بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 آذار 2023 01:20ص بيروتيّات (28).. ديب الأنسي الصقعان وسيرة الملك سيف بن ذي يزن (3/7)

وثيقة سيرة فارس اليمن وثيقة سيرة فارس اليمن
حجم الخط
محمد ديب بن اعرابي بن إبراهيم بن حسين الشافعي النقشبندي الشهير لقبهم بالصقعان. عرفنا ذلك من ترجمة الشيخ قاسم أبو الحسن الكستي لسيرة حياة عمر الأنسي ابن ديب.
وقد وقعت بين أيدينا وريقات بخط ديب الأنسي كتبها سنة 1228هـ/ 1813م يتبيّن انها جزء من الحكاية الشعبية المعروفة باسم سيرة الملك سيف بن ذي يزن ملك اليمن، وقدّم لها الأنسي بدعوات (بمثابة فرشة) سنشير إليها بعد ذكر السير الشعبية التي كانت شائعة في بيروت والمدن العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولا يمكن الجزم في سبب كتابة الأنسي لهذا الجزء من السيرة أكان ذلك لنفسه أم كان ينشدها في أماكن خاصة أو عامة؟!

رواية السير الشعبية في المدن العربية
كانت السير الشعبية موضوع اجتماع العامة في المقاهي في المدن العربية لا سيما خلال شهر رمضان المبارك. وكانت هذه السير متنفّس الناس من جهة وإحياء لذكرى جهاد أبطالهم ضد غزوات الأجانب من الأحباش والصليبيين والفرس وغيرهم. وكانت السير الشعبية تُروى في بيروت والقاهرة ودمشق وبغداد وغيرها من المدن الإسلامية. ولا غرابة في اشتهار هذه السير والملاحم في مواجهة الأخطار التي كان يتعرض لها الوطن العربي، فبطولات حمزة البهلوان شملت الساحل الفينيقي من جبيل الى بيروت فحيفا ويافا. وسيرة بني هلال رَوَتْ أخبار الحلف بين العدنانيين والقحطانيين وخروجهم تحت راية الهلال الى شمال أفريقية. فيما رَوَتْ سيرة الأميرة ذات الهمّة حكاية النضال ضد بيزنطة. وصوّرت سيرة الظاهر بيبرس توحيد الكلمة بين بلاد العرب للكفاح ضد الصليبيين. وكانت السير تتضمن أقوالاً حفظتها العامة ورددتها كأمثال منها: «لا يختبئ وراء الحيطان إلّا الجبان». و«قيمة العبد من قيمة سيده». و«الخدمة بالفلوس ما بالدبوس». وقولهم: «ما شربه ولا نزل له على معدة». «هالطين ليس من هالعجين»... الخ...
فرشة (مقدمة) سيرة الظاهر بيبرس
كان راوي السيرة يقدّم لها بفرشة أي مقدمة يذكر الجمهور بما سبق ورواه في الليلة السابقة. في الوقت الذي تركنا فيه تراثنا ومأثوراتنا الشعبية واستوردنا كل ما هو افرنجي سواء كــان «برنجياً» أم لا، وسواء توافق مع تقاليدنا وتراثنا أم لا. في هذا الوقت كان بيار برنار، صاحب دار سندباد في باريس، يعلن منذ سنوات عن مباشرة الدار المذكورة بإصدار جزئين كل سنة من المخطوطة التي عثر عليها في قصر العظم بدمشق تفوق صفحاتها خمسة وثلاثين ألف صفحة والخاصة بسيرة الظاهر بيبرس.
والظاهر هو ركن الدين أبو الفتوح بيبرس البندقداري صاحب الفتوحات والأخبار والآثار. تولّى سلطنة مصر والشام سنة 658 هجرية بعد مقتل السلطان قطز. واصل بيبرس من كازاخستان التي كان يطلق عليها اسم القبجاق. قدم منها مع والد السلطان برقوق. واسمه وفقاً لسوفاجيه من باي وبرس ومعناه الأمير النمر وتلقّب بالملك القاهر ثم الملك الظاهر. وله وقائع هائلة مع التتار والصليبيين. بنى جامعاً في القاهرة في محلة عُرفت بالظاهر تخرّب بعد وفاته ثم استخدمه الفرنسيون كقلعة أثناء الحملة الفرنسية ثم استخدمه الأنكليز كمسلخ للحيوانات الخاصة بالجيش ثم مصنعاً للصابون إلى أن احتمى فيه الناس من الغارات الجوية أثناء العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956م. توفي بيبرس في دمشق وأقيمت حول مرقده المكتبة الظاهرية الشهيرة.
واستمرار سيرة الملك الظاهر وغيرها من السير، بصرف النظر عن اللون بالنسبة لعنترة أو عن أصل الظاهر بيبرس المملوك، تثبت تمسّك الشعب بتراثه، ما أسهم بتوحيد مفاهيم المجتمع وفي تثبيت الانتماء القومي والحضاري الإنساني الذي يجاوز كل الحدود والكيانات المصطنعة ولا يعترف بكافة أشكال التجزئة ولا يصنّف الناس وفق لونهم أو جنسهم أو أصلهم, وأهم ما في السير الشعبية انها لا تُرجع البطولة والانتصارات إلى البطل وحده وإنما ترجع الفضل الى مجموعة من الأبطال الذين يمثلون كافة المناطق العربية كالحجاز والشام والعراق وفلسطين ومصر والسودان. روى والدي رحمه الله ان المرحوم الحاج سليم الحشاش كان أقدر رواة سيرة الظاهر بيبرس في بيروت. فقد كان الحاج سليم يروي السيرة المذكورة غيباً دون الاستعانة بكتاب. كان يرتدي غنبازاً ويضع طربوشاً ويحمل عصا «خيزرانة». وكان من الماهرين في لعبة السيف والترس ويتمتع بقدرة هائلة على التأثير في الجمهور مع سرعة بديهة وقوة إقناع وتعبير ومعرفة بالأسماء والأماكن والوقائع وصفات الأبطال. كان يضخّم صوته إذا حدّث بلسان البطل ويخفضه إذا كان المتحدث جباناً، فيستهوي قلوب سامعيه ويشدّ سمعهم وبصرهم فلا تتحوّل أعينهم عنه لحظة كأنما القوم نيام وما هم بنيام.
كان الحاج سليم يبدأ الفصل اليومي بمقدمة «فرشة» تذكّر بموضوع الفصل الذي سبق أن رواه في الليلة السابقة. من ذلك قوله «يا باسط، يا ودود، يا شديد البطش، يا جبار، يا مغيث أغثنا بالتوبة والمغفرة، يا معين لا تكشف الأسرار. نحكي اليوم عما تقدّم معنا ليلة أمس عن باقي اتمام كمال كلام، عما ترجمنا بين أيادي السادة الكرام، عن العلم الباهر والنجم الزاهر والذيل الطاهر بتوحيد الله الملك الظاهر، الحاكم بالأيام والناصف بالاعدال، من اتسم بخدمته مثل سعد وبقية الرجال، عليهم السلام، أظن هنا أودعنا الكلام...» ثم يبدأ بسرد حوادث الفصل المخصص لتلك الليلة.
فرشة سيرة عنترة بن شداد
كان راوي سيرة عنترة يذكر في حديثه أشعارا منسوبة لعنترة لاقت ترحيبا عند السامعين فحفظوها، مثل قول عنترة:
وسيفي كان في الهيجا طبيبا
يداوي راس من يشكو الصداعا
كما يروي ان قبيلة عنترة تعيب لونه الأسود فيردُّ عليهم:
سيذكرني قومي إذا الخيل أقبلت
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
يعيبون لوني بالسواد جهالة
سواد الليل ما طلع الفجر
فإن كان لوني أسود فخصائلي
بياض ومن كفي يستنزل القطر
ولولا سناني والحسام ولمّتي
لما ذكرت عبس ولا نالها فخر
... ثم يبدأ بسرد حوادث الفصل المخصص لتلك الليلة.
فرشة حكاية ديب الأنسي لسيرة الملك سيف
ذكر ديب الأنسي في أول ورقة من مخطوطة كتبها سنة 1813م تناولت حكاية الملك سيف بطل اليمن «العشرة المسبعات الذي أخذها عن سيدنا الخضر عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأولى الفاتحة سبعا وقل أعوذ برب الناس سبعا وقل أعوذ برب الفلق سبعا وقل هو الله أحد سبعا وقل يا أيها الكافرون سبعا وآية الكرسي سبعا والحمد للّه ولا إله الا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم الخ».
كان فيثاغوراس وتلامذته أول من درس الأرقام اعتقاداً بأن حقائق الأشياء إنما هي في النسب العددية. وجرى تفسير مظاهر الحياة العقلية والاجتماعية على أساس خواص الأرقام. وشاع لدى اليونان والرومان أسلوب العراقيين القدماء باستعمال اصطلاحات رقمية ناتجة عن جمع القيمة العددية للحروف التي تؤلف الكلمات. وركّبوا معدلات بين الكلمات والجمل. وساد الاعتقاد لدى الشعوب السامية وغيرها بقدسية بعض الأرقام ومنها العدد سبعة.
حاول البعض تفسير سرّ الرقم سبعة على أنه أحد أسرار القرآن مستبعداً أن يكون مرجع التفاؤل بالرقم سبعة مشابهة للحرف (V) التي تبدأ به كلمة النصر الإنكليزية Victory وعدد أحرفها سبعة. ثمة مئات من السبعات منها ما ورد لدى المسلمين في كثير من النصوص والممارسات والشعائر الدينية فعدد كلمات كلّاً من الشهادتين وآيات سورة الفاتحة والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الحجار وغيرها.
ولدى أدباء بيروت وعامتها العديد من السبعات. ذكر الشيخ أحمد البربير في كتابه «الشرح الجلّي على بيتي الموصلي» أن النبـــــــــي (صلى الله عليه وسلم) كانت له سبعة دروع هي: ذات الفضول وذات الوشاح وذات الحواشي وفضة والبتيراء والخرنق والسندية. وفي الحديث أن المؤمن يأكل في معاء واحد والكافر يأكل في سبع أمعاء، وأن الأمعاء السبعة هي: المعدة أولها، وثانيها البواب، وثالثها الصائم، ورابعها الدقيق، وخامسها الأعور وسادسها القولون، وسابعها المستقيم. وقد جمعها بعضهم في قوله:
سبعة أمعاء لكل آدمـــي
فمعدة بوابهـا مع صائم
ثم الدقيق أعور قولونها
والمستقيم مسلك المطاعم
وفي الطريقة الصوفية النقشبندية أن سلوك المريد يتم بتمام الأطوار السبعة، في كل طور يطوي السالك عشرة آلاف حجاب. وأكثر المفسرين أن أهل الكهف كانوا سبعة. وفي المأثورات الشعبية عدة سبعات منها أن سفرات السندباد كانت سبعاً، وأن الشاطر حسن قطع سبع بحور. ويوصون المربوط بالسباحة في عبور سبع موجات. ومن أصابه الفواق عليه شرب سبع غبّات من الماء. والكارات سبعاً والعيوب الشرعية سبعة الخ..
ثم يورد محاولة سيف التخلص من الأحباش فتوجه الى ملك الروم فرفض مساعدته فاتجه الى الحيرة ورضي كسرى بعونه شرط دفع الجزية وقبول زواج الفرس من بنات الغرب وعدم زواج العرب من بنات فارس. وبعد معارك وحروب ومغامرات مع الجن وفك السحر والطلاسم وقتل الجني يتزوج سيف من حبيبته بديعة الجمال ويتزوج شقيقه مساعد من دوات خاتون.

* مؤرخ