بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 كانون الأول 2019 12:05ص أيام بيروتية (6): الأسطول الروسي يُخرج الجزار من بيروت والأمير يوسف يغرّم أهلها

حجم الخط
 أخذ الجزار ببناء سور المدينة وتحصين أبوابها وأبراجها وأحضر أسلحة مدافع من أرواد وغيرها. وهدّم بيوت الأمراء الشهابيين القريبة من المدينة وأحضر حجارتها لعمارة السور لأن الأمراء نزحوا للجبل عند حضور المراكب.

وكان قد حضر معه الى بيروت تابعه المدعو سليم ومرافقه المدعو أبو الموت عرفه البيارتة بلقب «أبو مُوت». كما حضر معه من المغاربة من بقيت لهم آثار في بيروت نذكر منهم أحمد محمد آغا الجبوري، وحميدي صقر والمعلم زين، وعهد الى أبو موت بأمن محلة المصيطبة وزقاق البلاط. وعيّن الجزار البخاري متسلّماً على المدينة.

لقاء المصيطبة (حي أبو الموت) بين الأمير والجزار

 يذكر عبد الله بن طراد، أن أحمد باشا الجزار سكّر بوابات المدينة وحصّن بيروت. فكاتبه الأمير يوسف عدة مرات كي يخرج منها. وكان الجزار يتذرّع كل مرة بأنه يقوم بتحصينها من ورود الأعداء. فإذا تمّم ذلك، سلّمها للأمير. ودعاه الأمير يوماً للإجتماع به لبحث الأمر فوافق على ذلك.

ونزل الأمير يوسف إلى محلة المصيطبة (وبالذات إلى محلة أبو الموت، وهذا الأخير كان مساعد للجزار وقدم معه عندما قدم إلى بيروت. وقد نسبت المحلة إليه وغدا اسمها محلة يموت) وأرسل بطلب الجزار.

فخرج هذا الأخير لملاقاته متسلّحاً ومعه خيّالة. وقام بصفّ عسكره الأرناؤوط من بوابة يعقوب إلى المصيطبة، إحتياطاً من غدر الأمير. الذي قيل انه كان اتفق مع من كان معه من الرجال على إعطائهم إشارة صفير ، للهجوم على الجزار والقضاء عليه. إلا أنه لما وجد احتياطات الجزار، تراجع عن تنفيذ خطته ولم يصدر الإشارة االتي كان قد اتفق عليها مع رجاله.

وأجتمع الأمير والجزار وتصافحا وتسالما. وزعم الجزار أنه يعمل لتحصين المدينة وتدعيم سورها لرد اعتداءات القراصنة. وقال للأمير «أمهلني أربعين يوماً أسلّمك البلد بعدها». فوافق الأمير على مضض. ورجع الجزار ورجاله إلى البلد، وطلع الأمير ورجاله إلى الجبل. وقيل في حينه أن كل واحد كان محتاطاً وحذراً من غدر الآخر. وكما كان الأمير صاحياً لخيانة الجزار، كان هذا الأخير واعياً لعداء الأمير ورغبته بالتخلّص منه بأية وسيلة.

وصحّ فيهما قول المثل: قال له لاطيلك، قال له صاليلك.

ومضت الأربعون يوماً، ومثلها أمثالها دون طائل.

حصار بيروت أربعة أشهر وقصفها بعشرين ألف كلّة

وضاقت حيلة الأمير يوسف وأهالي الجبل لحاجتهم لجلب الحبوب من بيروت وتعطّلت مواسمهم من بساتين التوت والأبراج والأراضي فاجتمع الأمير بأعيان الجبل واتفقوا على مصالحة ظاهر العمر والتحالف معه لإخراج الجزار من بيروت. واجتمع الحليفان في مقام النبي يونس واتفقا على أن يحضر ظاهر العمر الأسطول لحصار بيروت بحراً وعلى أن يحاصرها الأمير يوسف براً.

وبدأ الأسطول الروسي سنة 1773 بحصار المدينة وإطلاق النار عليها، ويقول عبد الله طراد «بأن عساكر الجزار كانوا ليلاً ونهاراً راكبين الأسوار ووجه البحر وعلى الأخص «ناحية السنطية» وأن المسكوبيين عملوا تلالاً ومتاريس هناك أي عند السنطية وركّبوا مدافع وقاموا بهجمات ليلاً وكانوا كلما خربوا قطعة من السور يقوم الجزار وأولاد البلد بتعميرها وبوضع أمام السور سوراً آخر من صناديق فارغة وبداري مملوءة رملاً.ودام الحصار أربعة أشهر لم يقدروا على أخذ البلدة لأن عساكر الجزار والأهالي صامدين جداً ولم يعوزهم شيئا من جبخانة وذخيرة».

ويقول المستشرق الروسي قسطنطين باسيلي ان الجزار دافع مع عسكره عن بيروت دفاع المستميت «وان فصيلة الانزال الروسية استولت على الحصون ولكن لم تكن هناك وسيلة لاحتلال المدينة بالإنقضاض عليها. فقد كانت كل الأبنية الداخلية قائمة على قناطر متينة للغاية من حيث خاصية الحجر (الرملي) وحتى الشوارع المتعرجة والضيقة المغطاة بقناطر كانت الحامية تختبىء تحتها آمنة من القذائف والقنابل...».

وذكر الأمير حيدر الشهابي في تاريخه أن البيارتة بعد نفاذ المؤن بسبب الحصار أصابهم الجوع حتى أكلوا لحم الخيل والدواب.

وكان الأمير يوسف قد اتفق مع القبطان الروسي على أن يدفع الأمير له ستمائة كيس (يقصد بالكيس ما تسميه العامة كيس الخمسماية لأنه كان يحتوي على خمسمائة قرش أي خمس ليرات ذهبية) مقابل إخراج الجزار من بيروت وتسليمها للأمير.

روى الأمير حيدر بأن المراكب الروسية رمت على بيروت عشرين ألف «كلّة» مدفع بمدة ثمانية أيام ولم يصب عمارتها الضرر الكبير. ثم أخرج الاسطول الروسي مدافعه الى البر ونصبها في ساحة الشهداء الحالية والتي سمّيت في حينه «بسهلة الطوبخانة».

الأمير يوسف يغرّم البيارتة كلهم (كلن يعني كلن)

وبعد نفاذ المؤن أدرك الجزار عظم الأمر فوافق على تسليم المدينة بشرط أن لا يصير ضرر على أهل بيروت بعد رحيله. وأرسل ظاهر العمر رجلا من خواصه يدعى يعقوب الصيقلي فحضر الى بيروت وأخرج الجزار ومن تبعه من أهلها وسار بهم الى عكا وسلّم المدينة للأمير يوسف.

ودخلها الأمير يوسف وأقرباؤه كما دخلها قبطان المسكوب جوني ووضع هذا الأخير عسكراً في القلعة والأبراج ونشروا راياتهم برئاسة اسطفان على أن يبقى فيها لحين تسديد الأمير يوسف ما عليه للأسطول. وقال أحد الشعراء عندها:

  ذهب الجزار عنّا              وجاءنا الكونت جوني

ما خلصنا من سهال           حتى وقعنا في التعنّي

وتسلم الأمير يوسف المدينة وضبط جميع الأسلحة الموجودة بها وغرّم المسلمين من أهلها ستمائة كيس دفعها للروس على حد قول الأمير حيدر الشهابي بينما قال أسد رستم في كتابه «كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى» (ج.3 ص.1659) بأن الأمير يوسف غرّم المسيحيين بنصف ما دفع الى الروس. 

 * مؤرّخ