفَ اللبنانيون على شاكِلَتِها وبهُبوطِها منذ نشأةِ لبنان. 
إن المُراقبَ لقرارِ رئيسَ مجلِسِ القضاءِ الأعلى بالامتناعِ عن حضور إحدى جلساتِ المجلسِ يستشِفُّ أنه ما كان له أن يقدمَ على ذلك لو لم يكن يرى أن ثمَّةَ محاولةٌ لتمرير ما لا يرغبَ به، أو لما لا يتوافقُ مع قناعاتِه، وأن حُضورهُ سيكون بمثابةِ تَغطِيَةٍ لما يُنوى تمريرُهُ. وربَّما يقولُ قائلٌ أنه تهرُّباً من مسؤوليَّة، إذ أحرى به أن يحضرَ ويتصدَّى لمحاولةِ ذلك، باتِّباع الأصولِ الدِّيقراطيَّة، وبسلوكٍ إيجابيٍّ لا سلبي، وإن كان السُّلوكُ السَّلبي أي الامتناع ينطوي على إيجابيَّاتٍ كبرى في أحيانٍ كثيرة. وعلى المستوى الشَّخصي إني أعتبرُ محاولةَ تعيينِ قاضٍ بديل للمُحقِّقِ العدلي لهي سابقةٌ غير قانونيَّة، بالإضافةِ إلى أنها تنطوي على مَخاطِرَ جسيمة، وأخطرُ ما فيها جعلُ المُحقّقِ العدلي عُرضةً لاستهدافٍ أمني وسياسي وربما قضائي، ونحرٌ للعدالَة؛ وعجباً لمن يخشون قراراتِ مُحقِّقٍ عدلي سيعادُ النَّظرُ فيها فور وضعِ المجلسِ العدلي يده على القَّضيَّة، وكيف للمعرقلين أن يستمروا بتعطيلهم لإجراءات التَّحقيق، في الوقتِ الذي يُحجمون فيه عن السير بإجراءاتٍ بديلة وفق ما ينصُّ عليه الدستور.
إن إعلانَ رئيسِ مجلسِ القضاءِ الأعلى عن عدمِ رغبتِه في حضورِ جلسةٍ للمجلِسِ الذي يرأسه، تُشكِّلُ بحدِّ ذاتِها انتفاضةً قضائيَّة على الذَّاتِ أولاً وعلى السِّياسيينَ الذين يُمعنونَ التَّدخُّلَ في الجِهازِ القضائي، وقد ألمَحَ الرئيسُ المُنتفِضُ عن ذلكَ ولو بالإيماء إذ ذكرَ في إعلانِه «كان لا بدَّ من الخروج عن الصمت بقصد توضيح المقتضى...». والسُّؤالُ الذي يطرحُ ذاتهُ على ضوءِ هذا الموقِفِ، لما تأخَّرَ الرَّئيسُ إلى هذا الوقت؟ ألم يكن من الأجدى به وبباقي أعضاءِ مجلِس القضاءِ الأعلى الإنتفاض على ذواتِهم أولاً وفي وجهِ السُّلطةِ السِّياسيَّةِ بكُلِّ مُكوناتِها؟ وهل ما يزالُ مثل هذا الموقِفِ ينفعُ بعد خرابِ البصرةِ كما يُقول المثل؟؟؟ ألم يكن جديراً بمجلِس القضاء الأعلى الإعراب عن موقِفٍ مُناسِب قبل كل ما حَصلَ من تشويهٍ لأداءِ الجِهاز القضائي؟ وكم كان ذلك لجميلاً لو حصلَ قبلَ رفعِ المتاريسِ القَضائيَّةِ بين بعضٍ من القُضاةِ؟ وليتَهم أقاموا متاريسَ مانِعَةٍ من التَّدخُّلاتِ بينَ القُضاةِ بكُلِّيَّتِهم وبين السِّياسيين برمَّتِهم؟ لصانوا سِمعتَهم وهيبةَ الجِهازِ القضائيٍّ الذي لا سلطانَ عليه بمعرضِ إحقاق الحقِّ سوى سُلطانِ القانون!!!! ولكم كان ذلك مُجدياً لو حصلَ قبلَ تفجُّرَ ظاهِرَةِ نادي القُضاةِ كهيئةٍ معنويَّةٍ رديفةٍ لمَجلِس القَضاءِ الأعلى أو كمجموعَةِ ضغطٍ مَعنوي على هذا المجلسِ، والذي لا نرى موجِباً له لولا شعورُ عددٍ من القضاةِ أن ما آل إليه الجِهازِ الذي ينتمون إليه لم يعد يُبشِّرُ بالخير، وأنه لا بدَّ من التَّعبيرِ عن ذلك بصورةٍ جماعيَّةٍ لا إفراديَّة.
إن الجِهازَ القضائيَّ كما الأجهزةُ العسكريَّةُ والأمنيَّةُ ينبغي أن تكون بمنأى عن كُلِّ الشُّبهات، ومنزَّهةً عن كُلِّ ما يُشوِّهُ حيادها وحيادِ العاملينَ فيها، وأخطرُ الشُّبهاتِ التي تشوِّهُ صورتها لدى الرأي العام هي التَّلونُ السِّياسي، لأنَّ أيَّةَ صبغةٍ سَياسيَّةٍ أو مَرجعيَّةٍ للجهازِ أو لأيٍّ من العاملين فيه تُلطِّخُ صورته، وتقوِّضُ ثقةَ الناسِ به، ومن هنا كانت مطالباتُنا الدَّائمةُ بإبعادِ مَظاهِرِ التَّلوثِ السِّياسي عن هذه الأجهزة بالتَّحديد، كما عن عمومِ القطاعِ العام في الدَّولة.
...يتبع...