بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 نيسان 2018 12:04ص لكي نقرأ الفن المعاصر قراءة بصرية ناضجة 1/3

حجم الخط
رفض القديس فرنسيس الأسيزي الالتحاق بالذاهبين إلى الحرب الصليبية في مملكة القدس.. فقد جذبته الطبيعة الام إلى حضنها. وصار ابناً من أبنائها الذين يمجدون جمالها وابداعها الأزلي. وقد شكل تياره المسيحي الجديد تياراً مغايراً لكل ما في الكنيسة الكاثوليكية من تقاليد و(ليتورجيا).. الأمر الذي دفع بابا الفاتيكان إلى الإعتراف بنقاء وطهارة دعوته.
هذه الحركة التي كانت بمثابة ثورة على الثقافة السائدة آنذاك، كان لا بدّ وان تؤثر على الثقافة والفن منذ عام 1100 ميلادية. حيث بدأت مقدمات الوعي الجمالي تتبلور عبر كل ما هو (حسي) حتى غدت الأحاسيس مقدمة للمعرفة. أو على حدّ قول الشاعر الفرنسي الكبير (اندريه جيد): كل معرفة لم يسبقها إحساس بها لا تجديني).
ولكن هذا الاتجاه الحسي الجديد ينهض على رؤى نورانية يلعب النور فيها دوره الأكبر. بل انه سوف يغدو أساس الحالة التصويرية وموضوعها. لذلك قيل بان المشهد في اللوحة هو الذي يتقدّم على أي شكل في الرسم. أو بالاحرى أي موضوع من موضوعات اللوحة.
ان القبض على اللحظة الهاربة في الطبيعة وتثبيتها كحقيقة أزلية على المسطح التصويري، كان اسلوباً لجأ إليه العديد من الرسامين الذين اشتغلوا خارج محترفاتهم. ولقد كان «فنسنت فان كوخ» أحد قناصي اللحظة الطبيعية الهاربة. كان يحمل معداته التصويرية للرسم ويخرج إلى الحقول وسط الريح العاصفة، يرسم قوة حركة الريح. ويلتقط وثبة الغربان الطائرة، وحركة السنابل المتماوجة. وهذا الاتجاه الحسي هو الذي جعل منه فناناً يعرف كثافة اللون وحركته حتى تبلور فيما بعد كتيار وحشي.
ندرك ان الحس كمقدمة مسيطرة على العمل صار هو الهاجس الذي تستقبله العين كاول عنصر من عناصر الإستقبال. لذلك نرى العديد من الفنانين يركزون على موضوع الرؤيا المباشرة. ولكن هذه العين التأثيرية (الانطباعية) سوف تمتلك مقدرة فذة على فرز وقراءة الألوان ولذلك ارتبطت الحركة الانطباعية بالمسألة اللونية ارتباطاً عضوياً يستحيل ان نطالع عملاً من الأعمال الانطباعية دون ان نطالع اللون قبل التأليف العام.
مع ذلك لا بدّ من الرجوع إلى الظهور الأوّل للكلمة (انطباعية) إذ يرى الباحث (موريس سيرولا): بان استعمال كلمة انطباعية يعود إلى صحافي اسمه (لويس موروا)... ففي 25 نيسان عام 1874 كتب مقالاً في جريدة (الضوضاء) عنوانه (معرض الانطباعيين) لمناسبة الاحتفال الذي اقامته الشركة التعاونية للرسامين والنحاتين والحفارين، في قاعات محترف المصور الفوتوغرافي (نادار).. وكان هذا الصحافي قد تأثر بلوحة معروضة تحمل اسم (انطباع عن الشمس الطالعة) وفيها مرفأ (الهافر) غارقاً في ضباب صباحي...).
ندرك من ذلك ان كلمة انطباع أو انطباعية وردت منذ ما قبل منتصف القرن التاسع عشر... لكن الفنانين الانطباعيين كانوا موجودين قبل هذا التأريخ. أي منذ العصر (الباروكي) وهو العصر الذي كثرت فيه التفاصيل والزخرفة.. وقد كانت اللمسة الرومانسية أساس المساحات التي يسيطر عليها اللون والضوء. وكانوا أسياد التلوين المدهش. وها هو الفنان الأميركي (واشنطن الستون) 1779 - 1843 يرسم لوحته الشهيرة عام 1904 وهي تحمل إسم (منظر على بحيرة) مسقطاً القواعد الأكاديمية للرسم. ومركزاً على العلاقة الضوئية بين ألق البحيرة وصفاء السماء إلى جانب عتمة الأخضر الشجري. حيث هذا التناقض (الكونتراستي) يخلق الانطباع الأوّل حول الطبيعة.
لكن (أدوار مانيه) 1832 - 1883 - سوف يقتنص البؤر النورانية عبر اشخاصه المتنافرين وسط الغابة الجميلة. فهو في لحظاته الهاربة عام 1863 يرسم تلك اللوحة التي صارت اساساً للوعي الانطباعي السائد في ذلك الحين.
اما لوحة (فنسنت فان كوخ) 1853 - 1890 - وهي صورة ذاتية للفنان فإنها تصلح ان تكون الانموذج الانطباعي المتحرك الذي اقتنص عبرها الفنان حركة الريح وتغيير الأضواء، وسقوط هذه الأضواء على الوجه والملابس.
اما الانطباعية الألمانية فقد حملت لغة تعبيرية مباشرة وقاسية، والا لما رأينا عوالم الفنان «فرانز مارك» 1880 - 1916، تأخذ هذا المنحى الصدامي بين الحركة والنور. سيما وان خيوله التي اعجب بها فرسمها في أكثر من عمل، أكدت على ان التكوين في الرسم يرتقي إلى مستوى الانفعال الأقصى عندما يتعلق الامر برسم منظور مغاير لكل ما هو سائد.
لكن المدرسة الإيطالية كانت منذ القرن الخامس عشر تقدّم اللون على الشكل، بل ان اللون يصير هو الموضوع تماماً كما في أعمال الفنان (تيتيان) 1485 - 1576 - و(فير نور) 1528 - 1588. وقد كان هم هؤلاء الربط بين المشاعر والوعي، وقد تأثر العديد من الفنانين الفرنسيين بهذا الاتجاه الإيطالي وها هو (بيار اوغسطين رينوار) 1841 - 1919، في لوحته نزهة في (البولين غاليه) يوزع الإنارات توزيعاً موسيقياً بحيث تتحوّل اللوحة إلى ما يشبه السمفونية الضوئية عبر ملابس الأشخاص المحتشدين على المسطح التصويري الجريء.
لكن الذي سوف يتفوق على الانطباعيين في انطباعاته التصويرية هو حتماً الفنان الفرنسي (كلود مونيه) 1840 - 1926 - ففي لوحته انطباع عن شروق الشمس. سوف يجمع هذا الفنان بين قانون الضربات السريعة والمتناثرة، وبين شفافية الألوان (التكميلية) وهي من مشتقات الأزرق والبنفسجي، وكذلك استعماله للأحمر المفاجيء. فهنا يرتقي (مونيه) إلى مستويات تطريب النظر بمسألة الضوء الصباحي الذي يعكسه شروق الشمس وانعكاسات هذا الشروق على صفحة الماء، انه التأثر العظيم بالفنان (تيتيان) الفينيسي الذي عاش ما بين 1488 - 1576. وبخاصة لوحته التي رسمها عام 1556 والتي حملت اسم (ديانا وكيوبيد)، وهي موجودة حالياً في المتحف الوطني الاسكتلندي. وقد استعمل نظام الضربات اللونية المتقطعة وهناك فنان مبدع آخر هو (الغريكو) 1541 - 1614) والذي نهج هذا الاتجاه.
ولكن هل نستطيع ان نراجع بشيء من الدراسة الواعية لوحات الفنان (دياغو دي سيلفيا فيلاسكس) 1599 - 1660 وبخاصة لوحته التي حملت إسم (لاس مينيناس) التي رسمها عام 1656 حيث يبرز في هذه اللوحة معنى الاضاءة التأثيرية على العناصر فتبدو اللوحة مجموعة التماعات تشخصن الاشكال الإنسانية وتمنحها بعداً نفسياً يثير الحساسية المفرطة.
لقد أس (فيلاسكس) ابعاده التأثيرية، حيث ايقظت رؤاه الضوئية جيلاً جديداً من رسامي القرن التاسع عشر. لكن مجايله (روبنز) 1577 - 1640 سوف يخترع نظرية البقع الضوئية الطرية، مع كرهه للون الأسود، الا أن قتامة بعض الألوان تؤثر وضوحاً على الألوان الفاتحة.
ان أهمية عمل الفنان (سير بيتر بول روبنز) ولوحته (محاكمة باريز) المرسومة سنة 1632 - كونها حالة من حالات التوزيع الهارموني للألوان المنيرة. وهي إذ تمنح الاجساد النسائية شفافية نورانية خاصة فإنها تكشف عن تقديس مفرط للطبيعة المحيطة. علماً ان اللوحة تنتمي اصولياً إلى الكلاسيكية الرمزية الحديثة. لأن الزمن الذي عاش فيه (روبنز) كان يتميّز بقدر من الوعي الفلسفي بالتاريخ. فهو الحاضر المستمر دائماً. والذي على هديه يمكننا تفسير الحاضر..
(يتبع)
عمران القيسي
فنان وناقد