ميخائيل ميلشتاين
إن الجدل العاصف الدائر في الأسابيع الأخيرة حول احتمال تحوُّل إسرائيل إلى «دولة تابعة» للولايات المتحدة ينسينا أن التاريخ مليء بتدخلات وقيود فرضتها واشنطن على إسرائيل. من بين هذه التدخلات: الأمر الأميركي بالانسحاب من قطاع غزة وسيناء بعد حرب السويس (1956)؛ الضغط لإنهاء حرب «يوم الغفران» (1973)؛ حرب لبنان الأولى (1982)؛ منع الرد الإسرائيلي على العراق في أثناء حرب الخليج الأولى (1991)؛ إلزام إسرائيل إجراء انتخابات في الأراضي الفلسطينية والقدس الشرقية، بمشاركة حركة «حماس»، في سنة 2006؛ وأيضاً مواقف متكررة لوقف البناء في المستوطنات ومنع الضم في الضفة الغربية – بما في ذلك خلال عهد الرئيس دونالد ترامب في سنة 2020 ومؤخراً أيضاً.
ومع ذلك، يتميز التدخل الأميركي الحالي بطابع غير مسبوق، إذ لم تعُد واشنطن تعمل فقط كـ»شرطي مرور» يبدّل الضوء الأحمر بالأخضر أمام إسرائيل، بل أصبحت حاضرةً بعمق في صوغ الواقع داخل الساحة الفلسطينية. حتى الآن، يجري ذلك من خلال الإدارة عن بُعد، بواسطة طاقم صغير (مركز التنسيق المدني - العسكري الذي أقيم في كريات غات)، إلّا إن الهدف الطَموح هو استبدال الهيمنة الإسرائيلية في غزة، بالتدريج، في البداية في المجال المدني، ولاحقاً، في مجالات أُخرى، بما فيها المجال الأمني.
لقد وجدت إسرائيل نفسها في هذا الوضع المعقد نتيجة إصرارها على عدم مناقشة «اليوم التالي»، وعلى التمسك بالوهم القائل إن «ترامب سيدعمنا في كل سيناريو»، واعتمادها على القوة العسكرية، كبوصلة استراتيجية وحيدة. بلغت هذه السياسة ذروتها في الضربة ضد قطر، والتي كانت، بحسب شهادات مسؤولين في الإدارة الأميركية، نقطة التحول التي أنهت الحرب، لكن بعكس ما خطّط له نتنياهو، فرضت واشنطن وقف القتال، خوفاً من فقدان السيطرة على القرار الإسرائيلي، بينما عزز القطريون مكانتهم الدولية.
يرفض كثيرون في إسرائيل الاعتراف بطريقة انتهاء الحرب، أو فهم كيفية إدارة واشنطن للأحداث. لقد صرّح ترامب وفانس وويتكوف وكوشنر، وبوضوح، في مقابلاتهم وخطاباتهم خلال الأسبوعين الماضيين، بأن الولايات المتحدة فرضت على إسرائيل إنهاء الحرب، وتطالبها بالحصول على موافقتها، قبل اتخاذ أي خطوة عسكرية، أو سياسية، في القطاع، وهي التي تحدد ما إذا كان وقف إطلاق النار لا يزال قائماً. وغالباً ما تُظهر واشنطن مرونةً تجاه بعض الخروقات، مثل الحوادث التي قُتل فيها ثلاثة جنود إسرائيليين، أو التأخير في إعادة جثامين الرهائن.
ولتحلية «الجرعة المُرة» ، جرى في إسرائيل بناء رواية بديلة تستحق التأمل والنقد، مفادها بأن وقف إطلاق النار لم يُفرض علينا، وأن التنسيق مع واشنطن تام، وأن الاتفاق تحقّق بفضل «الضربة الناجحة» لقطر التي ضغطت على «حماس» من أجل التنازل، وأن الضغط العسكري أثبت فعاليته.
قول الحقيقة حتى عندما تكون معقدة
ومثلما هي الحال دائماً، من الأفضل أن ننظر في المرآة بصراحة، ونقول الحقيقة حتى لو كانت معقدة: إن إسرائيل ليست دولة تابعة للولايات المتحدة، والتحالف الاستراتيجي بين الطرفين لا يزال قائماً (تجلّى هذا بوضوح في الحرب الأخيرة ضد إيران)، ومع ذلك، فإن هامش حرية الحركة الإسرائيلي أصبح أضيق مما كان عليه في الماضي، فإسرائيل لم تعُد قادرة على العودة إلى القتال «متى شاءت»، بينما ترامب هو الطرف المهيمِن على القرارات المتعلقة بقطاع غزة.
إلى جانب ذلك، فإن وقف إطلاق النار هش، ومن المرجح أن يظل مصحوباً باحتكاكات بين الطرفين، لكن إذا أصرّ ترامب على استمراره، فمن المحتمل أن يتبلور سيناريو يقوم على أسس عديدة: إنشاء إدارة فلسطينية بديلة من حركة «حماس»، والتوصل إلى تسوية، بموجبها، تتخلى «حماس» عن جزء من سلاحها، مع بقائها كقوة تأثير غير رسمية، على غرار حزب الله في لبنان؛ وجود دولي رمزي يركز على الرقابة والإشراف، أمّا بالنسبة إلى الانسحاب الإسرائيلي الكامل وإعادة إعمار القطاع، فسيُحسمان، وفقاً لإرادة ترامب وتفسيره.
في ظل هذا الواقع الجديد، على إسرائيل التركيز على أهداف واقعية قابلة للتحقيق في المدى المنظور، وهي: استعادة جميع الرهائن (الأحياء والقتلى).
الحفاظ على حرية العمل ضد أي تهديد ينشأ في القطاع، على غرار «النموذج اللبناني» الذي طُبّق منذ وقف إطلاق النار في الشمال.
إنشاء آلية رقابة على إدخال المساعدات الإنسانية وتوزيعها، ولاحقاً، على عمليات إعادة الإعمار، لضمان عدم تسرُّبها إلى «حماس».
الحد من التدخل القطري والتركي في غزة، وتشجيع مشاركة السعودية والإمارات العربية المتحدة.
الحفاظ على حق النقض (الفيتو) الإسرائيلي بشأن تركيبة الإدارة المستقبلية في القطاع.
المطالبة بنظام رقابة فعّال، بقيادة أميركية، على ممر «فيلادلفيا» ومعبر رفح لمنع تهريب الأسلحة إلى غزة.
ولتحقيق هذه الأهداف، يجب أن ينشأ قدر عالٍ من الثقة المتبادلة بين إسرائيل وواشنطن، وكذلك مع بقية الأطراف الإقليمية والدولية المشارِكة في رسم مستقبل غزة، بما في ذلك الدول العربية. كذلك يُنصح بأن تُطور إسرائيل لغة سياسية حقيقية إلى جانب لغة التهديد بالقوة العسكرية، وهذا يتطلب، على سبيل المثال، حواراً بشأن دور السلطة الفلسطينية في «اليوم التالي للحرب» في القطاع.
كذلك، ينبغي لإسرائيل التوقف عن تغذية الأوهام التي تُشتت الانتباه وتهدر الموارد، مثل فكرة «غزّتين» (إحداهما مزدهرة، والأُخرى مدمرة)، أو الوهم بأن العشائر يمكن أن تشكل بديلاً من «حماس»، أو الأمل بضم الضفة الغربية، الأمر الذي رفضه ترامب بحزم في السابق.
فالجمود العقائدي، والتمسك بالأوهام، والاستهانة بالعلاقات مع العالم، حسبما ظهر خلال الحرب مراراً، لا يسبب أضراراً جسيمة فقط، بل يمنع إسرائيل من تحقيق أهدافها الاستراتيجية، ويفرض عليها قواعد لعبة تتعارض مع مصالحها.
المصدر: يديعوت أحرونوت
اعداد: مؤسسة الدراسات الفلسطينية