نذهب بصحبة الأطفال إلى الطبيعة، حتى يلمسوا التراب والعشب والحجر بأيديهم، ويغمسوا أيديهم وأرجلهم في الماء، حتى يروا الأشجار ومجتمع الغابة والنهر وشاطئ البحر، والموجة القادمة من بعيد تضرب بعنادها الصخر، حتى يرى الأطفال خيوط الشمس وسطوعها وإشراقها وغروبها.
نذهب بأطفالنا إلى الحقول والتلال والوديان، حتى يشمّوا بأنفسهم رائحة الورد والزهر ويغسلوا عيونهم بماء الجدول الرقراق، ويسيروا تحت المطر والريح والشمس، ولو لسويعات.
نذهب بأطفالنا إلى الكروم والجنائن الغنّاء، ليقطفوا بعض الثمار، ليذوقوا طعمها ويتحققوا من نكهتها ويعرفوا الحلو من الحامض والمرّ.
لا نرى أجدى من الطبيعة، ولا أجدر منها، في إعطاء درس للأطفال، ولهذا نتوجه بهم إلى المروج حتى يلمسوا العشب والندى، وحتى يداعبوا النسيمات البليلة والعليلة، وحتى يجروا بأثمالهم مع الريح، تسابق أرجلهم سيقان القصب في الأرواض والأحواض، فيمتطون قصبة ثخينة أو رفيعة، إذا ما دخلوا في السباق.
الطبيعة روضة من رياض الأطفال، تقف النعاج بينهم وتثغو إليهم. ويتعالى المهر والحصان، يتعلمون الصهيل إذا ما دخلوا إلى الياخور. يأخذون درسا جميلا في تموجات الصوت: الهمهمة والغمغمة والهمدرة، والصهيل الذي يجفل. وإذا ما زجروا الطير في وكناتها، يتعلّمون منها السقسقة والشقشقة وهديل اليمام والحمام.
في الطبيعة، نعلّم الصغار الدرس بالحواس الخمس. تتفتّح زهرتهم على ما حولها، وتميل إلى ما يعجبها: الألوان والروائح والطعم والملمس والصوت الآتي من قُرب ومن بُعد.
كل شيء في الطبيعة، بين أيدي الصبية الصغار، له معنى. فكتاب الطبيعة، يحوي كل الأبجدية التي عليها. والصبية الصغار، يذهبون فورا إلى المعنى، دون أخطاء في الأمالي، ودون نقص في المعاني.
الطبيعة بين يدي الأطفال كاملة المعنى.
الطبيعة ثنائية اللغة. يخرج إليها الكبار أيضا، فيرونها تمتد أمامهم. وكلما ساروا، تراها تمتد لهم. لا تحيط أقدامهم بجهاتها، لأن بساطها لا يقف عند حد.
ترى الدروب لا تنتهي، فكلما إنتهت درب، إمتدت لك درب. وأما الجهات فهي على سعة بنا: بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب. يطوف علينا النهر من منبعه حتى المصب، وهو يعلّمنا الفرح والغضب. مرة يقهقه، ومرة يهدر، ثم يذوب أمام أعيننا في البحر، بكل ما عنده، وبكل ما يحمل، لأن البحر مخزنه.
يخرج الكبار إلى الطبيعة، ليتعلّموا كيف تتناغم الريح القوية مع المطر، حين تتثاوب السماء.
يرون غزوة الريح الفجائية، تهتز لها الغابة، تخلع لها معطفها، وتكسر لها قلبها، ثم ترين لمرورها المنبسط، لمرورها المنقبض، ولا شيء يعكّر صفو أماسي أشجارها.
سيل عظيم من الأعالي، يهبط نحونا، نرى بأعيننا، كيف يسوق أمامه التربة والحجارة والصخر. تقول الطبيعة: أفسحوا له، حيث يريد أن يرتاح، وينزل عن منكبيه هواجسه.
وأما البحر الهادر والمحيط الغاضب، فيبدو لنا عكر المزاج، ثم نراه بعد أيام وقد دخلت السكينة قلبه.
ما هذه الأرض التي لا تتعب من أثقالها، الجبال الضخام على صدرها، وهي تحلم برقعة شمس، وبغيمة عابرة، وبريح عليلة أو صرصر لا فرق.
تعدّ النجوم فوقها كل ليلة، ثم تعيد عدها، إذا ما بدا من جديد فرقد.
الطبيعة في عيون الكبار، لغة البكم والخرس. يرونها كيف تنتصر على نفسها في كل وقت، فلا شيء يعلّها، ولا شيء يتعبها، تغضب مرة، ولكن سرعان ما تصفو، ثم تعود بعد لأي تتناغم.
سمعت الطبيعة مرة تقول لنا على لسان الشاعر الدمشقي فخري بك البارودي:
«تعلم يا فتى فإن الجهل عار»!
أستاذ في الجامعة اللبنانية