بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 آذار 2023 12:00ص محمود درويش المقاوم

محمود درويش محمود درويش
حجم الخط
في العام الجامعي 1974-1975، كنت قد سجلت في قسم الدراسات العليا بكلية الآداب، في الجامعة اللبنانية ببيروت، موضوعا لنيل شهادة الماجستير بعنوان: «الموت والقيامة في شعر المقاومة».
كانت بيروت آنذاك لا تزال موحدة، لا غربية ولا شرقية. وكان المشرف على رسالتي: د. إنطوان غطاس كرم، رئيس دائرة اللغة العربية في الجامعة الأميركية. ومنذ ذلك التاريخ، أخذت أهتم أكاديميا بشعر المقاومة، بعدما كنت أهتم به عاطفيا وفنيا، وخصوصا منه شعر المقاومة الفلسطينية. فقد رحلت المقاومة الفلسطينية من عمان إلى بيروت، منذ معركة الكرامة وأيلول الأسود العام 1970. فلبست العاصمة بيروت مذ ذاك الكاكي، وبدأت زخات الرصاص تنهمر في سمائها، فتحلّ محل زخات المطر، وبدأ النقاش يدور في الأوساط، حول التمايز بين المعارضة والمقاومة، وخصوصا، حول التمايز بين الشعر المعارض، والشعر المقاوم، كان ذلك يستحوذ على جدالية عظيمة، بعد ظهور الحركة الوطنية اللبنانية، وإنتقال أحزابها، من حد المعارضة إلى حد المقاومة.
كان الشاعر محمود درويش، في الطبقة السادسة من البناية المعروفة بـ«مركز أبحاث فلسطيني»، في محلة السادات. وأردت أن ألتقيه، بعدما كنت مضيت في التقميش لرسالتي عاما أو بعض عام، وتعوّدت زيارة مكتبة مركز الأبحاث، في الطبقة الرابعة. كانت الحرب الأهلية قد إندلعت في بيروت في العاشر من نيسان 1975 بشرارة من بوسطة عين الرمانة والشياح، وبشراسة عليها، وصارت رأس بيروت محفوفة بالمخاطر.
تجرّأت على الشاعر محمود درويش، وصعدت إلى الطبقة السادسة من المبنى، طلبت موعدا منه عبر السكرتيرية، لا يتعارض مع اليوم الذي أمضيه في المكتبة لتقميش الصحف، فتم لي ذلك. وقد أتيت لتلبيته بناء للموعد، في اليوم المحدد، وفي الساعة المحددة: الحادية عشرة صباحا تماما.
كان محمود درويش إلى مكتبه، وبجانبه مشجب، علق عليه الجاكيتة الكحلية، بدا لي بالقميص الأبيض والكرافات الكحلية الغامقة، متناسقا مع موظفي المركز، الذين كانوا يظهرون بألبسة شبه موحدة تقريبا: الأبيض و الكحلي الغامق.
كنت مرتبكا في بداية اللقاء. هناك أسباب كثيرة تفسر إرتباكي في البرهة الأولى من لقائي مع الشاعر محمود درويش، في مكتبه داخل المركز. لكن الإرتباك لم يدم طويلا، تجاوزته بسرعة، لأنه لم يكن ناتجا عن خوف أمني. فقد كنت تجاوزت ذلك بعد زياراتي العديدة والمتكررة.
ذكرت له توددا، أني شغوف بشعره، وأني أتابعه على صفحات الجرائد والمجلات. وأني أيضا إستمعت له في كلية الآداب بحلب، على مدرج الجاحظ. ثم أني حضرت ندوته الشعرية في قاعة المحاضرات في كلية الحقوق في محلة الصنائع ببيروت. وذكرت له علامة فارقة: ذكّرته بإنتفاضته في وجه الجمهور الذي طالبه يوم ذاك بقصيدته الشهيرة: «سجل أنا عربي».
أريد أن أتوقف فقط من «ساعتي» اليتيمة الوحيدة، التي أمضيتها مع محمود درويش في حياتي كلها، لأبيّن ردّه على هذا الموضوع.
قال لي محمود درويش: إن القصيدة قيلت لمواجهة الإسرائيلي، يوم كنت أحمل الهوية الإسرائيلية. وكنت في صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي /حزب تودة. كنت معارضا كناشط شيوعي، لسياسية الحكومة الإسرائيلية. كان ذلك وحده متاحا لي في فلسطين التاريخية المحتلة. غير أني منذ برهة هذه القصيدة، صرت أفكر بالخروج من عالم الدولة الإسرائيلية، ومن تحت علمها، إلى فضاء مقاومتها، لا إلى فضاء معارضة سياستها. كنت قد بلغت سن النضج، ولم أعد أكتفي بإشباعي بالمعارضة. كنت بدأت يوم ذاك أفكر بالمقاومة، وأن أمتلئ بها، تعويضا عن جميع السنوات الماضية، منذ برهة الجلاء عن قريتي البروة، إلى الجنوب اللبناني، عام النكبة 1948. ولو انّا عدنا عائلتي وأنا بعد ذلك إلى فلسطين، وكان عمري في حدود العشر سنوات.
أتيحت لي هذه الفرصة، حينما نظم الحزب الشيوعي الإسرائيلي وفده إلى الخارج للمشاركة في واحد من المؤتمرات الخارجية، التي كانت تتداعى إليها الأحزاب اليسارية في العالم، وكذلك الأحزاب الشيوعية. إجتهدت كثيرا حتى صرت في عداد الوفد المشارك في أحد المؤتمرات. كنت أبيت النيّة في الخروج المطلق من أسوار الدولة الإسرائيلية، لمقاومتها، لأكون بين صفوف من يقاومها. وكانت عيني على منظمة التحرير الفلسطينية التي إستوطنت بيروت، بعد عمان.
بعد إنتهاء المشاركة في ختام أعمال المؤتمر، عاد أعضاء وفد الحزب الشيوعي الإسرائيلي جميعا، إلى إسرائيل. أما أنا فتأخّرت عنهم. وبعد تأكّدي من سفر الجميع، نظمت وجهة سفري إلى أرض الكنانة بمصر العربية، التي كانت قد إستضافت أول مؤتمر للملوك والرؤساء العرب، بعد أيلول الأسود، العام 1970.
استقبلت في مطار القاهرة استقبال المكرّمين، كما لم تجرِ العادة لشاعر. وذهبت من فوري، إلى مبنى التلفزيون. وعلى شاشته التي قدّمها لي، أعلنت موقفي المقاوم، لا المعارض للدولة الإسرائيلية. شرحت ذلك في بيان، كنت قد أعددته مسبقا، وأنا أحضر أعمال المؤتمر.
دلّني محمود درويش على ما كتبه عن ذلك، في الإصدارات المدوّنة لتحوّله من معارض إلى مقاوم، في رحلته التاريخية إلى القاهرة. هذه الرحلة التي أسّست له كشاعر مقاومة، لا كشاعر معارضة.
ذكر لي محمود درويش: أنه أراد فيما بعد، أن ينضم إلى صفوف المقاومة، فغادر القاهرة إلى بيروت، حيث هو في مكتبه، مقاوما، لا معارضا. شعر أن بيئة القاهرة، ما كانت تحتمل المقاومة، فوجد فرصته هذه، في بيروت.
ذكر لي درويش، أن قصيدة «سجل أنا عربي»، نظمت ترويجا وتأييدا للحزب الشيوعي الإسرائيلي المعارض، والذي كان منضويا في صفوفه. أراد أن يقول: هذا ما كان متاحا له هناك. ولأنه يريد أن يكون مقاوما لا معارضا، إختار فضاء بيروت، لا فضاء القاهرة، إمعانا في طلب المقاومة، لا المعارضة. أكد لي درويش، أنه يريد أن يذهب أبعد من المقاومة الفلسطينية في شعره، ليكون مقاوما عالميا، مقاوما إنسانيا على غرار الشعراء المقاومين في العالم. فالعدو الذي يحتل الأرض، والذي يحتل الإرادة والذي يحتل السلطة، إنما هو واحد، ولهذا أراد وحدة المقاومة في شعره، بدل المعارضات المشتتة لشتات الأنظمة.
رحل الشاعر محمود درويش، بعد نصف قرن من الشعر، وظل السؤال، يطرح في الصالات، وفي الشاشات، وعلى موجات الأثير، وعلى صفحات الجرائد والمجلات والكتب والقراطيس، عن أسباب وأسرار تحولات محمود درويش، الذي وسمته المقاومة الفلسطينية بميسمها ومنحته بعد رحيله، وسامها. وما إذا كان الشاعر المعارض في دولة عدوه، أو دولة البر العربي؟ أم أنه كان الشاعر المقاوم الفلسطيني؟ أم الشاعر الأممي؟ أم الشاعر العالمي؟ أو كان شاعر السلطة الفلسطينية؟... أو كان الشاعر الفلسطيني المعارض للسلطة الفلسطينية؟!
سؤال عظيم.. يستحق منا حقا، المزيد من النقاش العميق، لا المزيد من المزايدات القريبة و الرخيصة...

أستاذ في الجامعة اللبنانية