16 كانون الثاني 2024 12:00ص الروائي زياد الحمّامي لـ«اللواء»: «كل ما أصبو إليه ككاتب يحمل في قلبه هموم أمّته في هذا الزمن الأغبر.. هو أدب دائم قابل لاجتياز اختبار الزمن»

الروائي زياد الحمّامي الروائي زياد الحمّامي
حجم الخط
إن الكاتب المنشغل بقضية ما، يمتزج بالتفكير معها ويتّحد، ولا يمكن أن ينعزل عنها ويلوذ بالصمت الأعمى، ذلك أنها تهيمن عليه، تقلقه وتستفزّه وتؤلمه، تناديه أن يكتب ما يحسُّ به ويخرجه من كبته المقلق، حيث تصبح رسالته في الحياة، أحيانا تجعله منعزلا ومكتئبا، وفي أشدّ حالات القلق والاكتئاب، ثم ما يلبث أن يتمرد ويقاوم كل أشكال الاستلاب والاستبداد والفساد والظلم والقهر، ولكنه لا ينسى ملابسات قضيته المعقدة المقلقة وتأثيراتها النفسية، وحين ينفجر القلق والسخط في أعماقه المتألمة، يحدث الانقلاب الكبير، حيث يولد الإبداع من رحم المعاناة و الألم.
هكذا ولدت رواية «قطط إسطنبول» 2023م، ولدت بقهرية سردية متشظية من قاع المدينة وعالم المنفيين المهمّشين في أسوأ أحياء مدينة إسطنبول، إذ إن قضية اللجوء القسري والشتات، العنصرية والكراهية، البحث عن الهوية المفقودة تحت الدمار، وتأثيرات الحرب الظالمة، وكذلك الحب والشغف والحنين والأشواق، تلك المؤثرات الصادمة ما بعد الربيع/ الخريف العربي والسنوات العجاف التي ما زالت مؤلمة دامية، هي هاجسه اليومي ككاتب وإنسان يرفض الخنوع والاستسلام والمذلّة والتهميش، كاتب متّحد مع قضية يؤمن بها روحيا وفكريا وجسديا، حتى بعد صدور ثلاثية الحرب: «الخاتم الأعظم» 2015م، التي رسمت سيناريوهات الصراع الأزلي والحرب المتجددة دائما، منذ أن صكت ملكة تدمر «زنوبيا»، عملتها الذهبية الخاصة، وكانت الحرب آنذاك من أجل السيطرة والهيمنة من قبل الإمبراطورية الرومانية، وباختصار إن العنوان «الخاتم الأعظم»، يحمل رموزا ليست عصيّة على التفسير، وقد شرحها النقّاد بكل دقّة، ونال على دراستها أكاديميا عدد من الأساتذة الجامعيين شهادات الدكتوراه والماستر، أما «قيامة البتول الأخيرة - الأناشيد السرية»، فقد فضحت وعرَّت دور الماسونية فيما يجري في بلادنا العربية، والروائي زياد كمال الحمّامي من مواليد حلب سوريا عام ١٩٥٩ وهو عضو اتحاد الكتٌاب العرب. معه أجريت هذا الحوار:
{ هل تمارس وجودية روائية لمحو القلق أو تحديده وإبرازه بشكل سردي مشهدي مقلق من حيث قوة المعاناة الإنسانية؟
- هذه القضايا الوجودية ما زلت أعاني منها ككاتب، حتى بعد صدور رواية «قطط إسطنبول» 2023م، بعد مرحلة مخاض عسير مؤلم، وقلق وسخط شديدين، وبعد معاناة حقيقية وواقعية، هكذا، يبدو أنَّ القلق والسخط والمعاناة والقهر والتمرّد، كل ذلك يتّحد مع ذاكرة الوعي، واللاوعي في القضايا الوجودية المصيرية، والتي يمكن الاعتماد عليهما أثناء الكتابة، وهذه الذاكرة الحيّة ليست صورا مجرّدة عابرة، وليست مذكرات تختفي وتموت، بل هي عاطفة إنسانية خالدة، وهكذا نجد أن لا شيء يأتي من العدم، وهنا أعترف أن هذا الوعي، وليس الذاكرة، يفنى ويذوب مع النص إبداعيا، هنا فقط يموت سريريا بشكل إبداعي، ولكن في اللحظة التي يبدأ فيها الكاتب بالكتابة، تنبعث للحياة بصورة مغايرة مختلفة، حيث تصبح روحه وذاكرته وشغفه للانعتاق والتحرر جزءا من حروف وصور وأحاسيس وأسرار البوح والكتابة.
{ ثلاثية روائية حصرتها في أمكنة تنتمي لتاريخنا، ما الذي تريد قوله روائيا ومن خلال ما تكتبه؟ أم هي الكتابة خارج الحدود؟
- في ثلاثية الحرب السورية التي بدأت مع صدور روايتي «الخاتم الأعظم» 2015م، ثم رواية «قيامة البتول الأخيرة - الأناشيد السرية» 2018م، ومع صدور رواية «قطط إسطنبول» 2023م، التي تجاوز السرد فيها حدود الوطن والحواجز الجغرافية والقيود الثقافية، وهي - كما أظن - رواية تغرّد خارج السرب وتمثل صرخة تمرّد وتحدٍّ ضد وقائع استلابية وقوانين استبدادية مذلّة، يعاني منها كل إنسان في العالم تعرّضت بلاده لحروب مؤلمة، فما يحدث في سورية يماثله ما يحدث في اليمن والعراق ولبنان والسودان وغزة، وكذلك في كثير من البلاد في أفريقيا والشيشان وناغورني كراباخ وغيرها، ومن هنا أستطيع القول إن ثيمة رواياتي تتجاوز الحدود، وتحمل مناعة مكتسبة تلقائيا، وتعاطفا إنسانيا، وهذا أحد أسباب انتشارها عربيا، حيث يجول السرد الأمكنة المختلفة والمتصارعة، وكذلك المدن والقرى والبلدان ساعيا لتعرية مآسي الحروب والفوضى غير الأخلاقية والفساد والوحشية والعنصرية، كل ذلك يتمخض بمقاومة جحافل الظلم بالإبداع، حيث تنحاز الثلاثية إلى قضايا الإنسان أينما كان على الأرض، وبشكل خاص في الدفاع عن حقوق المرأة والطفولة، إن الذي حدث في سورية قد حدث سابقا في أمكنة أخرى، مثلا في لبنان، وفي غيره من العالم، ولهذا نجد فصلا كاملا من فصول رواية الخاتم الأعظم قد سرد في طرابلس لبنان، وفي أماكن الصراع المختلفة داخليا، وفي روايتي «نعش واحد وملايين الأموات» 2012م، نجد فصلا كاملا أيضا في مصر، وفي رواية «قطط إسطنبول» تتجسّد المدينة وقططها كثيمة للنص، وهكذا، حيث نجد تأثير الأمكنة والحروب ومآسي اللجوء وصور الفساد والظلم، وكذلك الشغف والحب، وتأثير كل ذلك في حياة شخوص الروايات عربيا، وليس في حيّز قطري ضيق، وما دامت ثيمات الروايات التي أقدّمها إنسانية غير إيديولوجية، فهي قادرة على الصمود في وجه النسيان والتجاهل والتهميش، ولهذا، فهي تنتشر بلا قيود على امتداد الوطن العربي.
{ هل تعتمد على الرواية في المحافظة على الذاكرة العربية وما تحتويه من أحداث؟ فهل «قطط اسطنبول» هي اجتياز اختبار الزمن؟
- كل ما أصبو إليه ككاتب يحمل في قلبه هموم أمته في هذا الزمن الأغبر، هو أدب دائم قابل لاجتياز اختبار الزمن والتأثير في القرّاء عبر الأجيال والارتقاء إلى منصة الذاكرة الجمعية الحيّة التي لا تموت، ولا أكترث بالكتابة قصيرة الأمد، ولا أسعى النجاح المؤقت، بل إنني أعشق المشاريع الكبرى التي تقدّم نماذج قد تنتشر عالميا، مهما طال الزمن، فالكتابة برأيي ليست مادة إعلانية أو شهوة عابرة، وليست صورة «فوتوغرافية» جميلة، أو تسلية أو لعبة رياضية «إلكترونية» تنتهي مع انتهاء الوقت المحدد للعبة، وهذا ما أؤكد عليه دائما، وأعترف أنني أميل ككاتب إلى الروايات التي تصمد أمام اختبار الزمن، وأعوّل على القرّاء والأدباء والنقاد الشباب، فهم من سيحمل الراية، وهم شعاع المستقبل للأدب العربي الجديد، وبرأيي حين يعبّر الكاتب عن قضيته إنسانيا، وعن إنسانية الإنسان أينما كان في العالم، وقد انتشر عبر لغته عربيا كمثال، فهو كاتب كوني، وقد وصل إلى العالمية، وهكذا أجد أن مفتاح العالمية هو المحلية المبدعة القادرة على الصمود في مخابر اجتياز الزمن، ومن هذا المنطلق، لا أخفي سعادتي وأنا أقرأ كثيرا عما يكتبه النقاد عن تجربتي الأدبية المتواضعة التي بدأت في الثمانينيات، ولم تزل المجموعات القصصية الأولى التي أصدرتها تحوز على دراسات النقاد بعد مرور 30 عاما على صدورها، ويهتم بها قرّاء ونقاد لم يكونوا قد ولدوا يوم صدورها.